خالد حسين
تشقُّ هذ القراءة طريقها إلى تلمُّسِ موضوعها بغية التفاعل مع العلامة الشّعرية، الإنصات إليها ومتابعة تحركاتها الدّلالية، بل تحولاتها حتى يغدو التحليل النقدي ضرورةً وليس بمنزلةِ عبور زائر، تموضعاً فعلياً في النّصّ، في ردهات النّص وعوالمه، قراءةَ ما يقوله النّصُّ من حيث يومىء ويوحي، يبثُّ أسراره. هكذا تجد القراءة طريقها يتمفصل إلى ثلاثة آفاق من شأنها أنْ تأخذ القارىء معها إلى و/أو تشاركه في ضيافة مجموعة الشّاعر هوشنك أوسي “بعيني غراب عجوز”.
I: الشّعر، القصيدة، خصوصية الصّوت:
يحتضن أفق هذا المحور مفهومات “الشِّعر، القصيدة، الصوت”، فضمن هذا الحقل المفهومي نُباينُ “الشّعر” عن “القصيدة” بالنّظر إلى الأخيرة بوصفها مكاناً، فضاءً لِسُكْنَى الكلمة الشّعرية، فالشّعر إما أن يتخذ القصيدة مأوى أو لا يكون، كما لو أنّ القصيدة، وهي كذلك واقعاً وحدثاً، هي التي تمنحُ الكلمة الشِّعرية نعمة الإقامة والتمكُّن والحضور، والبروز، والإشراق، والانخطاف. وفي الوقت الذي يرتهن فيه حضور “الشِّعر” بالقصيدة شرطاً، فإنها تحضر في كثير من الأحيان إلى الكتابة مع كائناتها اللغوية دون كائن الشّعر ذاته من حيث هو سحرٌ وفتنةٌ وغرابةٌ، وهي دون الشِّعر، بمنأى عن الكلمة الشِّعرية، تحيط بعالم من الهمود والانطفاء والأفول والخفوت، فهي ليست، والحالُ هذه، إلّا ضرباً من الفضاء المنطفىء على ذاته. لكن ندرةَ الشّعر، وهي خاصيةٌ، أصلٌ في الكلمة الشِّعرية ذاتها، تحدّدُ تألق هذا “الفضاء القصيدة” من تلاشيه. وإذا كان ألقُ القصيدة مرتهنٌ بتمكُّن الشِّعر منها إقامةً وسكناً فهي إذاك ضرورةٌ، نداءٌ للكلمةِ الشِّعرية للحضور وبثّ سحرها وإشراقها في أرجاء القصيدة حتى تحضر “القصيدة الفضاء” ذاتها إلى الرؤية وتقف إزاء الفكر دافعةً إياه لواقع تأويلي مغاير.
وفي الوقت ذاته فالشّعر بوصفه فسحةً للصوتِ في خصوصيته، في انبثاقه شرطاً لحضور الشِّعر ذاته، أيْ إنَّ حضورَ الشِّعر بوصفه انعطافةً حادّة في اللغة ووجهة النظر والتَّجربة في العالم ومعه يفرضُ خصوصيةً في الصَّوت الشِّعري وفرادته؛ إذ تتدرّج هذه الفرادة من صوتٍ إلى آخر تجذُّراً من عدمه في أرض الكلمة الشِّعرية. وهذا لا يعني شيئاً سوى “الاختلاف”، اختلاف الصّوت، البصمة، الإمضاء؛ ليكونَ ذلك ممرّاً إلى استعمال مفهوم أكثر دقةً وتلاؤماً مع الشِّعرية المعاصرة وأعني الكتابة الشِّعرية في صميم الاختلاف، “الكتابة الاختلاف“وفي المسافة الفاصلة بين الكتابة والاختلاف تقيم التجارب الشِّعرية درجةً ونوعيةً، ثراءً وفقراً، ألقاً وخفوتاً إلى أن تبلغَ بعضها ضفاف “الكتابة اختلافاً” حَدّاً وقوّةً.
