للكاتب آلان بيري
سأستعرض في هذا المقال ثلاثة أمثلة من التاريخ الاجتماعي الكُردي الحديث، وهي كالآتي:
أولاً: خيمة الباشا.
ثانياً: مضافة الآغا.
ثالثاً: تكية الشيخ.
سأناقش في كل مثال حالة الحوار السائدة آنذاك وأبرز ملامحه. الأمثلة الثلاث متزامنة، فقد تواجد الآغا إلى جانب الشيخ والباشا في كُردستان (الأرض التاريخية للكُرد الحاليين). وفرضيتي تنص على التالي: “تقاليد الحوار السائدة حالياً في أي حوار بين أطراف كُردية معينة سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية لا تختلف كثيراً عن تقاليد الحوار القديمة التي كانت سائدة في خيمة الباشا ومضافة الآغا ومجلس الشيخ الكُردي”.
سأتناول كل مثال على حدة في محاولة لتحليل وتفكيك كل حالة واستخلاص نتائج نهائية من الحالات الثلاث.
أولاً: خيمة الباشا
خيمة الباشا الكُردي كخيمة زور تمر باشا ملي (Zor Temir Paşayê Milî) على سبيل المثال مجلس يتوافد عليه جمع من الناس للتحاور والتشاور و التسامر وحل المشاكل اليومية وترتيب حياة الجماعة. سيكون من المثير للاهتمام اليوم معرفة كيفية تداول المواضيع المختلفة في تلك المجالس وتفاصيلها. إلّا أن قلة المصادر المكتوبة والمتوفرة في هذا الصدد تقف حجر عثرة في طريق معرفتنا لتلك الخطابات (Diskurs). ولكن بعض القصص المتناقلة شفاهياً ما تزال موجودة كملحمة درويش عفدي مثلاً. فدرويش وقبله والده عفدي قاتلوا في جيش الباشا الملي مقابل وعود بالزواج للاثنين. فالأب كان يحب شقيقة الباشا ودرويش أحب ابنته عدولي فيما بعد.
حين قراءة الملحمة بتمعن يمكن لنا تعريف شروط وظروف الحوار السائدة آنذاك وكيف كان يتم. فالأمور في القصة تبدو بسيطة وعفوية للغاية. عفدي رجل كُردي إيزيدي يتحالف مع الباشا الملي ضد أعدائه مقابل الزواج من شقيقته . الاتفاق تم ربما على نحو شفوي وبحضور شهود من الجمع – إذ لا تتوفر لدينا اليوم وثائق مكتوبة خاصة بالتحالف المبرم ذاك – وانتهى الأمر وتم التحالف. ولكن لدى الوقوف قليلاً على مضمون الحدث نجد أننا أمام تحالف عسكري بالدرجة الأساس. كما وهناك حرب وشيكة ضد أعداء خارجيين. أي أن عفدي تحالف ليخوض حرباً للباشا برجاله وخيوله وعتاده.
النتيجة: تحالف عسكري بهذا المستوى يتم شفوياً ومقابل زواج لا يتحقق فيما بعد.
الأمر نفسه يتكرر مع ابنه درويش أيضاً. فهو الآخر يقع في حب ابنة الباشا الملي عدولي ويريد الزواج منها رغم أنهما من دينين مختلفين. إلّا أن ما جمعهما مسبقاً كانت اللغة والثقافة المشتركة كما وصداقة وتحالف عسكري قديم بين والديهما. هُنا أيضاً أعاد الباشا الملي طرح شرطه السابق على الابن مجدداً. أي التحالف العسكري وخوض حربه مقابل الزواج بابنته. درويش عُرف عنه فروسيته بحسب الملحمة – فالملحمة تُعرف باسمه – وقد كان مقاتلاً من الطراز الرفيع ورجل حرب مهيب الجانب.
في حين كان الباشا الملي رجل سياسة من الطراز الرفيع. فتوليه في وقت سابق لعدد من المناصب الحكومية في الآستانة عاصمة الخلافة العثمانية ونيله لقب الباشا وعلاقاته بالإداريين والعسكريين العثمانيين يثبت ذلك بجلاء. فقد كان يحصل على تحالفات عسكرية مهمة بطرق سهلة وغير مكلفة كما في مثالنا هذا. فالأمر لم يكن يتطلب منه سوى إبلاغ الطرف الآخر بشرطه لينتهي الأمر.
وبالفعل فقد أبدى درويش قبوله بالشرط وأبرم حلفاً عسكرياً مع الباشا ضد أعدائه من العشائر العربية. على الرغم من أن العشائر العربية لم تكن – بحسب الملحمة – في حالة حرب مع الكُرد الإيزيديين وإنما فقط مع الباشا الملي وذلك لأسباب اقتصادية تتعلق بمساحة المراعي وأسباب جيوسياسية أخرى تتعلق بمناطق النفوذ لكلا الطرفين. أي لم يكن للإيزيديين في تلك الحروب لا ناقة ولا جمل. فالأمر لعفدي ودرويش يتعلق بقصتي حب لا أكثر. وكما يبدو فتمر باشا ملي استخدم قصة حب الأب وابنه كأداة لتحقيق مصالحه السياسية فقط. فلا أخته تزوجت بعفدي ولا ابنته تزوجت من درويش.
القصة تنتهي بمقتل درويش في المعركة. والقصة في مجملها تعبيرٌ عن بطولة فردية وتمزج فيما بين الحب والحرب وترمز للتضحية، والتي تُعتبر من وجهة نظرنا اليوم حماقة وتهوراً ليس إلّا.
