الشاعر الكردي يوسف برازي “بي بهار Bêbuhar” كما عرفته
(1931-2009)م.
دلاور زنكي
منذ يفعي وصبائي وفتوّتي الأولى ظل سؤال غريب يراودني، ويخامر إحساسي- وما زال ملحاً في مراودتي حتى الآن- عما إذا كنت قد خلقت مفطوراً على الشغف بالشعر بكل صنوفه وضروبه وبالأدب بكل أجناسه وألوانه، وعلى أن تكون الآداب برمتها ضالتي التي أنشدها وأن تكون مطمح آمالي وغاية رجائي. وإلا فما معنى هذا الكلف الجلل، والتعلق الطاغي بالأدب وأهله، وبالشعر وأربابه؟ ولقد دفعني هذا العشق وهذا النزوع إلى معرفة شعراء من الفطاحل الكبار من أمثال الشاعرين اللامعين: جكرخوين وتيريز وسواهما ومخالطتهم والإصغاء إليهم ومحاورتهم، وفي تلك الأعوام الخوالي حتى قبيل عام 1984م لم أكن قد التقيت بالشاعر النابه: يوسف برازي (بي بهار Bêbuhar) ولم أكن قد قرأت شيئاً من شعره لأن أعماله لم تكن قد صدرت حتى ذلك التاريخ إلا أن ذاكرتي كانت حافلة ببعض قصائده التي وردت على أفواه المنشدين والمطربين المبدعين المجددين في الألحان الكردية وهم أصحاب المدرسة الحديثة في أداء الأغنية مثل الفنان محمود عزيز شاكر وسعيد كَاباري و “البلبل الحزين” محمد شيخو…. ولم أعرف هذا الشاعر قريباً عن كثب إلا في دمشق في عام 1984م حين جاءني زائراً في صحبة المطرب محمد شيخو وفي تلك الفترة كان الشاعر: تيريز يقيم في منزلي ضيفاً. فلما قُرِعَ الباب هرعت لاستقبال الطارقين ولما فتحت الباب برز أمامي الصديق الفنان محمد شيخو يرافقه شخص لم يسبق لي أن وقعت عليه عيناي. كان امرأٌ جَسِداً قوي البنية لا تقتحمه العين على محّياه بشاشه وعلى شفتيه ابتسامة يرتدي ملابس قشيبة، على غاية من الأناقة فرحبت بهما ترحيباً عظيماً وفرحت بمقدم الصديق “محمد شيخو” وبلغت سعادتي ذروتها حين علمت أن مرافقه ليس سوى الشاعر يوسف برازي الذي كنت متلهفاً إلى لقائه… وكنت شديد ألتوق إلى رؤيته والإصغاء إلى ترانيمه الشعرية.، إلى هذه الشخصية الفذة التي كنت أتصورها شخصية فريدة أقرب إلى الأسطورة… . لقد شعرت أنني أحلق في سماء المسرات والفرح والسعادة… فها هي ذى تسعى إليّ على قدميها مسربلة بمنديل من الحرير على طبق من ذهب غنيمة باردة دون أشد إليها الرحال وأتجشم وعثاء الإسفار. فشكرت الأقدار التي أتاحت لي هذه السانحة وحققت لي هذه الأمنية الغالية.
وبعد أن استتب بنا الجلوس بادر إلى القول في رقة وابتسامة جذلى تغمر محياه:
-لقد جئت للغرض الذي جاء من أجله شاعرنا تيريز، جئت كي تعد وتهيء ديواني المخطوط للطباعة.
مكث الشاعر: يوسف برازي (بي بهار Bêbuhar) في ضيافتي زهاء خمسة وعشرين يوماً أو فوق ذلك بقليل، استطعت في خلالها نسخ مخطوطه على الآلة الكاتبة بالحروف اللاتينية وقد كان في الأصل مكتوباً بالأحرف العربية. وبعد أن فرغت من العمل الذي لم يكن له من بد طلب إلىّ أن أبّج لديوانه “الزنزانة Zindan ” مقدمة فلبيت طلبه وأنجزت له ما أراد. أما هو فقد أهدى إليّ أجمل قصيدة في ديوانه.
ومنذ تلك الأيام توطدت بيننا صداقة حقيقية وترسخت روح الإخاء وتوثقت يوماً بعد يوم وشائج المودة والإخلاص والوفاء، وتحاورنا في الشؤون الثقافية وسعينا بكل جهودنا إلى الحفاظ على القصيدة الكردية الموزونة وحمايتها من العبث والتشويه. ولقد ظل ذلك كله دأبنا حتى آخر يوم من رحيله.