هذا ما يجعلنا الآن نقف إزاء تجربة الشَّاعر “هوشنك أوسي” بأُفقٍ نظريٍّ ربما يسند هذه القِراءةَ في دنوّها من ديوانه، ما قبل الأخير، “بعينيْ غُرابٍ عجوز“([1])، الذي يكشف بوضوحٍ عن محاولةِ الشّاعر للتخلَّص من التناصّ الصوتي المرافق لقصيدته في مسلك كتابيٍّ للانزياح عنه، عن الصَّوت المصاحب، والاحتياز من ثمَّ على الصّوت الخاصّ به هنا، وكذا في مجموعته الأخيرة أيضاً [لستُ بحراً،2021]، أسلوباً ومعجماً واسترتيجيةً لبَنْيَنَة القصيدة بصورة مختلفة. وفي نصوص هذه المجموعة لا ينشغل الشَّاعر إلا بصوته الخاصّ في تأملاتٍ ميتافيزيقية عن البحر والمكان والشَّارع والرّيح والزّمن والغربة والذّات والهامش…وكلُّ ذلك في صيغةٍ سرديةٍ يهيمن فيها صوتُ الذات أو الأنا الحاضرة بقوة في تحريك الخطاب الشعري نحو مطاردة موضوعاته تحت وطأة طبقةٍ ليست بالمعتمة تماماً من المجاز الشّعري وظلاله. إذا كان ذلكَ كذلك، يمكننا البحثُ في الخطوة الأولى عن الشِّعر في الموازياتِ النصية، وتحديداً العنوان والعناوين، كخطابات لها موائزها بوصفها توضعاتٍ ومعابرَ إلى تضاريس القصيدة لجسِّ الشِّعر هناك بتعمّقٍ كخطوة ثانيةٍ في حركة القراءة وفعاليتها؛ لِيَلي هذا الاشتباك امتحان القصيدة ذاتها في اقتصاديات النص وتَقَرّي شؤون الكلمة الشِّعرية فيها وفق سياسات الاقتصاد النَّصيّ المتداولة في الخطوة الثالثة.
II: العنوان شعرياً:
في التعامل مع الكلمةِ الشِّعريةِ لا سبيل سَوى التأويل، واتّساع التأويل لن يأتي مجانياً أو بدون ثمنٍ كما يدّعي بعضُ القراء، بل يعكسَ اكتناز العلامة الشِّعرية ذاتها بحمولات دلالية في أسيقتها النَّصيّة بما يضغط على الفعل التأويلي حتى يفتحَ مساحةً ويتضاعفُ فيها، أي أنّ اتساع التأويل يُمْرْئي قوة العلامة الشّعرية وانفجارها الدلالي وتحوّلها على مسار الدائرة التأويلية.
تواجهنا المجموعةُ منذ اللحظة الأولى، منذ التّماس الأول، منذ لحظةِ تَأْسيسِ برتوكول التلقي عنواناً يأتلقُ بفعلٍ محذوفٍ: [“أرى” بعينيْ غرابٍ عجوزٍ]، وكما يتوضّح لنا من الجملة المفترضة أَنَّ الجارَّ [الباء] حرفٌ لازبٌ للفعل ومن ثمَّ فالباء غير زائدةٍ في مصنّفات حروف المعاني([2])، وهي هنا إما للتعدية، بها يتجاوز “الفعل” موقعه ويتخارجُ عن لزومه للاستعانة على الرؤية بعين “الغراب” لا بعين “الذات المتكلمة” أو للظرفية المكانية بمعنى “في”، وعليه يمكن إعادة تأويل العنوان بجملة افتراضية ثانية: [أرى ب/في عينيْ غرابٍ عجوزٍ]. غير أن سمتي الحرف الجارّ: التعدية والظرفية تستدعيان “مفعولاً= العالم” على سبيل التمثيل، لسدّ الفجوة الدلالية القائمة في الجملة أو أنّ جملة العنوان تستدعي صيغة سؤال قائمة عنوةً: [“ماذا” أرى ب/في عينيْ غرابٍ عجوزٍ؟]، وبذلك يمكن ترجمة العنوان تحويلاً: [أرى “العالم” ب/في عينيْ غرابٍ عجوزٍ]، وهذا التركيب بدوره يخضع لوطأة منح التأكيد للذات أو لطائر الغراب في تصدّر التركيب، أي أنّ العنوان جاثمٌ تحت حِدّة إعادةَ كتابةٍ أخرى. وانطلاقاً من ذلك واستناداً إلى الخبرة الشّعرية يحسمُ الشّاعرُ خياره للعنوان بهذا التركيب الذي ينطوي على فجوةٍ دلاليةٍ تمنحه امتيازاً وتدفع القارىء إلى لعبة التأويل معه: [بعينيْ غرابٍ عجوزٍ]، أي يدفع بالطائر إلى استملاك المشهد بتواري “الذات” بعيداً. وبذلك ينحاز العنوان إلى الفضاء الشِّعري اقتصاداً لينفتح على اتساع التأويل كما جرت الإيماءة.
