روناهي/ الدرباسية
كثيرة هي السبل والطرائق التي تسمح لإنسان أن يعبر عما يدور في نجواه، فعلى سبيل المثال يمكن للمرء أن يعبر عما في داخله عن طريق الكلمة، ولعل أكثر الوسائل ارتياحاً للقيام بهذا الغرض هو القلم.
فعندما يسيل نهر الحبر على الأوراق، تنطلق جميع المشاعر ليصدح صوتها في عالم لا يعرف الحدود، ولا يميز بين المسموح والممنوع لحظة ولادتها. فمن كلمة غزل ناعمة إلى كلمة تفعل فعل الرصاصة، تبقى الكلمة هي الملجأ الوحيد والصديق الأوحد لدى البعض.
وفي شمال وشرق سوريا ولدت أسماء كان لها وقع خاص في قلوب من حولها، حيث أنها استطاعت بكلماتها أن تغير مجرى أمور كثيرة كان من الصعب توقع تغييرها. فكم من كاتب وأديب وشاعر أنجبتهم هذه الأرض، استطاعوا أن يكونوا علامات فارقة في تاريخ وطنهم.
وأحد هؤلاء الأسماء هو لشاعرٌ عُرف باسم شاعر الساعة، وذلك لأن معظم قصائده تكون من وحي الساعة التي يعيشها، ويجسد أحداثاً يومية مميزة تمر معه، سواء كانت تلك الأحدث حزناً أم فرحاً.
إنه الشاعر سليمان طاهر خلف، من أبناء ناحية الدرباسية، ولد فيها عام 1951، حائز على إجازة في الجغرافية، عاش حياته في واقع مرير يعاني فيه من تردي الحالة الاقتصادية التي كادت أن تحرمه من تعليمه بالرغم من حبه للتعلم لولا مصادفات الزمان. بدأ بكتابة الشعر في العقد الثالث من عمره، وتحديداً في عام 1971 حيث كتب أولى قصائده.
أردنا أن نعرف أكثر عن حياة الشاعر سليمان طاهر، لذلك توجهنا إلى منزله والتقينا به، وكان لصحيفتنا الحديث التالي:
بنبرة مفعمة بالحب يحدثنا سليمان عن البدايات: “أحببت القراءة والتعلم منذ كنت صغيراً، ولكن والدي منعي من الالتحاق بالمدرسة، وذلك لكي أساعده في العمل نظراً لسوء حالتنا المادية وكثرة عدد أفراد عائلتنا حيث كنا 12 شخصاً في المنزل، ومارسنا العديد من الأعمال في المدينة، بدءًا من الأعمار مروراً بالطينة ورصف الشوارع وغيرها الكثير من الأعمال. وبالرغم من عدم التحاقي بالمدرسة، إلا انني كنتُ قد تعلمت القراءة والكتابة في المنزل.
بعد أن أتممت العاشرة من عمري، وبناءً على طلب الكثير من المعارف والأصدقاء، وافق أبي على إرسالي إلى المدرسة، ولكن نظراً لكبر سني لم يتم قبولي في الصف الأول، كما أنني لا أستطيع الالتحاق بصفوف أعلى ما لم أقدم وثيقة تثبت اجتيازي الصف الأول. لذلك وبعد محاولات كثيرة تم قبولي في الصف الثالث بناء على سبرٍ أجروه لي في القراءة والنحو والحساب.
سليمان أضاف بذات السياق: “في الشهادة الإعدادية نلت الدرجة الأولى على مستوى الجزيرة، وفي الشهادة الثانوية كنت قد تعرضتُ لمرض، لذلك لم أستطع متابعة دراستي بشكل جيد، ولكن مع ذلك حصلتُ على مجموعٍ جيد يخولني دخول الهندسة، ولكن لم أستطع التسجيل في أحد فروع الهندسة نظراً لفقر الحال، بالرغم من حبي لذلك الفرع، إلا أنني اضطررتُ للتسجيل في قسم الجغرافية بجامعة دمشق”.
الشاعر في معترك الحياة العملية
يتابع سليمان طاهر حديثه بالقول: “بعد تخرجي من كلية الجغرافية، عملتُ كمدرس للمادة في الكثير من مدارس الدرباسية، إضافة إلى المدارس الواقعة في قرى المنطقة وصولاً إلى جنوب الرد. وفي تلك المنطقة بالتحديد “جنوب الرد” بدأت بكتابة أولى قصائدي، والتي كانت تعبيراً عن الواقع المتردي الذي كنا نعيشه في تلك المنطقة، واعتمدتُ بعدها على هذا الأسلوب في كتابة الشعر، أسلوب الانطلاق من الواقع المعاش، حتى أنني عنونتُ أحد دواويني بعنوان: “من واقع الحال لا من وحي الخيال”، ابتعدتُ فيه عن الكتابة من الخيال، ومن ضمن قصائد ذلك الديوان كانت قصيدة “بطاقة شخصية” والتي تسرد بعضاً من ذكرياتي، حيث تقول:
“نشأتُ في داجيات البؤس
والكمدِ
وأسرةٍ تنتمي للفقر
والنكدِ
فوالدي عابسٌ للدهرِ
مكتئبَاً
مقطب الوجه من إفلاس
ذات يدِ
لو أن شمس الضحى
في وجهه نظرت ليوم
توارت ولم تُشرق
على أحدِ“
سليمان طاهر امتهن كتابة الشعر حباً للشعر، حيث أنه لم يسعَ يوماً للشهرة أو اقتناء الأموال، كما أنه رفض العديد من عروض نشر قصائد لقاء مبالغٍ مالية، وفي هذا الصدد قال:
“ولم أركب بحور الشعر
حتى أُكافأ بالدراهم
والثناء
فليس بذي بيانٍ من تراه
يُذلُّ النفس من أجل
الثراءِ
ولكن حيث تُثقلني همومي
يقوم بحملها حرف الهجاءِ
فينثرها على الأوراق شعراً
يخفف بعض همي
واستيائي”.
