ملا محمود البايزيدي
والخروج عن المألوف
بقلم : محسن سيدا
يتبوأ ملا محمود البايزيدي مكانة متميزة ومهمة في تاريخ الثقافة الكردية، نظراً لما قدمه من نتاج نوعي للثقافة الكردية المدونة من جهة، ومساعيه الحثيثة لحفظ العديد من المخطوطات الكردية من الضياع والاندثار من جهة أخری، ناهيك عن محاولته التأسيس لمشروع ثقافي نهضوي كانت اللغة الكردية فيه محور هذا المشروع ولبَّه. إذ تشهد كتابات البايزيدي ومؤلفاته إصراره علی نقل اللغة الكردية من لغة الشعر والنظم إلی لغة النثر، وإعطائها مضامين جديدة وفسحة أوسع من فسحة الشعر العرفاني الذي استحوذ علی معظم الشعر الكردي، إذا لم نقل كله، والذي طبع الأدب الكردي الكلاسيكي بطابعه، ولا نغالي إذا قلنا إنه لا وجود لثقافة كردية كلاسيكية مدونة خارج دائرة الأدب، ولا وجود لأدب كردي خارج دائرة الشعر. وقد جاء البايزيدي، ولو متأخراً، لنسف هذه الصورة النمطية في الثقافة الكردية.
ولد ملا محمود البايزيدي بين عامي(1797- 1799) في المدينة التي حملت اسم أحد السلاطين العثمانيين وهو بايزيد الأول (1360-1430م) والذي اتخذ من المدينة مركزاً لرصد حركات جيش تيمور (1). وتعدّ مدينة بايزيد من الحواضن المهمة في الثقافة الكردية؛ فإلی جانب شهرتها بالسجاد الكردستاني وقلعتها التاريخية، فقد أنجبت العديد من العلماء والأدباء الكرد أمثال : أحمدي خاني (1651-1707م) و إسماعيل بايزيدي (1654- 1709م) و مراد خان بايزيدي (1737- 1784م). وإذا تأملنا سلسلة تواريخ أعلام هذه المدينة، نجد أن الكتابة باللغة الكردية لم تنقطع في هذه المدينة منذ عهد الشيخ أحمدي خاني حتی عهد ملا محمود البايزيدي.
عاش ملا محمود في هذه المدينة التي تعرضت للاحتلال الروسي مرات عدة (1828م) و (1854م) و (1877م)، كما أمضی شطراً من حياته في عهد حاكم المدينة الكردي بهلول باشا، وفيها درس العلوم الدينية كأبناء جلدته من الكرد، وتعلم اللغات الفارسية والتركية والعربية إلی جانب لغته الأم الكردية.
ترك البايزيدي مؤلفات عدة وصلنا قسم منها، وضاع قسم آخر. وأهم مؤلفاته هي :
1- تواريخي قديمي كردستان. وهو ترجمة الجزء الأول من كتاب (شرفنامه) إلی اللغة الكردية، ويستعدّ الباحث سعيد ديرشي حالياً لطباعة هذا الكتاب مع مقدمة عن حياة البايزيدي.
2- تواريخي جديدي كردستان، وفي هذا الكتاب بدأ البايزيدي كتابة تاريخ كردستان من حيث انتهی شرفخان البدليسي، لكن هذا الكتاب ما زال مفقود الأثر.
3- عادات ورسومتنامهء اكراديه، يتناول البايزيدي في هذا الكتيب أو في رسالته هذه، حسب مصطلح القدماء، عادات الكرد الرحل وتقاليدهم، وينتقد فيه مثالب المجتمع الكردي بجرأة قد لا نجدها لدی الكثير من المثقفين الكرد المعاصرين. وترجمت هذه الرسالة إلی اللغات العربية والتركية والفارسية والروسية، وقامت الدكتورة شكرية رسول بترجمتها إلی الكردية الجنوبية وطباعتها في بغداد عام 1983م.
4- رسالة تحفة النحلان في الزمان كردان أو رسالة تحفة الخلان في زماني كردان، غير مطبوع.
5-مجنون ليلی، وهي ملحمة شعرية في الأدب الفارسي والتركي والكردي، لكن البايزيدي صاغها نثراً عن قصة الشاعر الكردي حارث البدليسي، وليس عن النص التركي الذي يعتقد أنه للشاعر العثماني فضولي (2). فضلاً عن أعمال أخری موزعة بين الترجمة والتأليف والتدوين. وكان للبايزيدي نشاط سياسي إلی جانب نشاطاته الثقافية، فقد أرسلته الدولة العثمانية إلی الأمير الكردي بدرخان بك للاعتراف بحكم السلطان العثماني، وأوفدته إلی هكاري لغايات مشابهة. وعندما جاء خان محمود حاكم هكاري إلی أرضروم بناء علی دعوة رسمية وجهت إليه من قبل كامل بك حاكم أرضروم العثماني، كان البايزيدي مترجماً للأمير الكردي، واعتقل البايزيدي مدة 15 يوماً لاتهامه بالضلوع في الانتفاضة التي قام بها خان محمود ضد الدولة العثمانية(3).