في هذه النقطة يمكننا العودة ثانية إلى حالتي التعدية والمكانية: [بعينيْ غرابٍ عجوزٍ أرى….] كما أشرنا فالرؤية وفق الحالة الأولى تقع بعين الغراب، فالشَّاعر لا يرى إلا بعين الغراب! فما الذي يراه ببصر هذا الطائر؟ وفي الحالة المكانية: [في عينيْ غرابٍ عجوزٍ أرى …] ماذا يرى الضميرُ المتحكم بالخطاب، هو بذاته، ببصره، في عيني الغراب؟ ما هذا المبحوث عنه هناك؟ لكن لماذا طائر الغراب، لماذا اختار الشّاعر “الغراب” على وجه التَّحديد؟
يتمتّع طائر الغراب بحضور حكائي وشعري هائل في التراث الأدبي؛ الرسمي منه والشعبي والديني. لكن اختيار الشّاعر هو ضرب من الاحتمال المرتبط بذكاء هذا الطائر فهو” يقع قرب قمة هرم عالم الطيور فيما يخصُّ أدمغتها”([3]) وتُروى عنه الكثير من السَّرديات التي تكشف حِدّةَ الذكاء لديه لهذا تبدو “بالإضافة إلى الشارب حول مناقيرها والابتسامة الظاهرية هو ما يجعلها بطريقة ما قريبة من البشر”([4]) علاوة على كونها “حملة النبؤات” وجملة من الصفات السّلبية “الشر، البين، الخبث” أيضاً المقترنة به في كلّ ثقافةٍ من الثقافات. يمنحنا نصُّ العنوان سمةً أُخرى للغراب هنا وهي [+ عجوز] الدالّة على العمر المديد والخبرة والقدرة على التأمُّل. لذا فالعنوان يزيح الصفات السّلبية ويستقدم إلى فضاء التأويل ما هو إيجابي، ما يمنح “الغراب” القدرة على التبصُّر والرؤيا في حالة التّعْدية والتنبؤ في حالة الظرفية المكانية وهي سمات تنبض بقوة في الإرث الأدبي عن الغراب. وهكذا يمكن ترجمة العنوان وتعريضه إلى وابلٍ من التحويلات الدلالية: [بعيني غراب عجوز أتبصّر، أقر، أكتب …] أو [في عيني غرابٍ أرى تنبؤات، مصائر،]…إلخ. وإذا انتقلنا بالعنوان الرئيسي إلى تضاريس النُّصوص فإننا لن نجدَ له أيّ حيّزٍ في الفهرس وإنما يشكلّ البداية النصية والنُّواة المركزية لنصٍّ آخر، قصير بعنوان [تأمُّل]([5]):
بِعَيْنَيْ غرابٍ عجوزٍ يتفحَّصُ آذارُ فضائحه،
يُعيد تنقيحها من مبالغات الزَّمن الأعمى وبلاغته،
يقدِّمها على مائدةِ الجهات طعاماً لخيال الشُّعراء،
يُعيدُ ترتيبها وفق أبجديَّة الحَجَر،
بِعَيْنَيْ مدينةٍ هتكَها البرابرة. [ص، 57].
يحيلنا [آذار] كحيّزٍ من الزمن ومن خلال أفعال ترتبط بإعادة التفكير [يتفحّص، يعيد، يقدّم] إلى التاريخ، إلى الزّمن تحت طائلة الثقافة كأداة رهيبة لصناعة العلامات أو اختلاقها ومن خلال هذه الأفعال وبها أيضاً تجري أَنسنة التاريخ عبر افتكاك الاستعارة بصور النَّصِّ لنغدو إزاء تاريخ، مؤرّخ ببصيرة غراب يتفحّصُ فضائح [أحداث] التاريخ تنقيحاً وترتيباً ثم تقديمها للقراء [خيال الشّعراء] ففضائح آذار هي أحداث التاريخ وأوراقه التي طمرتها مبالغات الزّمن وبلاغته[روايات المؤرّخين وأكاذيبهم وتصوراتهم] ولابدّ من إعادة قراءتها وترتيبها لتكون طعاماً لخيال الشُّعراء، الخيال الذي يتجلَّى في صور جديدة، الخيال الذي يتولى [إعادة ترتيب] المواد وصهرها في تكوينات مغايرة[أبجدية الحجر] وما هذه الأبجدية سوى القصيدة، سوى الشعر وهو يتألق كالحجر في القصيدة.
