في 1946، اجتاز الزعيم الكوردي ملا مصطفى البارزاني والثوار من أبناء عشيرته الحدود الإيرانية إلى أذربيجان. كانت بريطانيا وأمريكا قد أدارتا ظهرهما لهم ليقعوا في كماشة القوات الإيرانية. كانت قوات البارزاني مؤلفة من ألفي مقاتل مسلحين بأسلحة خفيفة ومدافع. كما كان معهم ألف من أفراد عوائلهم....
في 1946، اجتاز الزعيم الكوردي ملا مصطفى البارزاني والثوار من أبناء عشيرته الحدود الإيرانية إلى أذربيجان. كانت بريطانيا وأمريكا قد أدارتا ظهرهما لهم ليقعوا في كماشة القوات الإيرانية. كانت قوات البارزاني مؤلفة من ألفي مقاتل مسلحين بأسلحة خفيفة ومدافع. كما كان معهم ألف من أفراد عوائلهم. آواهم الاتحاد السوفييتي أول الأمر في مخيم، وأوفدوني للقاء البارزاني.
في 1947، أوفدني وزير أمن الدولة، آباكوموف، إلى باكو وكانت مهمتي منح حق اللجوء السياسي للعوائل والجنود وتوفير محلات إقامة موقتة لهم في قرى أوزبكستان التي لم تكن بعيدة عن طاشقند. قدمت نفسي إلى البارزاني على أنني نائب رئيس وكالة تاس والمتحدث باسم الحكومة السوفييتية، وأن اسمي هو ماتفيتش.
كان ذلك لقائي الأول مع شخصية من هذا النوع. كانت ملامح شخصية سياسية وقائد عسكري قدير بادية بوضوح على البارزاني. تحدث البارزاني عن قيام الكورد بثمانين انتفاضة على مدار مائة عام خلين، ضد الحكام الفرس والأتراك والعراقيين، وتحدث عن طلبهم المساعدة من الروس ستين مرة، ولم يحصلوا إلا على مساعدة متواضعة لا تتجاوز بعض قطع السلاح والقليل من العتاد.
كانوا قد عانوا الكثير خلال فترة حصار جمهورية كوردستان الديمقراطية من قبل قوات شاه إيران، محمد رضا بهلوي، فكان من المنطقي أن يطلبوا منا العون.
كل أقارب البارزاني الذين استدرجهم الشاه بدعوى التفاوض معهم، تم إعدامهم الحياة. ثم عندما طلب الشاه قيام البارزاني بزيارة طهران للتفاوض معه، طلب البارزاني ضمانة تتمثل بإيداع عدد من أقارب الشاه رهائن في مقر البارزاني. خلال تلك الفترة التي شهدت بداية المحادثات الأولية مع الشاه، باشر قسم يعتد به من قوات البارزاني مسيرة عسكرية صوب الاتحاد السوفييتي.
كان هدفنا استخدام الكورد لضرب النفوذ الغربي في الشرق الأوسط. لهذا اتفقنا مع البارزاني أن يسجل هو وعدد من ضباطه في الأكاديمية العسكرية السوفييتية، ولكي يرتاحوا من رحلتهم الطويلة المرهقة، أن يسكنوا في وسط آسيا ويعدوا العدة لتحرير كوردستان في كفاحهم المسلح المستقبلي ضد النظامين الإيراني والعراقي.
أمرني آباكوموف بإخفاء كل المعلومات المرتبطة بمحادثاتنا مع البارزاني عن الرئيس الإقليمي للحزب الشيوعي، باقروف، وخاصة وعود ستالين المتعلقة بالتربية العسكرية.
انطلق عدد من أتباع البارزاني من أذربيجان إلى أرمينيا لإنشاء محطة إذاعية هناك.
في نفس الوقت، عدت إلى موسكو بينما كان البارزاني وبيشمركته عزلاً واتجهوا مع أفراد عوائلهم إلى أوزبكستان.
بعد مرور خمس سنوات، وفي آذار 1952، أوفدوني إلى أوزبكستان لألتقي البارزاني في مكان قريب من طاشقند، حيث كانوا يقيمون. كان البارزاني منزعجاً من تصرفات المسؤولين الإقليميين، وطالب بأن يبادر المركز إلى حل مشاكلهم. كان يريد الحفاظ على استقلاليته وسلطته على الثلاثة آلاف شخص الذين كانوا معه والذين تم إسكانهم في المناطق الزراعية السوفييتية. فقد كان البارزاني يخشى أن ترتخي سيطرته عليهم.
جرى اللقاء بيننا في مقر حكومي. كان (نيكولاي زيمسكوف) معي بصفة مترجم، وكان يجيد الإنكليزية مثل البارزاني. في لقائنا التالي، تحدث البارزاني عن قيام السلطات الانكليزية والأمريكية برشوة القوميين الكورد سعياً لاستمالتهم. كما حدثنا عن اتصالات جرت بينه وبين جواسيس بريطانيين حاولوا استخدام أتباعه للتأثير على الأحداث في العراق وتركيا وإيران.
