تبوأ الكاتب والصحفي الكوردي الراحل محمود باكسي (1944-19/12/2000) منزلة مرموقة بين سائر المثقفين الكورد الذين اضطرتهم الظروف السياسية الى ترك الوطن والعيش في المهجر، وقد عرف باكسي بنشاطه الثقافي والسياسي الدؤوب ومواقفه القومية والانسانية الاصيلة التي ظل متعلقاً بها حتى الرمق الاخير من حياته (في السويد)، وظل يحلم دوماً بوطن كوردستاني موحد يضم اجزاءه الاربعة في الشمال والجنوب والشرق والغرب، وهو الذي ترك من بعده 27 مؤلفاً تنوعت ما بين القصة والرواية والتحليلات السياسية ذات العلاقة بالقضية الكوردية ومن بين هذه المؤلفات، كتابه الذي يحمل عنوان (كنت طفلاً في كوردستان) المطبوع في السويد باللغة السويدية (عام 1995) والمترجم الى اللغة الالمانية من قبل داكمار مسفيلد عام (1996) فاضطلعت من جانبي بنقل ترجمته الالمانية هذه الى اللغة الكوردية ليتكفل اتحاد ادباء الكورد/فرع كركوك مشكوراً بطبعه ونشره (عام 2005)، وقد اختزل باكسي في مؤلفه هذا ذكريات طفولته في كوردستان الشمالية من خلال ست قصص واقعية شيقة صاغها باسلوبه الادبي الجميل الزاخر بروح الدعابة والمرح التي عرف بها الكاتب.
سنتطرق في سياق موضوعنا الموجز الى محطات بارزة من طفولة باكسي وشبابه استناداً الى ما ورد في سياق الكتاب المذكور، ومن ثم تدوين قصته الاخيرة (عند الهروب) التي يحكي فيها ظروف هروبه الى اوربا.
نشأ محمود باكسي وترعرع في قرية بسهل كارزان (قرية حزو بمحافظة باطمان)، حيث كان جده (والد أمه) هو آغا القرية المذكورة، فشغف محمود باكسي منذ صغره بحياة تلك القرية الكوردستانية البسيطة بحلوها ومرها، بعدئذ انتقلت أسرته الى بلدة سميل على ضفاف دجلة، فأفتتح والده هناك محلاً لبيع الحلويات، منشغلاً بكسبه اليومي، كما دخل محمود هناك ومعه بعض التلاميذ الكورد، المدرسة الابتدائية، فلاقوا مصاعب جمة بسبب جهلهم اللغة التركية، هذا ناهيك عن المعاملة العنصرية المقيتة التي لاقوها من قبل معلمتهم التركية (خصوصا) والتلاميذ الترك، فكانوا يمنعون من التحدث فيما بينهم بلغتهم الكوردية الام حتى في أوقات الفراغ بين الدروس!
ولم يمض وقت طويل، حتى تعرضت البلدة الى فيضان مدمر من نهر دجلة، فجرفت السيول الهادرة معظم البيوت والطرقات والمباني والدكاكين، بما فيها دكان والد محمود كما غرق في الفيضان المذكور حوالي ثلاثة آلاف شخص وعدد كبير جداً من المواشي.
بعد الحادث مباشرة، حضر الى البلدة المنكوبة اثنان من اعمام محمود باكسي، وهما من سكنة مدينة بدليس ومعهما سيارة حمل قديمة، فنقلا بها بيت شقيقهما الى هناك، وهناك اشترى والد محمود بيتاً قديماً، واسعاً وجميلاً، فقضى فيه مع افراد اسرته حياة هانئة، هادئة، كما أفتتح هناك محلاً لبيع الاقمشة، فازدهرت تجارته وتنامى كسبه يوماً بعد يوم، فيما عاود ابنه محمود تعليمه وقضى أسعد فترات طفولته هناك.
وبعد انقضاء أربع سنوات على اقامتهم في بدليس، حضر اليهم ذات يوم الجد، آغا القرية، وهو في حالة كئيبة، وكان برفقته زوجته الشابة الجميلة وابنهما البالغ من العمر ست سنوات وسائق سيارتهم الجيب التي أقلتهم الى هناك، فبدأ الجد بالتحدث لأبنته (والدة محمود) عن شكواه وهمومه المرة حيال تصرفات اولاده، موضحاً بانه جاء لكي يقضي البقية الباقية من عمره بالقرب منها وبأنه يود ان يدفن هناك ايضاً، ومؤكداً لها عزمه وقراره بتسليمها وزوجها كل ما يمتلكه من املاك ومعدات، كذلك اوصاهما بضرورة العودة بعد مماته، الى قريته، ليأخذا على عاتقهما مهمة الاشراف على بيته واراضيه وممتلكاته ومنع اولاده من الاستيلاء عليها.