إن الزمن ”آذار” يتجاوز كونه مؤرّخاً ليكون شاعراً يمارس تنقيح الإرثَ الشّعريَّ لإعادة إنتاجه وفق تصورات جديدة لكنَّ ذلك لن يقع كحدثٍ إلا بعيني غرابٍ عجوزٍ ذي بصيرةٍ، يرى ما لا يُرى. وهذا اشتراط الشّعر في أن يكون، بالقبض على ما لا يُرى! لكنّ الشَّاعر يختتم القصيدة بنظيرٍ آخرَ لعيني الغراب؛ فآذار المؤرخ/ الشَّاعر لايكتفي بعيني غراب بصير في تنقيح أوراق التاريخ، الإرث الشّعري وإنما يستعير من مدينة هتكها البرابرة عينيها! فماذا يمكن لعينيْ مدينة فَتَكَ بها البرابرة أن تَهَبَ المؤرخ الشّاعر؟ هنا تتلاقى في المؤرخ خاصيتا البصيرة والتحمُّل، فالمدينة التي تعرّضت للبطش والدّمار لابدّ أن تعيد الحياة إلى أوصالها وتضاريسها بكلّ تؤدةٍ وصبر وعناد وهذا ما ينبغي أن يتسم به المؤرّخ، وهو يعيد تنقيح فضائح المؤرِّخين، فالتاريخ ليس إلا شكلاً من أشكال السّرد قد صِيْغَ وحُبِكَ والتأم بنوازع المؤرخين وتصوراتهم ورغباتهم، فهل يمكن للمؤرّخ الجديد، المؤرخ الشّاعر أن يعيد للتاريخ حقيقته؟ كأنّ النّصَّ يرى استحالة ذلك حتى بعد التنقيح والترتيب ففضائح التاريخ المركونة إلى التهويلات والبلاغة سرعان ما تستوطن خيال الشّعر وأبجدية الحجر، أي تشقُّ طريقاً آخر لكينونتها في صورة لغة الشّعر؛ حيث مخاتلات المجاز وألاعيبه! لكن شتّان ما بين التاريخ الذي يسرد الحقائق/ الأحداث وبين الشِّعر الذي يختلق العوالم الممكنة، بل المستحيلة في سرده. بناءً على ما تقدّم هل يمكن ترجمة العنوان في تأويل ليس بالأخير من قبيل: [ب/في عيني غرابٍ عجوزٍ أنقش، أرى (…..)]، فما الذي يشغل طيَّ الفراغ هنا؟ لاشكّ بأن تأويل هذا الفراغ (…..) حيث يتموقع [مفعول] الفعل بنصوص المجموعة سيكون تأويلاً ملائماً لواقع العنوان الرئيسي. من جهةٍ أُخرىوفي قائمة الفهرس تمكن الإشارة إلى عناوين أخرى تتوفّر على بُعد الإغواء والطاقة الشعرية: [حجر أجوف، خلاف بين عابرين، حانة أبدية، شمس منكوبة، حقيبة مليئة بالغيوم، من أتباع الرّيح، استرح من عشقكَ أيُّها القتيل]، فهذه العناوين أو بعضها تحقّق وظائف العنونة الشّعرية وهي برسم التحليل في قراءات مرتقبة.
III: الشِّعر في القصيدة:
تَكْشِفُ النُّصوصُ عن ثَراءٍ موضوعاتي مع توغُّلٍ في تضاريسها وتفاصيلها، البَحر، الرّيح، الشّارع، الحافّة، حجر، عزلة، وحشة، حقيبة…إلخ. وما يهمُّنا هنا في هذا المحور من القراءة كيف صِيغت هذه الثيمات في القصائد؟ وكيف نُسجت شعرياً؟ كيف يضيء الشِّعر موضوعه، القصيدةَ بوصفها مسكنه؟ فمسلك القراءة هي مطاردة الشّعر في القصيدة وفاءً لعنوان المحور. في هذا الصّدد يمكن لنا الوقوف لدُنْ قصيدةٍ بعنوان “صياد“:
الكلامُ مَكْمني واللَّيلُ كمائني
فمن أين ستعبر أيُّها المجازُ
كجثَّةِ وطنٍ فوق قَرْنَ أيِّلٍ؟
تهفوا إليَّ الرِّيَّاح، ويحنُّ المطرُ عليَّ بعوسج الحكاية،
فمن أينَ ستعبرُ أيُّها المجَاز؟!
البحر متنُ العاصفة.
العاصفة حاشيةُ البحر.
حطام السَّفينة على الشَّاطئ نقطةٌ في آخرِ سطر نصِّ البحر
والعاصفة. [ص 53].