كانت خطتي التي صادق عليها وزير الشؤون الأمنية، إيغناتيف، أن أشكل لواء من 1500 كوردي وتدريبهم على تقنيات تخريبية لاستخدامها فيما بعد في إسقاط نظام نوري السعيد. فقد كانت عملية من ذلك النوع ستقوض مكانة البريطانيين ودورهم في العراق. كما كانت خطتي تشير إلى أن الكورد مؤهلون للسيطرة على المواقع الشرق أوسطية التي توفر النفط لأوروبا وأمريكا. فمن خلال تخريب الأنابيب الناقلة للنفط في إيران والعراق، كان بإمكان الكورد أن يخفضوا لدرجة كبيرة كمية النفط المصدرة.
وافق البارزاني على الدخول في حلف سياسي مع النظام السوفييتي على أن نقدم له كامل الدعم لإقامة جمهورية كوردية مستقلة تحادد العراق وتركيا وإيران. كان البارزاني يرى أن الأكثر واقعية هو أن تؤسس هذه الدولة أولاً في شمال العراق ثم يعلن الكورد في تركيا وإيران استقلالهم وينضموا بعد ذلك إلى جمهوريتهم الكوردية.
فقلت للبارزاني إنني لا أملك الصلاحية لإجراء مفاوضات بخصوص اتفاقية من هذا النوع، لكننا مستعدون للتمهيد لإعلان حكومة كوردية في المنفى. لكن رفيقي (نيكولاي مانتاجكا) الذي كان يعمل في مكتب مدير قسم الشؤون الدولية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، بوريس بونومارجوف، عبر عن الاستعداد لتأسيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني على مساحة عشرين كيلومتراً مربعاً في منطقة قريبة من طاشقند، وبين مانتاجكا للبارزاني كيف ستشكل هذه الحكومة اللجنة المركزية للحزب الجديد الذي سيرأسه البارزاني بنفسه.
لم أقل شيئاً خلال هذا الحوار، لكني كنت أنصت بدقة. بعد حوار دام ساعتين، أدركت أن الخطة واحدة من الخطط الخيالية الآيديولوجية التي رسمتها اللجنة المركزية في ستاراجا بلوسجاد. طلب مني البارزاني أن نزور معاً طاقم ضباطه، فدخلنا غرفة فيها ثلاثون شخصاً مصطفين على طريقة اصطفاف الحرس، وعند اقترابنا انحنوا جميعاً تحية للبارزاني.
في نيسان 1952، كان البارزاني محاطاً بأفراد عائلته ورجاله في مزرعة كبيرة بالقرب من طاشقند.
عندما عدت صحبة مانتاجكا إلى موسكو، تقرر أن يكون للكورد منطقة حكم ذاتي، وكان وزير الداخلية مكلفاً بتوفير التربية العسكرية لهم ومساعدة أقاربهم في الخارج على التواصل. حاولنا زرع جواسيس لنا في صفوف جماعة البارزاني وتجنيد بعض الكورد كجواسيس، لكن المسؤولين الأمنيين التابعين للبارزاني حولوا جهودنا إلى لاشيء.
استطاع زيمسكوف تجنيد ضابط كوردي إيراني كان يدرس في الأكاديمية العسكرية، لكنه اختفى وهو في طريق العودة إلى طاشقند. لم نتمكن من الاتصال به مجدداً ولا العثور عليه، فاقتنعنا بأنه انتهى.
للمرة الأولى أدركت أن القضية الكوردية ممتزجة بعملية بيروقراطية تحتاج إلى قرار من المكتب السياسي للحزب الشيوعي. أمرني إيغناتيف بالبقاء في مكتب مانتاجكا لحين الموافقة على الوثيقة التي تضم مقترحاتنا بهذا الخصوص.
في الحالات الطبيعية كان إيغناتيف شخصية محترمة ومتفهمة، لكن عندما أخبرته بأنني على موعد للاجتماع مع البارزاني في مقر إقامته بفندق في موسكو، وبخني وقال لا ينبغي الأخذ بإقرار اللجنة المركزية على أنه هام. توجهنا أنا وإيغناتيف ومانتاجكا للقاء مولتوفو وفيجنسكي لإقناعهما بالتوقيع على الاتفاق.
بعد كل اجتماعاتي مع مولتوفو وفيجنسكي شعرت بأن كبر السن نال منهما ولم يعودا نشيطين كما في السابق، لكنهما رغم ذلك أصرا على حذف فقرة من الوثيقة. كانا يؤكدان على أنه لا يجوز بأي شكل من الأشكال أن ترد في الوثيقة إشارة إلى أن وزارة الخارجية ملتزمة بأي تعهد متصل بالمباحثات المتعلقة بالقضية الكوردية. كما طالبا ببحث المسألة في المكتب السياسي وبناء على طلب وزارة الشؤون الأمنية وليس على طلب مشترك من وزارتي الخارجية والشؤون الأمنية.