وشاءت قدرة الباري، ان يموت الجد بعد اسبوع واحد من وصوله بدليس، فدفن هناك بناءً على رغبته، كما اقامت له اسرة باكسي مراسيم عزاء لائقة وتلبية لوصيته عادت الاسرة الى القرية مجدداً فالتحق محمود وشقيقه الاكبر باحدى المدارس الداخلية التركية خارج القرية، لتكملة تعليمهما الاعدادي، فيما ارسل شقيقهما الاصغر الى بيت عمتهم في احدى بلدات المنطقة، لنفس الغرض وفيما بعد ارسلت اثنتان من شقيقاتهم الى مدرسة داخلية ايضاً، وسندع هنا محمود باكسي ليكمل لنا بنفسه بقية الموضوع من خلال قصته السالفة الذكر (عند الهروب):
(بعد الانتهاء من اداء الامتحانات النهائية –للمرحلة الاعدادية- المترجم)، عدت الى قريتنا، وقد بلغت من العمر 18 عاماً بالتمام والكمال، كنت شاباً مراهقاً ميالاً الى العراك والفوضى، لم أكن كوردياً كاملاً ولا تركياً أيضاً، لم أكن امتلك جناحاً وريشاً اطير بهما، او قدمين اسير بهما، كما يقال فافكاري ومعتقداتي وشخصيتي لم تكن ناضجة بعد، فكلما سافرت الى المدينة، بدوت كأحد ابناء الريف، واثناء عودتي الى الريف، كنت ابدو كأحد ابناء المدينة!
لم أكن اشعر بالراحة والسكينة وهدوء البال في اية زاوية من زوايا البيت، بل على النقيض من ذلك، كنت دائم الشعور بالوحدة والغربة، وهكذا لم اكن أدري من اين ابدأ حياتي، لكنني اضطررت فيما بعد ان أحسم مصيري والتحق بالخدمة العسكرية مكرها، وبعد ان قضيت مدة عامين في الجيش التركي، عدت مرة اخرى الى قرية جدي، وشاءت الصدفة ان تكون آخر زياراتي اليها، ولقد أدركت خلال خدمتي الالزامية في الجيش، كم هي صعبة وقاسية حياة الريف، كان من المستحيل بالنسبة لي ان أصبح آغا من الاغوات على شاكلة جدي او والدي!
لا بل أخذت افكر في تأسيس مشروع جمعية تعاونية داخل حدود الاراضي الزراعية العائدة الى عائلتنا، وفيه يصبح الجميع بلا استثناء اصحاب أراض!. وبغية الاستعداد لتلك المهمة، أخذت اتجول، في حقول الشوندر الممتدة على ضفاف النهر (نهر كارزان-المترجم) كأي عامل زراعي أجير عادي، وكان أغلب الذين يتم استخدامهم من قبلنا كعمال زراعيين في موسم الصيف، يسكنون خارج منطقتنا، وهم من افقر الناس وأكثرهم بؤساً، وكانوا على الاغلب نساءً واطفالاً، يتحتم عليهم العمل الشاق يومياً لمدة 14 ساعة كاملة وفي درجة حرارة شديدة تبلغ (45 درجة)، ولقاء أجر زهيد يكاد لا يسد ثمن قوتهم اليومي من الخبز اليابس فكنت ابغي أن يضربوا عن العمل من أجل أجر أفضل ومدة عمل أقصر، لذلك رأيت من الضروري إفهامهم كيف ان والدي وأخوالي يسيئون معاملتهم ويظلمونهم بلا وجه حق؟!، وأخيراً تمكنت من تحريك هؤلاء النساء والاطفال الفقراء البالغ عددهم اربعمائة فرد، ودفعهم للاضراب عن العمل، فكان ذلك مبعث اغتباطي الشديد!
وكان البعض ممن يعملون معي، من زملاء الدراسة الاعدادية وكنا متعاطفين ومتحمسين معاً، بصدد انشاء تلك الجمعية التعاونية الزراعية الموعودة.
وما ان بدأ الاضراب، حتى سارعت مع زملائي بالانخراط في صفوف النسوة والجلوس مثلهن على الارض، ثم بدأنا ننشد معاً الاناشيد الحماسية، والواقع اننا كنا نتوقع قدوم المالكين، اي والدي واخوالي، الينا والتفاوض معنا حول تقليل مدة العمل وزيادة الاجور، وبدلاً من ذلك، جاءنا جمع من عساكر الفرسان الترك مدججين باسلحتهم! فحاولنا من جانبنا سد الطريق عليهم ومنعهم من التقدم، لكنهم سارعوا بإطلاق الرصاص في الهواء لتخويفنا، فنهضت النسوة المذعورات من أماكنهن على عجل، ليمسكن بمعاولهن ومناجلهن ويعاودن تطهير حقول الشوندر من الاعشاب والحشائش الدخيلة، وبذلك انتهى الاضراب!