ربما من أُوْلى سِمَات الكلمة الشِّعرية هي إحداثُ الغرابة، التي تقع هنا في القصيدة من خلال استثمار لعبة الانحراف والزحزحة بالعلامات عن مواضعها، ليظهر عالم القصيدة بألق جرّاء قوّة الاستعارة التي تشكل البنية التحتية، إن جاز القول، للقصيدة. إن البنية الاستعارية بوصفها تغييباً للمشبّه قائماً بالقوة في سياق النَّصِّ وترسيخاً لحضور المشبه به في اللعبة البلاغية تدفعنا إلى القول بأنَّ القصيدة تجسّد [شاعراً= المشبه] وليس [صياداً=المشبه به] على المستوى الثيمي، أي ثمة مضاهاة بين الشَّاعر والصياد فكلاهما يصطاد، يطارد الفريسة في اللغة أو البر/ البحر. هذا التشاكل يسمح بإحلال “صياد” محلّ “شاعر” غير أن معجمية النّص [كلام، المجاز، عوسج الحكاية، متن العاصفة، حاشية البحر، نقطة في آخرِ سطر نصِّ] تفضح الشّاعر المتنكّر في صورة صياد. إذ تمثّلُ القصيدةُ توصيفاً شعرياً للشّاعر في حدث الإبداع الشّعري: ليس ثمّة من حيلةٍ لاصطياد الكلمة الشِّعرية [المجاز] سوى الكلام والليل فاصطياد الفريسة يقتضي شِبَاكاً ووقتاً هادئاً، ليقع المجازُ في حوزة الصّياد الشَّاعر، لا مناصَ للمجاز من الوقوع في شباك الشاعر، لا مفرَّ له بكلّ الغرابة التي ترافقه في طريقه للعبور: المجاز فكرة، صورة، الشِّعر في ندرته وغرابته وسحره إذ يحضر: [المجازُ كجثَّةِ وطنٍ فوق قَرْنِ أيِّلٍ]، صورة لا مكان إلا لها في العوالم الممكنة والمستحيلة للخطاب الأدبي، صورة تمضي لتترى الصُّورة المدهشة الأخرى بتشابكٍ الرّياح والمطر كترميزٍ لحالة الخلق التي تنهمر ب [عوسج الحكاية]، بعوسج القصيدة أو بالقصيدة العوسج، القصيدة التي تسكن ضفاف الصعوبة من حيث إنَّ العوسج، نباتٌ شائك كتوصيف للقصيدة، رهنُ الولادة.يأتي المقطع الثاني توصيفاً للقصيدة المولودة إذ يغدو البحر متناً والعاصفة حاشية وحطام السفينة نقطة في آخر سطر، مشهد بصريٌّ، محاكاةٌ بين الحالة الإبداعية وحالة الطبيعة في ثورانها: البحر= القصيدة، العاصفة = الشروح، حطام السفنية= النقطة/ علامة الخاتمة وما أشبه الشاعر بصياد أنهكته القصيدة، الفريسة…!
إن الكلمة الشعرية تأتلق في تضاريس عددٍ آخر من قصائد المجموعة وعلى سبيل المثال [حجر أجوف، خلاف بين عابرين، تحرّش، كأس مهمشة …إلخ]، ولإجراءات التحليل سوف ندرج قصيدة “حجر أجوف” في لعبة التأويل للوقوف على الطاقة الشعرية التي تكتنزُ بها القصيدة وبتقسيمها إلى عدة شذرات حتّى يسهل التعامل معها في التّحليل:
لستُ لوحةً مُعلَّقةً على جدار صالونكَ
أو صورةً التقطْتَها بعدسةِ موبايلك.
ما عدتُ صورةً عابرةً في إحدى قصائدكَ.
آنَ أن تُنْصتَ لي
لا أن تُنْصتَ لصمتكَ فقط.
هنا؛ يمكن أن نتساءل مَنْ المتكلم؟ هل هو ال”حجر الأجوف” الذي يشرفُ على القصيدة؟ بدايةً؛ شعرية الشّذرة تنهض من خلال الأنسنة، فعل الأنسنة يهبُ لساناً للكائن الصّامت بهويته المجهولة حتى الآن لنا كقرّاء، ليخرجه من إسار الصّمتِ الذي يبتلعه، فيرفضُ أن يكونَ لوحةً معلقةً أو صورةً فوتوغرافيةً أو صورةً شعريةً في قصيدةٍ ما، كائنٌ يناشدُ آخرَ بالإنصاتِ إليه، يتكلّم لكي يُنصِتَ إليه المخاطَبُ الشاعر[قصائدكَ] لا أنْ يلتفَّ على ذاته، يلوك صمته فحسب. غير أنّ هوية الكائن المتكلم تشرع بالوضوح قليلاً:
هذا الهديرُ الَّذي يُطربكَ ويُحرِّضكَ على التَّأمُّل
هو جزءٌ من قلقي، كآبتي، حزني وآلامي.