حمل حارس هذه الملاحظات مع ذكريات جديدة في حقيبته، وطلبت من مانتاجكا العودة إلى مكتبي في أوبيانكا، لنعيد صياغة المسودة الأخيرة للوثيقة ووافق هو على طلبي.
في ربيع 1953 وقع حادث أمني جدي في أحد اجتماعاتنا مع البارزاني، كان البارزاني يتلقى دورة في الأكاديمية العسكرية بموسكو والتي كنت أدرس فيها أنا أيضاً. شاهدني البارزاني في بزة ضابط عسكري، فأشار إلي وقال لي من خلال الملازم الشاب الذي كان رفقته بصفة مترجم: سرني أن تفاوضت مع ممثل عن الحكومة السوفييتية يحمل رتبة عسكرية رفيعة، فتمنيت للبارزاني التوفيق في الامتحان الذي كان مقرراً أن يخوضه قريباً.
التقيت البارزاني مرة أخرى قبيل اعتقالي. كنت أمشي يوماً في شارع غوركي، فرآني البارزاني وكان يريد أن يحدثني عن مشاكله، لكني تظاهرت بأني لم أره وقبل أن يصل إلي أخفيت نفسي بين حشود المارة.
كان البارزاني يعي أن مستقبل الكورد مرتبط بقدرتهم وقوتهم في التمكن من التدخل في مصالح القوى العظمى في الشرق الأوسط. لكن ظهر فيما بعد أن القوى العظمى لم تكن تريد حلاً عادلاً للقضية الكوردية. لم يتم التعامل قط، لا في الكريملين ولا في واشنطن ولا لندن، مع مستقبل الكورد كقضية إنسانية. بل كانت آبار النفط في كوردستان هي المحرك للسياسات الخبيثة للشرق والغرب.
بعد ذلك، حل ميشيل سوسلوف محلي وواصل مهمتي مع البارزاني، كنا قد تعهدنا بإبداء دعم غير محدود لاستقلال كوردستان، وأن نطلب في المقابل قيامهم بإسقاط نظام نوري السعيد، لكننا في السبيعينيات أدرنا ظهرنا للكورد.
كان الأمريكيون أيضاً قد تعهدوا للبارزاني بدعمه في إسقاط نظام بغداد، لكنهم قطعوا دعمهم في وقت حرج جداً وراح الكورد ضحية لعبة مأساوية.
كان الهدف من زجي في المسائل الكوردية في الخمسينيات هو الإفادة من الحركة الكوردية في تجاذبات الحرب الباردة. كان تأسيس جمهورية كوردستان طريقة لحماية مصالحنا السياسية في الشرق الأوسط. كانت تلك طريقة لضرب مصالح بريطانيا وأمريكا وزعزعة مكانتهما في المنطقة، لكن ميزان القوى لم يكن في صالحنا.
عندما سقط نظام نوري السعيد في الستينيات (قتل السعيد في 1958، ويبدو أن هذه غلطة مطبعية أو توهم من الكاتب – المترجم) نتيجة انقلاب عسكري ساهمنا في دعمه، عثر الاتحاد السوفييتي على حليف أكثر أهمية من الكورد. فلم يكن البارزاني ومأساة الشعب الكوردي يخدمان مصالح الغرب والشرق، كما هي الحال مع إيران والدول العربية أحياناً، ترك الكورد في المنطقة كعامل تهديد، وكجزء من لعبة إقليمية تشارك فيها تركيا والعراق وإيران.
في الخمسينيات كان الكورد الحلفاء الوحيدين للاتحاد السوفييتي في المنطقة، لكن بعد ذلك أصبح العراق وسوريا حليفين ستراتيجيين لنا في سياسات الشرق الأوسط. الحل المعقول للقضية الكوردية هو استقلال محدود ضمن إطار ضمانة دولية. لكن لا الغرب ولا العالم العربي يريدان قيام جمهورية كوردية مستقلة تستحوذ على آبار الموصل النفطية.
عندما كنت في السجن، كتبت مقترحاً في 1963 حول الوضع في الشرق الأوسط طلبت من خلاله إحياء علاقاتنا مع البارزاني. فأبلغوني بأن مقترحي لقي القبول وقد تم تزويدهم بالسلاح والعتاد لتمكينهم من حماية مناطقهم من هجمات الجيش العراقي. رغم كل ذلك، فإن الحقيقة هي أننا فشلنا في اتخاذ الكورد حليفاً ستراتيجياً نسيطر بالتعاون معهم على الذين يحكمون العراق.
نشرته شبكة روداو الاعلامية[1]