في الغالب تغيّر العالم على أيدي أشخاصكانوا يبدون شاذين في أعين الناس. وبالفعل، ليس هناك عبقري إلا وفي سيرته عشرات المواقف التي تبدو لنا، نحن عامة الناس، وكأنها في غاية الشذوذ والانحراف.وفي هذا الإطار يذكر المؤرخون وعلماء النفس والإجتماع أن الأشخاص الذين يميلون إلى الالتزام بالأعراف السائدة، والذين يتميزون بالرتابة والمراوحة في المكان، هم أبعد الناس عن الإبداع والابتكار ومحاولة تغيير الواقع، بل هم ينزعون إلى تكريس حياتهم في تمجيد الواقع والمحافظة عليه مهما كان هذا الواقع.
لا يحتاج المرء إلى الكثير من الجهد ليثبت أنه أينما استوطنت الخطوط الحمراء والقوالب الجامدة والنواميس الثابتة غير القابلة للمسّ والتغيير، تحجرت معها العقول وباتت عاجزة عن الإختراع والابتكار والعطاء، وتقاعست النفوس عن البحث والاستقصاء، ودخل المجتمع في طور استهلاك الحضارة دون المشاركة فيها.وإذا ما رصدنا تاريخ البشرية على الأرض وصلنا إلى نتيجة مفادها أنهكل مَن تجاوز الخط الأحمر هو الذي وصل أولاً.لأن راسم الخط الأحمر في الغالب لم يكن مؤهلاً لرسم مثل هذا الخط، فوضعه في غير موضعه المناسب، جهلاً أو لغاية في نفسه.
كان ينظر إلى غابرييل غارسيا ماركيز، الكاتب الكولومبي الحاصل على جائزة نوبيل للآداب والمعروف بخياله الواسع وواقعيته السحرية، في طفولته وصباه على أنه معتوه. وفي سني شبابه وعندما بدأ يكتب القصص القصيرة والأشعار كان يلبس قميصاً مرصعاً برسوم الأزهار والفراشات،مما حدا بالكثير من الناس على اعتباره مخنثاً أو لوطياً. وقد عاش الكاتب خلال فترة عمره هذه التشرد والتردد على المواخير والإفراط في التدخين وتعاطي الخمر حتى كاد يفقد حياته مرة عندما نام في العراء في طقس بارد بعد الإفراط في الخمر، وأصيب على أثرها بالتهاب رئوي حاد كاد يميته.والآن يكتشف الناس كولومبيا من خلال غابرييل. أي أن غابرييل أضحى أكبر من بلده.
وكان بطرس الأول، القيصر الروسي المعروف، مصابا بالصرع، وينعته الكثيرون بالجنون، فأقام الرجل امبراطورية مترامية الأطراف ورفع من شأن الروس الذين كانوا قبله أمة مهمشة يتقاذفها التتار والمغولولا يحسب لها أي حساب.
ولم يكن نابوليون بونابرت أحسن حالاً من بطرس الأول، فقد كانت تأتيه هو الآخر نوبات من الصرع يفقد خلالها وعيه، فغزا نابوليونالعالم وانتصر في عشرات المعارك التاريخية الكبرى، وكاد أن يبسط نفوذه على أوروبا كلها، لولا غطسه في أوحال روسيا الشاسعة أولاً، ودهاء الإنكليز المنافسين له ثانياً، وقد عرف نابوليون بأنه أحد أعظم القادة الذين عرفهم التاريخ.
وقد كان ألبرت اينشتاين رب أسرة فاشل بامتياز، وكان لا يستحمم إلا لماماً، ويقضم أظافر يديه بأسنانه على الدوام. وهو الذي غير العالم بنظرياته عن النسبية، ويعتبر من أعظم العلماء الذين عرفهم التاريخ.
ويقال أن فولتير كان علىعلاقة جنسية محرمة مع ابنة اخته. ويصفه الكثير من النقاد بأنه صوت العقل في القرن الثامن عشر، ومهيء الأجواء لقيام الثورة الفرنسة الكبرى التي تعتبر من أهم الأحداث في التاريخ البشري.
وينبغي هنا إلقاء الضوء على عدة نقاط مهمة في هذا المجال:
أولاً: ليس كل مبدع هو شاذ أو مجنون، وليس كل شاذ أو مجنون هو مبدع. فثمة الكثير من المبدعين كانوا على درجة من الرزانة والرصانة والتوازن وحسن الخلق. كما أنه ثمة الكثير من الشاذين أو المجانين لم يشهد لهم أحد أن كانوا مبدعين. ولهذا ينبغي عدم الربط بين الإبداع والجنون وإن غلب على البعض المبدع سلوك خاص لا تستطيع العامة استساغته.
ثانياً: رب تسريحة شعر تعتبر شذوذاعند قوم. وبالمقابل رب ممارسة للمثلية ألا تعتبر شذوذواً عند قوم آخر. أي أن الشذوذ مصطلح نسبي تختلف دلالته من مكان إلى آخر وفقاً لثقافات الشعوب وأعرافها.
ثالثاً: ينبغي النظر إلى الشذوذ عند المبدع، فيما إذا كان شذوذاً حقاً،على أنه سلوك شخصي يعني صاحبه حصراً، وهو الذي يتحمل وزر أفعاله الشاذة وليس لأحد أن يلومه عليها مالم تكن مؤذية للآخرين.
تبقى الإشارة هنا إلى أن الدافع من وراء كتابة هذا المقال هو نقاش سمعته اليوم بين مجموعة من الأطباء من ذوي الميول الدينية،حيث لم يبق فنان أو كاتب أو مثقف عربي إلا ونعتوه إما بالجنون أو بالعهر إو بالإلحاد.[1]