هذا الهديرُ الَّذي يُلهمكَ كتابة الشِّعر
هو غليانُ أسئلتي، حيرتي، وانفجارُ ألغامِ الشَّكِّ والظُّنون في
أحشائي.
تتبدّى لنا توّاً صورة المشار إليه [البَحر] في النّصّ من خلال “الهدير”، العلامة التي تتجاوز كينونتها الفيزيائية إلى ما هو أبعد، إلى كونها حافزاً على الخلق لدى الآخر الشَّاعر حيث [المسرّة والنَّظر والإلهام] وتعبيراً عن أَهواء الكائن البحر ذاته؛ فالهدير ليس صوتاً فحسبُ للأمواه بل هو أمارات القلق، الحزن، الألم، الأسئلة والظنون…هذا التحوّل من خلال الأنسنة وإنطاق ما لا ينطق يندرج في سياق السّمطقة الشّعرية حين تغدو الطبيعة بكائناتها في حوزة الثقافة وتكتسبُ كينونةً جديدةً عما كانت عليه، لتلج من ثمّ في دائرة التفاعل مع الكائن الإنساني:
كلُّ شيءٍ في هذه الحياة صارَ باعثاً على الملل،
وأوَّلها أنت.
لا تضحكْ، كي أضحكَ.
لا تَبْكِ، كي أبكيَ معكَ.
لا تصمتْ، كي أتكلَّم.
لا تتكلَّم، كي أَصْمُت.
هنا تستمر الأهواء، الحالة الشُّعورية للبحر، في التعبير عن نفسها، التعبير عن الملل الذي يحيط بالبحر، التكرار الذي يفتك بإيقاع الحياة والكون، فلابدّ، كما لو أنّ البحر يَتَغَيَّ، من إخراج الحياة والعالم من هذا السّأم القاتل، ومن الفعل وردّات الفعل المتوقعة القاتلة للحظة الإبداع؛ لذلك يأتي التقريع:
أيُّها الحجرُ الأجوفُ الَّذي نَمتْ عليه الطَّحالب والأعشاب
ابقَ هنا، كما أنتَ، وكما كنتَ.
أنا من ينبغي عليه الرَّحيل.
هذا ما قالهُ البحر مُديراً ظهرهُ لي
مُتَّجهاً صَوْبَ الغروبِ الأخير. [ص 18، 19].
في هذا المقطع الأخير من النّصّ تأخذ هوية العنوان بالانكشاف والانجلاء إذ تنتقل من وضعية المجهول/ النكرة “حجر أجوف” إلى فضاء المعرفة “أيُّها الحجرُ الأجوفُ” ثم إلى تحوّلٍ أخير كتمثيلٍ رمزي للشّاعر ذاته، فما الحجر الأجوف إلا الشّاعر وهو بين يديْ البحر تاركاً ذاته للطحالب/ الأعشاب [نقوش الكتابة] أن تنمو، أو واهباً ذاته للسُّكون المهيب إزاء هذا الأفق الممتلىء بالأهوال والسّفر الأبدي، كائنان: حجر أجوف وبحر، بحر وشاعر في حوار الغروب الأخير حينما يقتنص الصّمت الكائن في وحدته.
IV: القصيدة في اقتصاد النّص:
لا ينفك اقتصادالنّصّ يحضر في الممارسات النَّصيّة الأدبية بكثافةٍ من خلال سياسات التكثيف المجازي والحذف والانضغاط والرّشاقة وهندسة النَّصِّ طباعياً بالصُّورة المثلى، وهذا ما يمنح القصيدة الشَّعرية بروزاً مائزاً، من شأنه أن يكثّف من اشتغال النَّصِّ الشّعري لحسابه الخاصّ. ولاريب أيضاً أن الحالة الإبداعية ليست بتلك القوة من الاستمرارية في أغلب القصائد، وهذا يمسُّ الكثير من نتاجات الشعراء. لذلك قد تغيب سياساتُ الكتابة اقتصادياً عن القصيدة لأسباب متنوعة ولاسيما فيما يتعلّق بالكتابة الشعرية أو “الكلمة في صوغها الشّعري” تحديداً، فتقع القصيدة في فخاخ النثرية والتراخي التركيبي والوضوح المنطقي مما يفتكُ بشعرية الكلمة الشِّعرية ذاتها. في هذا الصّدد نقعُ في جغرافيا نصوص المجموعة على مساحاتٍ نصية تفتقد إلى سياسات الاقتصاد النّصي كما في القصيدة الأولى “إعلانُ استقالَةٍ” في المجموعة:
تقول الكتابة: إنَّ خيانتها لي ردٌّ على خيانتي لها.