ثانياً: مضافة الآغا الكُردي
مضافة الآغا كانت عبارة عن غرفة كبيرة مُشيدة غالباً في مركز القرية. يجتمع فيها القرويون ويتبادلون أطراف الحديث ويستمعون لأغاني وأقاصيص جاء بها منشدون ومغنون ورواة من بلاد كُردية أخرى. الآغا يدير الجلسة والكل يخضع له. لديه رجل أو عدة رجال بحسب نفوذ الآغا يقومون بتقديم الضيافة للحاضرين والمتمثلة في تقديم قهوة مرة، أي نادلاً بحسب مفهومنا المعاصر. الآغا يستمع للجمع ويقول ما يريد ويدير من مكانه ذاك الشؤون اليومية “لرعيته”. فهو السلطة التشريعية بالدرجة الأساس وهو يقرر ما هو الحق وما هو الباطل؛ أي أنه يضع المعايير وقواعد الحياة المشتركة. أمّا مُلا القرية فقد كان يمثل – بحسب مفهومنا المعاصر – السلطة القضائية، ولكن بصلاحيات محدودة. أمّا رجال الآغا المسلحين والذين يعملون في خدمته فقد كانوا أداة تنفيذية مباشرة يفرض بها الآغا قوانينه وقواعده على الناس.
الحوار لم يكن متكافئاً في مجلس الآغا. فالآغا يمثل سلطة لا يمكن الاعتراض عليها كما أن المُلا ملزمٌ بتنفيذ الشريعة بما ويتناسب قواعد الآغا؛ أي يحرص على ألا تتقاطع مع مصالحه أو تصطدم بها. أمّا القرويون فقد كانوا مجردين من القوة والسلطة وحق الإدلاء بالرأي. فهم لا رأي لهم في المسائل المصيرية ولا يشاركون الآغا في تنظيم الحياة الاجتماعية داخل مناطق نفوذه. أمّا الوافدون على المجلس من الرواة والمغنين فقد كانوا باعة جوالين يبيعون فنهم (القصص والأغاني والألحان والأساطير والملاحم) بسعر بخس مقابل طعام ومأوى وشيء من المال يحصلون عليه من الآغا.
عدم تكافئ الحوار على هذا النحو أسس لثقافة وتقليد حوار معين تم توارثه حتى وصلنا اليوم بنسخة مُعدلة إلى حد ما. فمجالس الأحزاب الكُردية التقليدية ومجالس “الكبار والصغار”، أي الجيل القديم والجديد لا تختلف عن مجلس الآغا كثيراً إلّا من ناحية المضمون. أي أن تقاليد مضافة الآغا ما تزال مستمرة حتى الآن وإن بأشكال مختلفة؛ كما وأن الشروط العامة للحوار لم تتغير بعد.
والمشكلة الجوهرية الآن تكمن في أن الكُرد في حوارهم المُعاصر يعتمدون على تقاليد حوار قديمة لمعالجة قضايا مجتمعية وسياسية مُعاصرة.
ثالثاً: تكية الشيخ
المشيخة لقب ديني وصفة علمية دينية. يستطيع من يحصل عليها ممارسة عمل يتعلق بالدين بجوانبه الاجتماعية والتنظيمية كالبت في شؤون الناس حين الزواج وحصر الإرث وما إلى ذلك. للشيخ مريدون يتعلمون لديه أصول الدين ويخدمونه أيضاً في شؤونه الشخصية. فالشيخ يمثل بالنسبة لهم سلطة تستمد شرعيتها من الله وكتابه والنبي وأحاديثه بالدرجة الأساس وهو معنيٌ بتعليمهم الدين الصحيح وتنظيم حياتهم الاجتماعية بما وينسجم مع قواعد الدين.
هذه التراتبية الاجتماعية والمعرفية بشكل عام ساهمت في ترسيخ مفهوم عبودية دينية تراكمت آثارها إلى يومنا هذا. فاليوم لا يمكن للمرء الاعتراض على أفكار وآراء شيخ كُردي في كُردستان، فما تزال تلك التراتبية المعرفية المزعمة نافذة وتلقى قبولاً واسعاً لدى الناس.
بطبيعة الحال الحوار في مثالنا هذا أيضاً لم يكن متكافئاً. لذلك لم تنشأ ثقافة حوار أساساً ولم يتطور تقليد للحوار في ذلك الوسط.
تأسيساً على ما سبق يمكننا الآن من تحليل الأمثلة الثلاث استخلاص النتائج الآتية:
1. المجتمع الكُردي يفتقر إلى تقاليد وثقافة حوار مُنسجمة مع روح العصر لحل قضاياه الاجتماعية والسياسية الراهنة المُلحة.
2. لم تنشأ ثقافة حوار في الأوساط الدينية الكُردية ولم يتطور عنه تقليد محدد وإنما ظلت تلك الأوساط أسيرة التراتبية المعرفية على مبدأ أن الشيخ يعلم ما لا تعلمه “الرعية”.
3. يستخدم الكُرد في حوارهم المُعاصر أدوات حوار قديمة لمعالجة قضايا مجتمعية وسياسية مُعاصرة. أي ما تزال تقاليد خيمة الباشا ومضافة الآغا ومجلس الشيخ مستمرة وحاضرة حتى الآن، ووفقاً لها تتم مناقشة القضايا الاجتماعية والدينية والسياسية المُعاصرة. عدم الانسجام هذا بين الأداة والمضمون وافتقارنا المُسبق لثقافة حوار يساهم بشكل رئيسي في ركود وتخلف ثقافة الحوار في المجال الكُردي باعتبارها أداة رفيعة المستوى في التقدم الاجتماعي في عصرنا الراهن.[1]