عبد الرحمن محمد
شمل التقدم الهائل في التكنولوجيا والعلوم جميعها، فظهرت نتيجة ذلك الطباعة الإلكترونيّة، وتم تداول مئات الكتب الإلكترونيّة يوميّاً بأيسر السبل التي تخطت حواجز المنع والحظر، ما أدّى لانحسارٍ واضح في الاهتمام بالكتاب الورقيّ في كثير من المجتمعات، إلا أنّها لم تأخذ مكانه تماماً إذ مازال يحظى برغبة الكثير من القراء ويلقى إقبالاً مهماً.
مازال النهم والتعطش للمعرفة وحب القراءة بصورة خاصة مترسخاً في الأذهان، وبعد زوال الكثير من أساليب المنع وحجب الكتب وبخاصة ما كان يتصل بالقضية الكرديّة، فظهر العديد من الكتب بين الفينة والأخرى، والتي تتضمن في طياتها وبين أوراقها قصصاً وتاريخاً وأغنيات كانت قد وصلت إلى مشارف النسيان.«آفاق كونفدرالية- صفحات من نضال غربي كردستان» عنوانُ كتابٍ طُبع مؤخراً ضمن منشورات دار شلير للطباعة والنشر في قامشلو ومطبعة الشهيد هركول في ديريك، وهو مجموعة مقابلات أجراها الإعلاميَان في روج آفا «نسرين محمد وبولات جان»، مع رئيس اللجنة التنفيذيّة للكونفدراليّة الديمقراطيّة الكردستانيّة مراد قره يلان، وهو قياديّ بارز في حزب العمال الكردستانيّ.
تأتي أهمية الكتاب من ناحيتين هامتين: الأولى: شخصية مراد قره يلان ومركزه القياديّ وأبرز القادة في حركة التحرر الكردستانيّة، والذي عُرف بعمق نظرته وباعه الطويل في تحليلات وتأويلات السياسة في الشرق الأوسط. والثانية هي الفترة التاريخيّة التي أجريت فيها المقابلات بعد عام 2004م وما شهدته روج آفا والمنطقة من تغييرات جذريّة في سورية وعموم الشرق الأوسط.يتصدَّر الكتاب مقدمةٌ تتضح فيها جلياً معالم مضمونه وأهميته، وفيه توضيح بأن جوهر الكتاب هو ما تضمنته تلك الحوارات الخاصة بأوضاع روج آفا، وما كانت الحركة السياسية الكردية تعانيه من انتكاسات، وما كانت السلطة الاستبداديّة للنظام في دمشق تقوم به من قمع لكلّ ما هو كرديّ، وكذلك كانت هناك مراجعة نقديّة وصريحة لتصحيح المسار السياسيّ لحركة التحرر الكردستانيّة في روج آفا وسورية، وبخاصة بعد أن كُسرت شوكة التوجُّه القومي في العراق بعد التدخل الأمريكيّ فيها، وبعض الخلافات التي حدثت ضمن حركة التحرّر الكردستانيّة من الداخل وما أحدثته من بلبلة في الداخل، فكان لا بد من تقويم المسار والتوجّه الصحيح نحو أهداف واضحة وعلى طريق قويم.
كذلك يتضمن الكتاب تعريفاً بالقياديّ مراد قره يلان، مع لمحة من تاريخ نضاله والمناصب والمسؤوليات التي تدرج فيها وكما جاء في الكتاب: (مراد قره يلان، الاسم الحركي جمال، ولد سنة 1956م. في قرية «سقال توتان» التابعة لمنطقة سروج الحدوديّة في رها بشمال كردستان، خريج الكلية التقنية في عنتاب، تعرف على التيارات الطلابيّة اليساريّة ومن ثم على حزب العمال الكردستانيّ منذ بداياته وانضم إليه، وأوكلت إليه مهام قياديّة منذ بداية انضمامه وبخاصة في مجال تنقل الكوادر وتأمين عبورهم من وإلى معسكرات التدريب ومناطق باكور، وعمل في إدارة الحزب في جميع مدن ومناطق روج آفا، ومن أكثر العارفين بطبيعة روج آفا وخصوصيّتها البشرية والجغرافية، كما عمل لفترة في أوروبا وعاد منها إلى الساحة العسكريّة لقيادة الكريلا وبعد عام 1994تم تكليفه من قبل القائد أوجلان ليقوم بقيادة الحركة وإعادة هيكلة الحزب وتولّى رئاسة الهيئة التنفيذيّة لمؤتمر شعب كردستان. ويعرف قره يلان بصرامته وحزمه وشخصيته العسكريّة، فيما يخصُّ الشأن العسكريّ، لكنه معروف بروحه المرحة وثقافته الواسعة وسعة الأفق لديه أيضاً).وأما فصول الكتاب الستة التي يتم الحوار فيها فهي: «ماهية الكونفدرالية الديمقراطية، الكونفدرالية الديمقراطية في غربي كردستان، تاريخ نضال الحركة الآبوجية، العلاقات مع الدولة بعد فترة اعتقال القائد أوجلان، ظهور النهج التصفويّ وتأثيراته على غربي كردستان، النضال السياسيّ في غربي كردستان ودورPYD».