تتَّهمني بأنَّني أعمل مِهناً سِّيّئَةً أخرى، لا أُفصح عنها
أنا الَّذي قضَى نصف عمرهِ مخلصاً لها.
يا لها من جاحدة! وغادرة؛ طاولةُ القمِار الَّتي تُسمُّونها
الكتابة! [ص 8].
تحوز هذه الشَّذرة موقعها ما قبل الأخير في النَّصَّ وتحدث إرباكاً للغة الشعرية في النّصّ بنسجها الحالي الذي يحتاج إلى آليات الحذف والانضغاط والتغيير المعجمي، لكي تنسجم كثافةً شعريةً مع جسد النّص بصورةٍ عامةٍ على هذا النحو المقترح:
تهجس لي الكتابة: خيانتها ردٌّ على خيانةٍ.
أنا الَّذي قضَى ليلَ عمرهِ مخلصاً لها.
يا لها من غادرة؛ طاولةُ القمِار الكتابة!
على هذا النَّحو فاشتغال آليات الاقتصاد النَّصيّ قد أزاحت من الشّذرة ما لا يُسهم في تكثيفها، بل يضع المقطع برمّته خارج الشّعرية. لذا فقد جرى التَّشطيب على السَّطر الثاني [تتَّهمني بأنَّني أعمل مِهناً سِّيّئَةً أخرى، لا أُفصح عنها] المتضمَّن دلالياً فيمفردة “خيانة” ذاتها، ليأتي السطر الرابع: [أنا الَّذي قضَى ليلَ عمرهِ مخلصاً لها] في موقعه الملائم مع استبدال مفردة “ليل” بكلمة “نصف” لارتباط الكتابة بهدوء الليل ولإضفاء مسحةٍ من الغموضعلى السّطر، لتنتهي الشَّذرة على هذه الهيئة الجديدةبعد إزاحة السّطر الأخير من زوائده المعجمية: “من جاحدة! و…… الَّتي تُسمُّونها”، وهي زوائديمكن الاستغناء عنها بسهولةٍ.
في القصيدة الجميلة، الموسومة ب”بين معترضتين” تنجح النثرية أحياناً في ارتكاب وجودها والإسهام بتخفيض منسوب الطاقة الشّعرية للعلامات الشعرية نظراً لغياب آلية الحذف عن النص للتخلّص من المعجم الزائد:
مُتيقِّنٌ من أنَّني بين مُعترِضتَين في نصٍّ أَجهلُ كُنهَه ومَراميَه.
لا يُمكنني رؤية ما يوجد خلفي وأمامي مِن جملٍ وعباراتٍ
وأفكار.
لا يُمكِنني تحديد مَعنايَ الحقيقيَّ أو المَجازيَّ.
عاجزٌ تماماً عن فعلِ أيِّ شيءٍ.
لا شيءَ سوى الانتظار بين مُعترِضتَين
على أمل أن يأتيَ أحدُهم ويَحذِفني
ويحرِّرني مِمَّ أنا فيه.
رُبّمَا يكون الحاذفُ هو أنتِ أو أنتَ؟
ورُبمَّا لا تكونان. [ص، 10]
يمكن بتفحّصٍ دقيق الزجَّ بالمقطع في سياساتِ الاقتصاد النّصّيِ من دون المسِّ بمضمونه الشعريّ وكيفيات القول الشعري في التشكيل بقصدية إحداث انسجامٍ بينه وبين المقاطع الأخرى السّابقة واللاحقة له:
مُتيقِّنٌ أنَّني بين مُعترِضتَين في نصٍّ أَجهلُ مَراميَه.
لا يُمكنني رؤية ما يوجد خلفي وأمامي.
[ضربٌ من الظلِّ] مَعنايَ الحقيقيَّ والمَجازيَّ.
لا شيءَ سوى الانتظار بين مُعترِضتَين
من يأتي
ويحرِّرني مما أنا فيه!
