قامشلو/ عبد الرحمن محمد
وكأنما يخلق الله البعض والفن مزروع في جيناتهم يمتزج بدمهم ويسير في عروقهم، يُفطمون على حب الفن وعشق الثقافة، وأمثال هؤلاء لا شك يصبحون مبدعين وفنانين من الطراز الأول، وأحياناً أخرى تبرز عائلات تحمل عبء الفن على عاتقها وتعمل على نشره وإيصاله للعالم أجمع كما في عائلة الرحابنة في لبنان وعائلة شاكر في روج آفا على سبيل المثال لا الحصر، التي برز منها أساتذة ومبدعين كانوا مدرسة للموسيقا والفن الكردي.
عُرفت عائلة “شاكر” في روج آفا وكردستان ومنذ منتصف النصف الثاني من القرن الماضي بحبها وتعلقها بالفن، والعمل على نشره وتوثيقه وتطويره، وبرز اسم الفنان محمود عزيز شاكر كأحد أبرز المغنيين الكرد الذين أوصلوا الغناء والفن الكردي لبقاع شتى من العالم، إلى جانب اسم شقيقه الموسيقار محمد علي شاكر الموسيقار كأحد أبرز الموسيقيين الذين طوروا الموسيقا الكردية وأضافوا لها مئات الألحان والقصائد الغنائية، وأثناء تواجده في إقليم الجزيرة كان لنا معه حوار أعددنا من خلاله هذا التقرير:
ولدتُ عاشقاً للفن وكبرنا معاً
البساطة ودماثة الخلق والطيبة، الهدوء الرزين والتواضع، سمات سمعت بها عن الفنان محمود عزيز لكني لمستها وعشتها لساعات مع الفنان القدير محمود عزيز وهو يفتح صفحات من دفاتر ما يربو على نصف قرن في عالم الفن والغناء مبتدئاً بالحديث الشجي عن البدايات:
“ربما كانت عائلتنا مُحبة للفن بالفطرة، ولدت عام 1950في قرية من قرى الدرباسية، ومنذ الصغر كنت وشقيقي محمد علي محبين للموسيقا والغناء، وكنا نعشق العزف ولم نترك علبة صفيح فارغة أو أبريقاً، بل وحتى بعض الأواني المنزلية، إلا وحاولنا تحويلها لآلة موسيقية، كان جدي رجل دين ومؤذناً للجامع، بينما كان والدي مُحباً وعاشقاً للبزق ويعزف عليه، وكان ذلك مثار خلاف بينه وبين جدي لذلك كان يشجعنا أنا وأخي على تعلم الموسيقا والفن ليعوض ما فاته، وفي الثالثة عشر من عمري حصلت على أول ناي، وكنت أحفظ كل أغنية أسمعها غيباً وأعود لأغنيها مراراً وتكراراً”
عود الأستاذ ب 25 ليرة سوريّة!
يتابع مُحدثي حديث البدايات الشجي: “سمع أحد المعلمين في قرية مجاورة لنا لعزفنا بالصدفة، فاستحسنه، وعندما التقيناه وعزفنا له أثنى عليه واستعذبه، وقبل أن تنتهي السنة الدراسية اشترينا منه العود الذي كان بحوزته، وكان المبلغ المقابل /25 ليرة سوريّة/ جمعناها من كَدِنا وتعبنا، فقد كنا نعمل في الصيف في سقي المزروعات ونتابع دراستنا باقي أيام السنة، وكان شراءنا للعود بداية انطلاقنا، وبتنا “ندوزن” العود كيفما اتفق، وحسب ما نراه مناسباً دون دراسة ومعرفة، حتى إن محمد علي سافر لأجل ذلك إلى سري كانيه ليتعلم دوزنة العود وتعلم النوتة الموسيقية وبعضاً من أصول العزف وعاد ليُعلمني ما تعلمه على يد أحد العارفين بالعزف والموسقا، كان من أول الألحان التي عزفتها لحن أغنية أم كلثوم –أنت عمري- عام 1963 وهو من الألحان الصعبة جداً، بخاصةً لمبتدئ مثلي”.