وأخيراً بقيت انا وزملائي، وحيدين امام عساكر الترك وافراد اسرتي الذين حضروا الى الحقول، وهم يلعنونني ويصرخون غاضبين، باعتباري خنت العائلة!
وهنا ادركت بان عودتي الى البيت في القرية، اصبحت أمراً متعذراً بالنسبة لي، فسارعت واصحابي، بالابتعاد قدر ما نستطيع عن مكان اضرابنا الخائب، حتى وصلنا مدينة اسطنبول، ذلك المكان الذي كان بوسع العمال فيه غالباً الكتابة والقراءة والتحدث بحرية، ولم يكونوا مقهورين ومرعوبين على شاكلة فلاحينا ومزارعينا الاجراء المساكين، فبدأت اعمل صحفياً في هذه المدينة الكبيرة لدى إحدى نقابات العمال، لكنني على اية حال، كنت غريباً في اسطنبول، كما عرضتني لكنتي الكوردية الى الكثير من المشاكل.
وبقصد اطلاع الشعب التركي على الواقع الصعب والمؤلم لحياة شعبنا الكوردي، كتبت رواية باللغة التركية عن اضطهاد هذا الشعب، وفي الوقت الذي كنت فيه اجهل مدى فهم وتقبل الشعب التركي لمضمون روايتي هذه، تيقنت علم اليقين بان المخابرات العامة، القضاة، المدعي العام قد فهموا رأساً القصد من روايتي، وعليه فقد منع الكتاب سريعاً، واجهت بسببه خطر السجن لمدة 15 عاماً! وهكذا نعت بالخيانة الكبرى في عامي السادس والعشرين، فقضيت ردحاً من عمري ككاتب هارب من العدالة ومطارد من الشرطة، الى ان هربت صوب الخارج.
وبعد ان قضيت عاماً واحداً في المانيا، قدمت الى السويد في ربيع عام 1971 فاقمت بمنطقة نائية شمالي البلاد، وفي موقع يتوسط البحر والجبل، حيث كان سكانه شقرا وذوي عيون زرق، على شاكلة الترك البلغار (عندنا) ويتحدثون لغة لم أكن أفهم منها شيئاً قط!. وهنا بدأت بدراسة وتعلم اللغة السويدية، وكان اصدقائي في الصف ينتمون الى كل دول العالم، فكنا نتفاهم فيما بيننا باشارات الأيدي والأرجل!. ولم تكن معلمتنا الجديدة تضربنا بعصاها على رؤوسنا او تفتش أظافر أيدينا (في أشارة الى أسلوب معلمته التركية سابقا –المترجم).
وهكذا بدأت هناك حياتي الجديدة كلاجىء سياسي، ولم أكن أعلم بأنها تطول الى هذا الحد، وبعد مضي 21 عاماً على حياة الغربة هذه اي في عامي السابع والاربعين، سنحت لي فرصة العودة الى وطني تركيا لفترة قصيرة، لكن دون ان اتمكن من رؤية قرية جدي الراحل، مهد طفولتي مرة أخرى. (1)
واظب الكاتب محمود باكسي في السويد على الكتابة إلى آخر حياته، وكتب الكثير من الكتب التى ترجمت إلى لغات عدة ، أما هو فكان يكتب بالكوردية والتركية والسويدية.
في 19 كانون الأول/ ديسمبر عام 2000 فارق الحياة في العاصمة السويدية ستوكهولم ودفن في آمد (دياربكر) حسب وصيته. (2)
الصورة: صورة للمرحوم محمود باكسي وضريحه في آمد (دياربكر)، وصور له مع كل من الفنان الكوردي الكبير أحمد كايا، وأخرى مع الفنان الكبير شفان برور في القناة التلفزيونية ميديا تف، وأخرى مع المخرج الكوردي الكبير يلماز كوني في باريس، وأخرى مع السيد مسعود بارزاني عام 1991 في جنوب كوردستان إبان الهجرة المليونية حيث كان بصحبة شفان برور والمرحومة دانيال ميتران وآخرون من الذين زاروا المنكوبين حينها، وأخرى مع السيد عبدالله أوجلان عام 1999 في روما بإيطاليا حيث كان بصحبة شفان برور وكليستان برور.
المصادر:
1. مقال بعنوان محمود باكسي.. من الطفولة الى المهجر بقلم الأستاذ عمر علي شريف
www.sotakhr.com
2. موسوعة ويكيبديا باللغة الكوردية عرض أقل[1]