وفي التّحليل حتّى تتكشّفَ أسبابُ الحذف يمكن القول: إن الترادف معنًى بين كلمتي “كنه ومرامي” أوجب الفتك بإحدييهما لتقوية العبارة الشّعرية ثم جرى الإجهاز على زوائد السَّطر الثاني [مِن جملٍ وعباراتٍ وأفكار.] لكونها تُفهم في حضورها من خلال عبارة “معترضتين وفي نص” ومن ثمَّ لا ضرورة لاحتيازها على الفراغ السيميوطيقي هنا. وفيما يتعلق بالسَّطر الثالث ومنعاً لتكرار عبارة: [لا يُمكِنني تحديد] فقد جرت ترجمتها إلى عبارة [ضربٌ من الظل] للإشارةِ إلى عدمِ إمكانية الحسم الدّلالية،ولذلك لا ضرورة للسَّطر الرابع [عاجزٌ تماماً عن فعلِ أيِّ شيءٍ.] طالما أنّ معناه مُتضمَّن في السّابق له. وعلى المنوال ذاته كثّفنا الأسطر الأربعة المتبقية من الشذرة في: [من يأتي/ ويحرِّرني مما أنا فيه!]، وبهذا الشكل، كما أرى، يستعيد المقطع انتماءه الشّعري وجماليته ضمن قصيدة “بين معترضتين” التي تستحقّ تحليلاً مستقلاً لطرافة الفكرة الشّعرية المنبثقة منها. من هذا المنظور يمكن الوقوع على بعض المساحات النّصية الأخرى([6]) التي تفتقدُ إلى كثَافاتِ الشِّعر والممارسة الاقتصادية للغةِ النّصيةِ، بلْ أَعتقدُ جَازماً أَنَّ الشَّاعر لن يمرَّ عليها مرورَ العَابر في حالة نشر مرتقبة.
وأخيراً؛ لا يمكنني الادّعاء في نهاية هذه المقاربة أنّني شملتُ بقراءتي مجمل نصوص المجموعة، فبعض النُّصوص تحتاج إلى تحليلٍ أعمق ووقفة أطول للإحاطة بجماليات الكلمة الشِّعرية لدى الشَّاعر هوشنك أوسي الذي تمتاز شعريته بالابتعاد عن التهويل اللغوي في هذه المجموعة تحديداً والاقتراب من المكان وسمطقته استعارياً كما في قصيدة “حجر أجوف” العميقة و”كأس مهمشة” وكذلك التعبير عن الذّات في علاقتها بالعالم في صور شعرية تبثُّ كثيراً من الأسئلة كما هي الحال في قصيدة “تحرّش” التي تمتاز بجماليات شعرية جلية للقراءة. [1]
([1]) هوشنك أوسي: بعيني غراب عجوز، عمان: خطوط وظلال للنشر والتوزيع، ط1، 2020. ومنعاً لتكرار المصدر سيجري توثيق المقاطع المقبوسة في متن القراءة.
([2]) ينظر أحمد بن عبد النور المالقي: رصف المباني في شرح حروف المعاني، ت: أحمد محمد خراط، دمشق: مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، د. ط. ت. حرف الباء.
([3]) بوريا ساكس: الغراب (التاريخ الطبيعي والثقافي)، ترجمة/ إيزميرالدا حميدان، مراجعة: أسامة منزلجي، أبو ظبي مشروع كلمة للترجمة، ط، 2010. ص 20.
([4]) المرجع نفسه، ص 24.
([5]) وإذا ما تأملنا النص تركيبياً سنجد أنه يتأسس على تكرار نواة تركيبية: [جار ومجرور+ مضاف إليه+ صفة+ فعل مضارع/ماض +فاعل+ مفعول به+/-] مع تكرار للفعل [يعيد] مرتين في السَّطرين الثاني والرابع وكان من الواجب إخضاع التكرار في أحد السطرين إلى اقتصاد بسيط للتخلُّص منه وإدخال التنويع على فئة الفعل: [ينقشها/ يحفرها وفق أبجديَّة الحَجَر].
([6]) علاوة على تلك المساحات فإنَّ عدداً من القصائد [أو المقاطع] تنتهي بالتركيب ذاته، المشار إليه هنا بين معقوفين مما يُدخل نهاياتِ هذه القصائد في ضربٍ من التشاكل/ التماثل/ التكرار الذي لا مبرر له إذ يفتك بالتنوع المرتقب للنهاية النصية للقصيدة…
1 يا لها من جاحدة! وغادرة؛ طاولةُ القِمار [الَّتي تُسمُّونها الكتابة]. ص8
2 وهذه الفضيحةِ الكبرى، [الَّتي تُسمُّونها الحياة]. ص17.
3 لم أكن هامشاً أو مَتْناً/ في هذه المَطْحَنة [الَّتي تُسمُّونها الحياة]. ص20
4 فلن يلتفتَ إليكَ أحدٌ بين هذه المقابر/ [الَّتي تُدعى السَّنوات]. ص 23
5من يشتري مِنِّي هذه السَّفينة [الَّتي تُسمُّونها الحياة؟]. ص35.
6 حانةٌ أزليَّة بعاهرةٍ واحدةٍ فقط، [اسمُها الحياة]. ص47