رفقة الزمن الجميل وخطوات أولى على درب الفن
للرفقة في زمن الصبا ورفقة طريق الفن نقوش في الذاكرة ورسم في الوجدان لا يزول فهم أكثر من نحتاج إليهم حين تعبس الدنيا بوجهنا وهم من يُريح كاهِلنا المُتعب بالحنين والذكريات، ولا يُبارح الفنان محمود عزيز هذه المرابع باكراً فيُعرّج على ذكريات الزمن الجميل: “في سن الثامنة عشر تقريباً تعرفت على الشاعر الجميل والجريء يوسف برازي- بيبهار- وقبل ذلك ليس ببعيد تعرفت بالفنان التشكيلي والعازف الشهير عبد الرحمن دريعي، وكان الشاعر بيبهار سبباً في أن أُغني أغانٍ تخصني وبلغتي الكردية وفي مناسبة اجتماعية جمعتنا قال لي معاتباً إذا شئت أن تكون فناناً حقيقياً عليك أن تُغني ما يخصك ليكون ملكك وأن تغني بلغتك لتخدم شعبك، وفي وقتها دفع إلي بثلاث نصوص غنائية من كلماته كانت /كليزار وشينبو ريحان وته دليمن بر لي جاني/ لحنها أيضاً وقمت بغنائها لتكون بداية انطلاقتي في عالم الغناء، أما القدير عبد الرحمن دريعي فقد كان مرافقاً لي في الكثير من أعمالي وحفلاتي وكان معروفاً بعزفه الراقي على الناي، إضافة لحسه الموسيقي المُرهف وثقافته العالية عدا عن كونه فناناً تشكيلياً من الطراز الأول”.
من بغداد إلى بيروت وأوروبا رحلة فن مُتعبة:
الفن رسالة إنسانية ولغة عالمية، وعندما تتاح الفرصة لنوصل فننا للعالم فنحن نُعرّفهم بنا وبحضارتنا وثقافتنا، ولهذا كان الفنان محمود عزيز كسفير للأغنية والفن الكردي عندما أُتيحت الفرصة له للانطلاق إلى العالم وإيصال صوت شعبه إليه، ويتحدث عن هذه الفرصة بإيجاز: “في عام 1969 أتيحت لي الفرصة عبر أحد أقربائي /محمد أمين كيكي/ لأسافر إلى بغداد وأن أُسجل أول ثلاث أغنيات لي وهي تلك التي أهداها إليَّ الشاعر بي بهار، وبعد أن اجتزت اختبارات القبول، ومن ثم توجهت إلى بيروت وبرفقة الصديق سليمان حمو وكان من أهالي سري كانيه، وبعد جهود مضنية أسسنا فرقة خاصة بنا باسم /كوما سركفتن/ التي ضمت في بداياتها نخبة من قامات الفن والغناء أمثال الخالد محمد شيخو ورمضان نجم أومري ووزكي مارديني والفنانة /بروين- ثريا ملا أحمد/ وأقمنا الحفل الأول تحت رعاية رئيس الوزراء اللبناني وقتها صائب سلام، وبعد حوالي تسعة أشهر من التأسيس والتدريب وبتاريخ 18-12-1971م.، وكانت هناك فرقتان فنيتان أيضاً هي فرقة نوروز للفنان سعيد يوسف وفرقة كلستان للفنان محمد طيب طاهر، ولا يفوتني أن أذكر أنني غنيت أيضاً أغانٍ من ألحان كل من – بيبهار، محمود بكي، حسين شاكر، ولحنين يونانيين، ولحن فارسي وألحان فلكلورية- كما أنني غنيت من كلمات كل من بيبهار، جكر خوين، عمر العلي، خورتي كرد، دحام عبد الفتاح، محمود برازي، حميد قادو، دلداري شكو وأعتذر إن كنت قد أغفلت ذكر اسم أحد، وكذلك أقمت العديد من الحفلات في الأردن وشاركت في الحفل الذي أقيم بمناسبة اليوبيل الفضي لتولي الملك حسين للحكم فيها.
بعد عام 2000 تلقيت دعوات لزيارة أوروبا ومنها دعوة خاصة من نازلي جان المقيمة بألمانيا وهي معروفة بمساعدتها ومساهمتها في دعم الفنانين الكرد عموماً، وكانت فرصة ذهبية لأقيم العشرات من الحفلات التي أوصلت من خلالها الفن والغناء الكردي لأغلب الدول الأوروبية، وكنت ولم أزل مُصرّاً على الفن الملتزم والهادف وللأسف اضطررت إلى مغادرة حلب والهجرة إلى باشور كردستان، هنا أذكر إنني والموسيقار محمد علي كنا دوماً نغني للوطن والأم والإنسان والأصالة والقومية الكردية وملتزمين بكل قضايا الأمة والمجتمع”.