كان “بي بهار Bêbuhar” كما عرفته محباً لوطنه وقومه جريئاً، سريع البداهة عذب الحديث، محباً للطرفة والفكاهة، جم التواضع، سخياً، داعياً إلى الخير. مخلصاً لخلانه وأخدانه وفياً لأصدقائه. وكان إلى ذلك شديد المراس قوي الشكيمة، أبياً شهماً حين يكون الحق إلى جانبه. شامخ الهامة عند الملمات والشدائد… وكان إلى جانب ملكته الشعرية، موسيقياً بارعاً يعزف على أكثر من آلة موسيقية، وكان مطرباً طليّ الصوت، وملحناً… مطبوعاً على الأداء الممتع في جميع ملكاته، وكان صاحب أذن موسيقية مرهفة، مغرماً بالموسيقى إلى حدود العشق. وكان من دأبه أن يمنح قصائده وألحانه لمطربي ومغنيي ذلك العهد وفي مقدمتهم الفنان: محمود عزيز شاكر، ثم الفنان سعيد كاباري، ثم الفنان محمد شيخو وآخرهم زبير صالح وغيره. ومما لا ريب فيه أنّ كثيراً من ألحانه نُهبت وانتحلها بعض المطربين والمغنين في تلك الحقبة وعزوها إلى أنفسهم إذ لم يكن يوجد آنذاك ملمّون أو ذوو خبرة ومراس بالتلحين وأساليبه. في تلك الحقبة التي كانت الأغنية الكردية قد فقدت أصالتها وانحدرت إلى الحضيض بعد خلو الساحة الغنائية من عباقرة الأغنية وهم الرعيل الأول الذين ارتقوا بالأغنية الكردية إلى أعلى المراتب والدرجات مثل: عارف جزراوي، وكاويس آغا، وشاكرو، وكربيت خاجو، وعيشه شان، ومريم خان…الخ. وبعد أن غابوا وفرغت من ميادين الطرب هبطت الأغنية هبوطاً ذريعاً لحناً وصوتاً وأداءً ومعنىً، وظل الأمر كذلك حتى حل الزمن الذي ظهر فيه الشاعر يوسف برازي”بي بهار Bêbuhar” الذي أعاد إلى الأغنية رونقها وألقها وبث فيها الروح بعد موتها فانتعشت وسارت بخطوات حثيثة تجدد تراث الرعيل الغابر وتحاول أن تضيف إليه شيئاً جديداً وتبزّه، وتتجاوزه إلى الأفضل. ومن الطبيعي أن نسوّغ لأنفسنا القول بأن الشاعر “البرازي” هو المجدّد الحقيقي للأغنية الكردية التي تبوأت الآن مكانة رفيعة، ولا ندري كم كانت الأغنية الكردية ستظل رهن التشتت والركاكة لو لم يُقيّض لها هذا الرجل الذي أنقذها بعبقريته من الوهن والبلادة وألوان الهوان التي لحقت بها في تلك الأيام.
وقد خطر لي أن أسأله ذات مرة في أحد الأيام:
-لماذا لا تغني وأنت صاحب هذه الحنجرة الذهبية وتمتلك جميع مقومات الطرب وكافة الوسائل الفنية من تأليف وتلحين وعزف. وكل هذا يتيح لك أن تكون فناناً له شأن عظيم في عالم الطرب والغناء، بل يتيح لك أن تكون رائداً في هذا المضمار؟ فقال:
-كان من الممكن أن أسير على هذا النهج وأفعل ذلك منذ أعوام طويلة خلت، غير أنني –في البدء- شغلتني قضايا وشؤون سياسية، وكان المجتمع السياسي –آنذاك- لا ينظر إلى هذا اللون من الفن بعين الرضى والقبول، وكان يستاء من كل عمل لا يمت إلى السياسة بصلة، ولذلك اضطررت إلى العزوف عن الغناء لأن أهل السياسة يرونه ترفاً لا حاجة إليه. ولكنني رفضت أن تحل القطيعة بيني وبين الغناء والتلحين والعزف، فأنا أغني وأعزف كلما خلوت إلى نفسي أشفي بذلك غليلي وأخفف عن شجوني وأنا أبث الآلة الموسيقية شكيتي وآلامي.
ومما يمكن التنويه هو أن هذا الشاعر زاول كتابة الشعر منذ أيام صباه، وعلى الرغم من هموم الفاقة ومشاغل الحياة اليومية والالتفات إلى كسب قوته والخوض في غمار العمل كان غزير الإنتاج وكأنه يمنح من منهل لا ينضب، ودوّن عدة أعمال كان باكورتها ديوانه “الزنزانة Zindan”، ثم أعقب ذلك صدور دواوين أخرى تحمل مضا