وحمل الديوان الأول الذي طبعه ونشره عام 1999 اسم “صدى الأيام”، أتت طباعته بعد إلحاحٍ من قبل الأصدقاء، فقام بإرساله إلى دمشق من أجل الطباعة، كما أنه كتب أربعة دواوين أخرى /مخطوطة/ إلا أن تكاليف الطباعة والنشر الباهظة منعته من طباعة تلك الدواوين.
المرض منعه من المشاركة في الفعاليات
سليمان طاهر تابع حديثه ببعض من الألم: “عُرض علي المشاركة في الكثير من الأمسيات والفعاليات الشعرية، ولكن مرضي كان يمنعني من السفر، فلم أشارك في مثل تلك الفعاليات، حتى أنني كُرمتُ غيابياً في إحدى الأمسيات، حيث شاركت فيها بقصدتين أرسلتهما مع أحد الأصدقاء إلى الحفل وكانت تلك القصيدتان قد نالتا الدرجة الأولى في ذلك الحفل”.
“الهم اليومي بأدق تفاصيله، لقمة الخبز، المعاناة، المرض، الغبطة والفرح وسعادة النجاح؛ كل ذلك عناوين ومفاتيح إبداع يومي لنصوص شعرية يبدعها سليمان طاهر”
الواقع اليومي… ملهم وهدف
أغلب الشعراء ينتهجون خطاً معيناً في الشعر، فبعضهم يمتهن الكتابة في المواضيع السياسية، والبعض الآخر تراه عائماً في بحور الغزل. إلا أن سليمان طاهر اختار أن يبتعد عن هذا التقليد، فكان إلهامه من وحي ما يمر به من أحداث يومية، فيقول: “لا أتقيد بنمط محدد في الكتابة، حيث أن أغلب قصائدي هي من تجاربي وتجارب الآخرين، حيث أن الكثير من الأصدقاء كانوا يمروّن بظروف حرجة ويطلبون مني تجسيد هذه الظروف في أبياتٍ شعرية فأقوم بذلك، كما أنني أكتب عن المواضيع الخدمية التي تهم المواطن، فعلى سبيل المثال كتبتُ ذات مرة عن الواقع المزري للكهرباء”.
وكانت قصيدتي الأخيرة عن قطع المياه عن مدينة الحسكة فقلت في بعض منها:
“لِلماءِ يَسعَى مَن يَغَصُّ
بِرِيقِهِ
فَإِلامَ يَسعى بَعدَ فَقدِ الماءِ؟
ما لي أرى النَّكباتِ
حَطَّت رَحلَها
في أرضِنا. وتَعَهَّدَت بِبَقاءِ؟
ما بالُها عَصَفَت بِأمنِ
بِلادِنا..
رِيحُ الفَسادِ
وأعظَمُ الأرزاءِ؟
لَم يَكفِهِم ما حَلَّ في
ساحاتنا
من كُلِّ فاجِعَةٍ
وكُلِّ بَلاءِ..
حَتَّى أزاحوا الماءَ
عَنها عُنوَةً
والماءُ أُسُّ مَعيشَةِ
الأحياءِ.
مليونُ نَفسٍ تَستَغيثُ
من الظَّمأ
ماذا جَنَت لِتَنَالَ
شَرَّ جَزاءِ؟
وعَقيدَةُ الإسلام
لا تَرضَى بِمَن
يَبغي الأذى والشَّرَّ لِلبُرَآءِ..”.
حري بنا أن نقول إن سليمان طاهر لم يتأثر كثيراً بأحد من الشعراء، بل إن موهبته كانت نتاج خبراتٍ ذاتية عمل على صقلها بنفسه، كما أنه لم يتعمق بقواعد وبحور الشعر إلا من وقتٍ متأخر من الكتابة، بل إنه أعتمد على أذنه الموسيقية التي كانت تكشف الأخطاء في القصائد حتى دون العودة إلى قواعد الشعر الرئيسية.
الشعر ماضياً وحاضراً
يرى الشاعر سليمان طاهر الكثير من الفروقات بين الشعر في الماضي والحاضر، فيقول: “سابقاً كان الشعر أكثر وزناً وأدق قافيةً، وهذان الجانبان هما الأساس في الشعر، بينما اليوم الكثير من شعرائنا يقومون بصف الكلمات فقط، ظناً منهم بأن هذا هو الشعر، فلا يأبهون لا بالوزن ولا بالقافية، ولا حتى بالمعاني في الكثير من الأحيان”.
الشاعر سليمان طاهر اختتم حديثه معنا ببعض الأبيات عن ماضي مدينته “الدرباسية” والذكريات التي عاشها في هذه المدينة، وقال في أبياته:
“مالت بوجهٍ عاتبٍ متجهمِ
ومشت تُودعُ حظها بتكتمِ
ما للصداقةِ ودعت أصحابها
وتبرقعت بغلالة المتشائمِ
من بعد ما ألفتهم زمناً وهم
ألِفُوا مُحياها بثغرٍ باسمِ
وتثاقلت في خطوها
وتنهدت
كتنهد المأسور داخل قمقمِ
وإذا بها تحكي حكاياتٍ
مضت
حيث ارتقت بصفائها
للأنجمِ
رحماك يا ميرا الحبوب
ترفقي
بفؤاد محزونٍ ودمعة هائم
لي في جوانبك القديمة
مرتع
ما عشت يسري عطره
في أعظمي
وتنزهٌ ودراسةٌ ومشاغلٌ
يا صخر لم أغفل
ولم أتوهمِ“.[1]