الفنُ عيب في الرجل وحرام على المرأة
في وقت كان الفن فيه عيباً في الرجل وحراماً على المرأة استطاع الفنان محمود عزيز شاكر وبعض رواد الغناء الكردي كسر تلك الحواجز وتمزيق تلك القيود والحواجز التي كان تحط من قدر الرجل والمرأة على حد سواء وبخاصةً المرأة التي حُرّم عليها مقاربة كافة أشكال الفن “عانينا في البدايات من حمل عبء الفن والغناء والكثير كان ينظر للمغني والفنان نظرة دونية حتى عندما كنا نُفكر بالزواج كانت بعض العائلات تمتنع عن تزويجنا وكأننا “نخب ثاني”، أما المرأة فقد كان انضمامها للفن والغناء “التياترو” يُعد من المحرمات والكبائر، رغم ذلك كانت البدايات مع تلك الفرق الموجودة حينها ثورة على الواقع، وكانت الفنانة بروين في فرقتنا، والفنانة شيرين ملا كانت في فرقة نوروز والفنانة سيفي برو متيني في فرقة محمد طيب طاهر، وهكذا تتالى انضمام المرأة للحراك الفني وكسرت تلك الأسوار التي أبعدتها عن الفن وهي منبع الفن والجمال والعطاء”.
فقدتُ نصفي الآخر لكني لن أتوقف عن العطاء
الأوضاع الحالية الاستثنائية أثرت وتؤثر بشكل كبير على مجمل الحراك الشعبي الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، يتحدث محمود عزيز عن هذه الناحية بكثير من الوجع ويضيف: “ما حدث ويحدث ليس بالهيّن، فقد تغيرت المعطيات والظروف وحتى الثقافات والاهتمامات الفنية وتفاصيل الحياة اليومية، الأزمة السوريّة شتتنا واحتلال سري كانيه أدمى منا القلب، فقدنا كل ما نملك فيها وفقدنا مدينتنا وبيوتنا وما عملناه وجنيناه في رحلة العمر، تعرض بيتي في حلب لصاروخ أتى على كامل البيت، وكذلك معملين صغيرين كنت أملكهما، وغادر أخي بيته ومدينته بما يرتديه من ثياب فقط، وتعرض بيته للنهب وضاع كامل أرشيفه وكتاباته وآلاته الموسيقية وبعض المقتنيات التي لا تُقدر بثمن، وفقداني لأخي ونصفي الآخر، كان ضربة صاعقة لي، تتالت الضربات الموجعة علي، لكنني لن أفقد عزيمتي، ولأنني لا أريد أن يضيع ما تركه أخي محمد علي، أنا بصدد تسجيل أربعين أغنية جديدة من كلماته وألحانه لم تسجل أو تنشر من قبل، وهناك الكثير من الأغنيات التي سأقوم بتوثيق ألحانها من جديد وهي قرابة 115 أغنية، وسبق أن غنيت له حوالي 170 أغنية، كان أخي محمد علي مستشاري ومرجعي الموسيقي وبعد رحيله أعتمد في ذلك على الفنان حسين شاكر الذي أرى فيه الكثير مما كنت أراه في أخي محمد علي، وفي القريب سأقوم بتسجيل عشر أغنيات بالتعاون مع مركز الثقافة والفن في الدرباسية والفنانين نوري علي وطارق ميرزا وغيرهم”.
أفتخر بشعبي وغني بما منحوني من محبتهم
في ختام حديثنا الذي طال ولم نملّه قال فناننا القدير: “مجموع ما غنيت وسأغنيه إن شاء الله سيتجاوز ثلاثمئة أغنية، هو عربون حب لهذا الشعب العظيم الذي يستحق الكثير الكثير، ما خفف مصابي بأخي كان الحب الكبير والتعازي والمواساة الصادقة من هذا المجتمع الراقي، أتمنى أن أحقق ما وعدت به، وأن أكون صاحب رسالة أتمنى أن اكون قد أوصلتها، الفن الملتزم والهادف هو الغاية والهدف، أنا غني بمقدار هذا الحب ممن حولي وشكراً لكل من أحاطوني بالحب والتقدير”.[1]