روناهي/ جل آغا: مكان يجتمع فيه الوطن والتاريخ؛ الأصالة والعراقة والذوق الرفيع، والإحساس المرهف؛ اللوحات الخشبية والحجرية والزجاجية التي تحمل في ثنايا تعرجاتها تاريخ الوطن؛ فزيتون عفرين يُغازل شمس سري كانيه ومجزرة الأرمن حاضرة في لوحاته، تسمع شكوى وآهات “حلبجة” ولا يغيب القائد عبدالله أوجلان عن مرسم الفنان “حسين العلي” في مدينة رميلان الذي يجهّز لمعرضه بموعد لم يعلن عنه بعد.
حسين العلي ذو الأربع والخمسين عاماً يمارس موهبته في الرسم التي خصته السماء بها منذ خمسة وثلاثين عاماً ليكللها بالتخرّج من أكاديمية دمشق للفنون الجميلة؛ لتصبح الموهبة فناً احترافيا دقيقاً مدروساً بشكلٍ علمي كما وقد حصل على شهادة للرسم من أكاديمية السليمانية في باشور كردستان أيضاً، وقام بعدة معارض جاب بها أنحاء الوطن من ديريك إلى كوباني لتمتد إلى أربيل ودهوك.
لوحاتي ترسمني قبلَ أن أرسمها
فما كان من صحيفتنا إلا أن قامت بجولة في مرسمه الصغير الذي لا تتجاوز مساحته الخمسة أمتار في غرفة تطل على شوارع رميلان العريضة لتتنفس فناً وذوقاً، وعراقة عند دخولك للمرسم الذي يجهز فيه العلي لمعرضه المنتظر؛ فكان سؤالنا الأول للفنان “حسين العلي” عن علاقته بالريشة واللوحة؟ ليجيب قائلاً: “أخطط لشيء وأرسم عدة أشياء غير مخطط لها فغالباً ما ترسمني اللوحة وتعبِّر عني، وتفهمني أكثر مما أفهم نفسي”. وأوضح العلي بأن لوحاته واقعية ولا تستند للخيال لأن الواقع الذي نعيشه أشد فظاعة من الخيال نفسه حسب تعبيره.
اللوحات تُعلِن صرختها الأولى بين يديه
وأشار العلي إلى أنه هناك قصة عشق تربطه مع كل لوحة من لوحاته التي يشعر وهو يرسمها؛ وكأنه ينتظر ولادة ولدٍ من أولاده؛ ينتظر أن يطلق صرخته الأولى بين أحضانه؛ كما وصرّح العلي بأنه يضيع بين خطوط لوحاته وسرعان ما يعود لتوازنه عندما ينتهي منها.
الخشب والحجر والزجاج ينطق بلوحاته
أما عن طريقة رسمه فيما إذا كان يستعمل الألوان الزيتية أم يستعمل أدوات أخرى، قال العلي: “أنا إنسان بسيط وعميق أحب الطبيعة وعطاءها؛ أبتعد عن الخداع والغموض والألوان الزيتية تخدع وأنا أحب الوضوح”. هذا وقد تابع حديثه أجد في الحرق على الخشب والنقش والتنقير على الحجر والزجاج عالمي الطبيعي البعيد عن التصنع، وأضاف العلي بأنه يوظف الطبيعة لخدمته فالخشب والحجر والزجاج يتكلم بين يديه في كل لوحة ينجزها؛ فالناظر للوحاته يذهب معها لعالم آخر؛ وذلك لصدق إحساسه الذي ينعكس على المتلقي.
القائد عبدالله أوجلان حاضر في قلبي ومرسمي
هذا وقد رافقنا بجولتنا في أرجاء المرسم لنقف عند عدد من اللوحات؛ ليكلمنا فيها عن إسقاطاته النفسية ولواعجه الروحية التي تحتضنها كل لوحة من لوحاته فكانت تحية الإجلال الأولى للوحة يبتسم فيها القائد “عبدالله أوجلان” ابتسامة تصميم وقوة يستمد منها الناظر كل ما هو جميل؛ فتحدّث لنا عما تعنيه له هذه اللوحة قائلاً: “أنه رمز السلام والأب الروحي لي”، وأكمل حديثه عن الشعور النفسي الذي رافق رسمه لهذه اللوحة حيث لم تنقطع دموعه عندما رسم هذه اللوحة؛ فكانت دموع أمل وعرفان بالجميل، وامتنان لشخص يعيش حياته داخل القضبان ليرسم هو ويفرح غيره ويتعلم الأخر”.
أما عن لوحة لأم القائد عبدالله أوجلان فقد علّق قائلاً: “هي أم لجميع أبناء الوطن وأنجبت رمز الأمة الذي يمنحهم الصبر والأمل على مواصلة الحياة وتستحق أن نصنع لها تمثالاً، وليس لوحة فقط”.
المرأة رمز للعطاء كما الوطن
أما عن لوحة أنثوية تتزين جبهتها بغصني زيتون وعنب وتتوشح بكوفية تمثّل التراث الكردي العربي فقد وضّحَ أسرار هذه اللوحة؛ بأن العنب والزيتون من أكثر الأشجار قدسية فكل بيت في أصقاع هذا الوطن يكاد لا يخلو منهما، والفتاة رمز للوطن والأغصان التي التفت حولها ما هي إلا تعبير عن الوحدة التي تجمع مكونات الوطن من كرد وعرب وسريان وأرمن متمسكين بجذورهم.
تاريخ المنطقة ترويه اللوحات
هذا وقد تابع العلي حديثه عن لوحات تمثّل مجزرة الأرمن حيث تجسد ذلك برسمه لأم حملت أولادها هاربة من وحشية وهول ما فعله بهم الأتراك. أما عن لوحة تمثّل مجزرة “حلبجة” التي لاقى فيها كرد العراق حتفهم على يدِ نظامٍ ظالم؛ حيث رسم أماً مع صغارها تحملهم على ظهر دابة رفضت استبدالها بسيارة فخمة لأنها ستصعد الجبل والدابة أقدر من السيارة على ذلك، حيث كان هدفها النجاة بصغارها؛ ليؤكد بأن هذه القصة حقيقية وحصلت مع إحدى النساء في ذلك الوقت.
الرسم رسالة إنسانية تحمل هموم الوطن
كثيرة هي اللوحات التي حملت أوجاع الوطن والنزوح وكذلك التصميم والإرادة والقدرة على متابعة الطريق؛ ومن أجمل لوحاته تلك التي رسم بها فتاتين مقاتلتين يسقط تحت قدميهنا وينهار مرتزقة داعش المزعوم؛ فأغلب لوحاته تحاكي الوطن والمرأة التي يعتبرها مثلاً أعلى للأمل، للعطاء، للطيبة فهي طاهرة كطهر الأرض.
فنان مبدع تتحدث رسوماته بكلامٍ بليغ؛ يصلك إحساسه وإيمانه بقضايا الوطن بمجرد النظر والتمعن فيها؛ يرسم في الظل ليعبّر عن نفسه لا تبهره الأضواء فعمله الفني يتحدث عنه؛ فالرسم عالمه الخاص الذي يرى العالم من خلاله فتحية طيبة لمن حمل الوطن بقلبه وفنه.[1]