ولإدراك أهمية نتاج البايزيدي ودوره الريادي في الثقافة الكردية لا بد من العودة إلی الوراء، وإلقاء نظرة علی مضامين وموضوعات المؤلفات الكردية التي سبقت البايزيدي، والمناخ الثقافي الذي شهد ولادة التأليف باللغة الكردية.
من المعروف أن الكرد تمكنوا في الحقبة الإسلامية من تأسيس دول وإمارات عدة، قامت بدور في الحياة السياسية والعسكرية للكرد، إلا أن الثقافة الكردية لم تزدهر في ظلها، وبقيت اللغة العربية هي السائدة في بلاطات هذه الدول والإمارات. ولم يحظ الكرد، علی مدی تاريخهم الطويل، بدولة قوية تسيطر علی أرجاء كردستان كافة وتفرض اللغة الكردية كلغة رسمية، كما فعلت الدولة الأموية في فرض العربية كلغة رسمية للسجلات والدواوين، والدولة العثمانية في فرض التركية العثمانية كلغة رسمية للدولة، ولا يستبعد أن بعض أمراء الكرد فكروا أو كان لديهم رغبة في جعل الكردية لغة رسمية لإماراتهم، لكن هذه الرغبات لم تتحقق علی أرض الواقع.
إن أقدم نص كردي وصلنا يعود تاريخه إلی عام 1400م تقريباً، وهو عبارة عن تراتيل مسيحية بسبع لغات مختلفة من ضمنها اللغة الكردية (4)، وإذا كان بعض الدارسين والباحثين يعدّون الشاعر بابا طاهر الهمداني – توفي في أواخر النصف الأول من القرن الخامس الهجري؛ الحادي عشر الميلادي- أقدم شاعر كردي وصلنا نتاجه، إلا أن الكتابات الكردية اللاحقة لم تكن امتداداً لنتاجه، لذلك لا يمكن اعتبار نصوصه الشعرية بداية للأدب الكردي، ناهيك عن الجدل المثار حول اللغة التي كتب بها بابا طاهر شعره.
شهدت كردستان في العهد العثماني استقراراً نسبياً، في ظل الإمارات الكردية المتمتعة باستقلال ذاتي، ساهم في بلورة المدينة الكردية التي بقيت محدودة الفاعلية في المجتمع الكردي كما تشير كتب البلدانيين المسلمين. كما شهدت هذه الإمارات حركة علمية انطلقت من المدارس الدينية وتكايا الشيوخ وزواياهم.
في ظل هذه التطورات التي شهدها المجتمع الكردي، ظهرت أجيال من الكرد لا يعرفون من اللغات غير الكردية، وفي هذا السياق يذكر الباحث معروف خزندار في كتابه تاريخ الأدب الكردي أن الشاعر الكردي حارث البدليسي كتب ملحمة مجنون ليلی نزولاً عند رغبة فتاة كردية لا تعرف اللغة الفارسية. إن حالة هذه الفتاة تجسّد ظاهرة شهدها المجتمع الكردي، ومن خلالها يمكن مقاربة الدوافع التي وقفت وراء التأليف باللغة الكردية الذي أصبح حاجة ضرورية لتلقين طلبة العلم (فقه) مبادیء الدين الإسلامي، فظهرت بعض المؤلفات الكردية ذات الصلة المباشرة بالدين الإسلامي مثل الصرف العربي باللغة الكردية لعلي الترماخي (ولد 1591-92 م)، وهذا الكتيب عبارة عن شرح باللغة الكردية حول الصرف العربي مع مقارنات من اللغتين الكردية والفارسية، أي أن غاية المؤلف هي اللغة العربية وليست الكردية، وإنما استخدمت الكردية كوسيلة إيضاح في فهم قواعد اللغة العربية، وكذلك منظومة نهج الأنام ل ملا خليل الأسعرتي (1753-1843م)، وهذا الكتيب بدوره عبارة عن ملخص لتعاليم الدين الإسلامي كتب نظماً وبأسلوب مدرسي مبسط. أما نوبهار للشاعر أحمدي خاني فقد وضعه لتعليم أطفال الكرد اللغة العربية وليست الكردية، والمفارقة أن الكرد اليوم يؤلفون المعاجم والقواميس لتعليم أبنائهم اللغة الكردية.، إضافة إلی العشرات من الموالد النبوية المكتوبة بالكردية وباللهجات كافة.
يستخلص من مضامين هذه المدونات السالفة الذكر، أنها كتبت لسد حاجة المدارس (حجره) الكردية، وكذلك تستخلص منها الدوافع الدينية ودورها في الكتابة بالكردية، وهذا الكلام يمكن سحبه علی كتب أهل الحق واليزيدية أيضاً. إلی جانب هذا الخط و المسار في التأليف باللغة الكردية، ظهر اتجاه قومي في التأليف جسده أحمدي خاني في مم و زين.
كان لا بد من سرد هذه النماذج من المؤلفات الكردية لفهم مكانة البايزيدي و أهميته في الثقافة الكردية، إذ لا تكمن أهمية[1]