عبدالوهاب بيراني
الربيع فصل تجدد الطبيعة والخصب، وفي ثقافات وأساطير الكثير من الشعوب ومنذ بدايات التاريخ، ويأتي عيد “نوروز” يوماً خالداً يعلن تجدد إرادة الشعب الكردي بالحياة، فهو يحمل بُعداً قومياً مرتبطاً بقضايا تحرره وحبه للحياة وللطبيعة وللألوان، ونيرانه لا زالت رمزاً للانتصار والخلاص من الظلم التاريخي والجغرافي وإن كان مصدره تحكم الحكومات والديكتاتوريات على مر التاريخ الكردي، فهو يمثل رسالة الحياة والفرح والرفض لكل من يحاول طمس هوية وحقيقة هذا الشعب الخالد خلود شعلة نوروز..
ثمة عناوين كبيرة يمكننا الوقوف عندها، حول العلاقة بين الأدب ونوروز، على المستوى الكردي والعربي والفارسي؛ وسائر اللغات والأقوام التي كتبت ودونت قصائداً مازال الكثير منها أسير مصادر أدبية تاريخية، ولم يكتب لها أن تخرج معلنة عن الثراء الكبير وخاصة في المصادر الفارسية والإسلامية لاحقاً، وهي مواد جديرة بإجراء دراسات وأبحاث مستفيضة وعميقة حولها، وهي رسالة أوجهها لطلبة الأدب الكردي في جامعات وأكاديميات روج آفا لتكون مشاريع تخرجهم أعمالاً تتناول التراث الكردي والعالمي ذو الصلة والعلاقة مع يوم نوروز الخالد.
أما كردياً ومن خلال هذه العجالة، الجدير بالقول أنه ما من أديب أو شاعر كردي لم يكتب شعراً لنوروز، ولمعانيه فقد تغنوا بهذا اليوم ومنذ أقدم الأزمان، فأمير الشعراء الكرد أحمدي خاني قد بدأ ملحمته الشعرية بوصف عيد نوروز حيث التقى في بهائه بطلَي الحكاية “مم و زين”، وتتالت قصائد نوروز على لسان الشعراء الكرد أمثال الشاعر الكردي (بيره ميرد) ويعد من أكثر الشعراء اهتماماً وحرصاً على كتابة قصائد لنوروز وفي أعوام متلاحقة، وقد لُحنت إلى أغانٍ خالدة لا زلنا نسمعها إلى يومنا هذا عشية كل نوروز، كما أن الشاعر عبدالله گوران قد أفرد في ديوانه العشرات من النصوص الشعرية عن جمال ومعاني نوروز في حياة الشعب الكردي في لهجة ثورية دعت للتحرر ومواكبة شعوب العالم في التحضر والعلم. وقائمة طويلة لقامات إبداعية كردية وشخصيات عربية وفارسية ومنذ العهود الإسلامية الأولى حيث كان الخلفاء وأمراء المؤمنين يحتفلون بيوم “نوروز” وتذخر المكتبة الإسلامية بدلائل قاطعة حول ما نذهب إليه، وشعراء الكرد مثل مولوي واثيري وفائق بيكس وهلمند وشيركوه بيكس وجكر خوين ويوسف برازي وصولاً لشعراء الحداثة والعصر الحديث، وقائمة من شعراء الحداثة العرب كتبوا عن نوروز فمن قصيدة (من وحي نوروز) للشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السباب والتي اشتهرت خلال أعوام الخمسينات إلى بلند الحيدري، واستغرب كيف أن مناهج الدراسة الحديثة في مدارس روج آفا غفلت عن ذكر الأناشيد لتكون مصدر فخرٍ ومجد على لسان التلاميذ الصغار، وهل أجمل من أن نردد مع السباب “يا شعب كاوا سل الحداد كيف هوى صرح على الساعد المفتول ينهار” …
كما يجدر بالذكر أن علماء وأئمة وفلاسفة كبار ومن المؤرخين أيضاً قد ذكروا نوروز وكتبوا عنه ونذكر منهم ابن سينا الذي كتب “الرسالة النوروزية” وكذلك البيروني والثعالبي والمسعودي وأبو نواس والراوندي وابن الرومي وابن المعتز والنويري والقلقشندي والجاحظ والمقريزي وجورجي زيدان والعقاد وغيرهم من الكتّاب والأدباء اللذين صوروا نوروز في إبداع تحف أدبية وزينوا بها دواوينهم وكتبهم بما لنوروز من فرح وجمال وتجدد في الطبيعة وفي الهمم والنفوس. ويأتي البدليسي في كتابه الملحمي “شرفنامه” بتناول وبكثيرٍ من الأهمية عيد نوروز موضحاً خصوصية الاحتفال به من قبل الشعب الكردي، وعلاقته التاريخية بالكرد كبداية تقويم كردي، كما أن الشاعر العباسي البحتري مدح ووصف نوروز في أجمل قصائده الخالدة إلى يومنا هذا: (وقد نبه النوروز في غسق الدجى أوائل ورد كن بالأمس نوماً). حيث يقارن ما بين الجمال والسرور من جهة ومعاني نوروز والتجدد من جهة أخرى. كما أن حادثة تقبل أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب لهدية النوروز تتربع في أكثر من مصدر تاريخي، ويحكى أن ملوك الفرس كانت تعفو عن السجناء في هذا اليوم وهناك من كان يوزع الطعام والملبس على الفقراء، ولنوروز امتداداً دينياً في تعاليم الزردشتية حول تقديس النار والنور، وقد تم ترجمة العديد من المأثورات والنصوص العربية والكردية والفارسية إلى لغاتٍ أخرى ونكاد نجد في كتابات المستشرقين ترجمات لنصوص شعرية عربية وكردية وفارسية عبر مقطوعات نثرية وشعرية بديعة، وقد وصل الاحتفال بنوروز إلى الأندلس ولا زالت بعض المناطق بإسبانيا تحتفل به تحت مسميات أخرى حيث أنشد ابن حزم وزرياب أغاني لا زال إيقاعها يتكرر في صرخات وأغاني راقصي الفلامنكو الإسبانية.. ولا زالت النار أبرز صفة استدلالية ليوم نوروز ومعانيه العميقة في المنحى الأسطوري والديني والتاريخي والقومي..
وأود أن أختم هذه القراءة السريعة ببعض مما أنشده الصنوبري أبو النواس في وصف الربيع بيوم نوروز:
إذا الهزاران فيه صوتاً فهماً السورناي، بل عود وطنبور” ويقول أبو نواس: “يباكرنا النوروز في غلس الدجى بنور على الأغصان كالأنجم الزهر”.[1]