في الفصل الأول والصفحة 32 إجابة واضحة مختصرة تفتح الأبواب على نقاشات واسعة في إجابة قره يلان على السؤال التالي: «ماذا تقصدون بديمقراطية الشعوب»؟ الإجابة بشكل جلي ومختصر: (هي الديمقراطيّة التي تُتخذ فيها القرارات من الأدنى إلى الأعلى وليس العكس، حالياً تتخذ القرارات من الأعلى ويتمُّ فرضها على الأدنى أي يتم اتخاذها من قبل الحكومة، والمجلس في العاصمة الفلانية وعلى الجميع الامتثال لقراراتها، إنها ليست الديمقراطية العادلة، أما نظامنا الديمقراطيّ فإنه يقلب هذه المعادلة رأساً على عقب، حيث يتم اتخاذ هذه القرارات من الأدنى أي من القاعدة، وتنحصر وظيفة الأعلى بتسيير وتطبيق هذه القرارات و»كوما كوملين كردستان» هو النموذج الجديد الذي نتبناه ونجهد لتحقيقه في كردستان).
وكما قلنا؛ لحساسية المرحلة وما ظهر خلالها من تكهنات كثيرة وآراء متباينة، كان الاهتمام منصباً على الكرد وبخاصة في روج آفا، وعلى المصير الذي ستؤول إليه المنطقة والتكهنات حول ذلك، وفي الصفحة 42 إجابة على سؤال: «كيف سيكون شكل علاقة الكرد مع وضمن دول الشرق الأوسط؟», وتأتي إجابة قره يلان كالتالي: (يجب أن يكون هناك تقبّلٌ متبادل، من كلّ الأطراف، نريد أن نعقد العلاقات مع شعوب «الدول» المجاورة على أساس نظام الكونفدراليّة الديمقراطيّة، وهو شكل جديد للعلاقات على أساس أن تكون علاقة تبادليّة متساوية وليس أن تكون تحت حكمهم وأن يكونوا متسلطين وسادة علينا، وعليه سنبرم معهم معاهدة تقضي باحترام وتقبل كل طرف لدستور الطرف الآخر، فلنا دستورنا وكذلك لهم دستورهم أيضاً، وهذا هو أساس العلاقة الأخوية).وفي هذا المنحى نرى المحاولة الحثيثة والجادة لترسيخ ثقافة تقبل الآخر، على مبدأ أخوة الشعوب ونهج الأمة الديمقراطيّة التي تدعو الى التعايش والتكامل وتعدد الثقافات وتشاركها.يتناول الكتاب قضايا عدة شائكة في مسيرة حركة التحرر الكردستانيّة، ويطرح عشرات الأسئلة الهامة عن علاقة النظام التركيّ ونظام البعث في سورية، وسعيهما إلى إنهاء الوجود الكرديّ ومحاولات الصهر والقمع والتشتيت، وكذلك دور النظام في سورية بتسليم العديد من كوادر الحركة لتركيا، ويتعرض أيضاً لجوانب من المؤامرة الدوليّة التي أُسر على أثرها القائد عبد الله أوجلان وعبر عملية قرصنة، كما يأتي على ذكر الأخطاء التي وقعت في التنظيم آنذاك من انشقاقات وتغيرات في مواقف بعض القيادات والكوادر وفي روج آفا على وجه الخصوص، والحلول التي قُدّمت ووضِعَت لتفادي تلك الأخطاء الجسيمة والتغييرات التي حصلت للعودة إلى المسار الصحيح.
وفي إجابة واضحة على السؤال الأكثر إشكالاً وضبابية «ما هو الدور الأنسب الذي ترونه للدولة السورية وماذا سيكون دور الكرد فيه؟» فيقول في استشرافٍ لآفاق المستقبل واستناداً إلى خبرة نضاليّة عريقة تنبئ عن بعد نظر وعمق تفكير ودراية: (لا نقول إن سورية يجب أن تتحول فوراً إلى نظام كونفدراليّ فوراً، فهذا أمر يتطلب التطور التاريخيّ، نفس الشيء ينطبق على الكونفدراليّة في غربي كردستان، يجب قبل كلّ شيء بذل الجهود والمساعي لإرساء الأسس المتينة لهذا النظام وجذب الدولة للاعتراف به، بمقدور الكرد لعب دور الريادة والمفتاح في دمقرطة سورية وتطورها، هذا الدور يفرض على الكرد أن يكونوا صامدين ومبدئيين في نضالهم، لا أن يخدموا هذا الطرف أو ذاك كتابعين وأزلام، فالكرد ليسوا أزلاماً لسورية ولا لتركيا ولا لأمريكا ولا لغيرهم، الكرد سيكونون أحراراً لأنفسهم).في الحوارات التي يتضمنها الكتاب إجابات واسعة على تساؤلات كثيرة قد لا تخطر بعضها على البال، طرحها صحفيان متمرسان عُرفا بالمهنية العالية والجرأة والدراية الصحفيّة، وإجابات لشخصية سياسيّة عسكريّة في مستوى المنصب والمسؤولية الكبيرة، وتوضيحات لمشروع متميز أثار وما يزال يثير الكثير من النقاشات، ليس على المستوى الكرديّ فقط بل على مستوى الشرق الأوسط والعالم، وبخاصة بعد أن تركت المسألة السوريّة خلفها سبع سنوات من الأزمة والحرب والدمار، تداخلت وتشابكت خلالها مئات المعضلاتِ، وتأكد أنّ الكرد بعد ثورة روج آفا هم حجر الزاوية والشركاء الأساسيون في حل أغلبها.الكتاب يقع فيما يقارب المائتي صفحة من القطع الوسط، وهو الطبعة الثانية 2017م بعد أن كانت الطبعة الأولى في مطبعة القبس ببغداد عام 2006م وبرعاية مجلة الشرق الاوسط الديمقراطيّ.[1]