يسرد الكرديّ هنر سليم روايته السيَريّة «بندقية أبي» على لسان طفل صغير يستعيد حياته الماضية، ونضالات أبيه على أرضه التي ظلّ متشبّثاً بها رافضاً أيّ شكل من أشكال الارتهان والانسلاخ عن هويّته، وكيف أنّ بندقيته التشيكية الشهيرة «البرنو» ظلّت ملازمة له، كأنّها قطعة من جسده، يشعر معها بالأمان والثقة والاطمئنان، ناقلاً تلك الحالة الرمزية إلى أبنائه، بحيث يستمرّ النضال بطريقة تواكب العصر، لتتحوّل الكاميرا- فيما بعد- إلى سلاح أشدّ فعالية وتأثيراً من البندقية نفسها.
يبدأ الراوي روايته (نشرت بالتعاون بين دار آفيستا في تركيا وجريدة باس نيوز في أربيل بترجمة سعيد محمود، 2015) بالتعريف بنفسه قائلاً: «اسمي آزاد شرو سليم، أنا حفيد سليم ملاي»، ويصف جدّه بأنه كان شخصاً في غاية المرح، ويصف حالته وهو على أرضه، مع تغيُّر الظروف والأحوال، وانتقال البلاد من تحت سيطرة حكم إلى آخر، وهو يعاصر تلك المتغيّرات باقياً على أرضه التي يتبادل التحكُّمَ بها آخرون كلّ مرّة.
يستعيد هنر سليم في عمله، الذي تُرجِم إلى قرابة أربعين لغة حتّى الآن - أهمّ المحطّات التاريخية التي مرّ بها الكُرد في العصر الحديث، منها- مثلاً- قيام جمهورية مهاباد في إيران، ثمّ الحروب التي خاضها الراحل ملّا مصطفى برزاني في مساعيه لتحقيق أحلام شعبه بالحرّيّة، مذكّراً بعدد من المفارقات التي حدثت، والتي كان الكُرد ضحيّتها، إذ كانوا يتعاملون مع السياسة الدولية بمنطق العاطفة والحماسة.
يستذكر سليم، من خلال راويه، حياة المقاتلين «البيشمركا» في الجبال، وانتكاساتهم وخيباتهم بالموازاة مع بطولاتهم وصمودهم، ويؤكّد على المقولة التي يؤمن بها الكُرد ويكرّرونها كثيراً «لا أصدقاء سوى الجبال»، المقولة التي اختارها هارفي موريس وجورج بلوج عنواناً لكتابهما عن الكُرد. وينتقل إلى عالم السياسة من خلال منظار الطفل الصغير الذي كانه، ثمّ من خلال عدسة المخرج الذي أصبحه تالياً.
يحكي الكاتب قصة خروجه من العراق إلى سوريا، ومنها إلى أوروبا، وهو لم يتمّ الثامنة عشرة من عمره بعد، وذلك بعد ملاقاته لكثير من التضييق والإزعاج من قبل السلطات البعثية التي كانت تحاول تجنيده ليكون في صفوفها، ورفضه المتعاقب لذلك، وإصراره على أنّه يريد أن يصبح رسّاماً، في الوقت الذي كان يتهرّب فيه من المواجهة المباشرة التي كان يعرف بأنّها خاسرة في ذاك الوقت بالنسبة له، ولاسيّما أنّه كان شاهداً على كثير من النكبات التي أصابت معاصريه وأباه الذي كان يعتمد عليه ملّا مصطفى بارزاني للعمل على جهاز المورس، لإرسال واستقبال الرسائل، وتفكيك شيفراتها.
لا يحاول سليم تعظيم والده، ولا إظهاره بمظهر المتفرّد الخارق، بل يظهره بصورته الطبيعية، يظهره ذاك الإنسان البسيط الذي كانت تنال منه الهموم والمصائب، وتبقيه كسير القلب والروح، يحكي بعض الحكايات التي كان يجده فيها أعظم رجل، بالموازاة مع بعض الأحيان التي يسرد فيها مواقف معينة له، يشفق فيها عليه لقلّة حيلته وانعدام وسيلته، يبرز فيه شخصية المقاتل الإنسان وربّ الأسرة الذي يدافع عن أسرته ووطنه في الوقت نفسه، ويحاول الجمع بين نضاليه هذين.
يذكّر سليم بالمطرب الكردي السوريّ الشهير محمّد شيخو الذي انضمّ إلى «البيشمركا» في الجبال، وسجّل العديد من الأغاني، وكان يكرّر أنّ النضال لا يكون بالبندقية وحدها، شاركه الطفل آزاد في الغناء. ويختم بالتذكير بالتأكيد على أنّ حقيبته الصغيرة ما تزال معه على ركبتيه، وفيها الزيّ الكردي، وشريط الأغاني الكردية، وكتاب الشعر الكردي. ويؤكّد أنّ آزاد لم يعد طفلاً.
يتذكّر سليم بداية تعرّفه إلى جهاز التلفزيون، ورؤيته له، وقراره، حينها، بجعل ذاك الجهاز ينطق بلغته الكردية، ذلك أنّه كان يبحث عن لغته بين قنواته دون جدوى، وتعاظم حلمه وهمّه بعد أن رأى السينما، فأصبحت الشاشة حلمه الذي يقضّ مضجعه، وسعى -بكلّ إرادته- إلى تحقيقه، وتمكّن من ذلك، بعد أن قام بإخراج أفلام سينمائية عن شعبه وقضيّته وحكاياته وأساطيره، نال عنها جوائز عالمية.
يختصر الكاتب- في نهاية عمله- مصائر أبطاله، وهي مصائر مرعبة بمجملها، تعكس القهر الذي عاناه الكُرد: شرو سليم ملاي فارق الحياة، ولم يتمكّن ابنه من حضور جنازته لأنّه لم يستطع العوده إلى بلده، لأنّه كان لاجئاً بعيداً منفياً عنه، وأمّه فقدت بصرها وعاشت وحيدة في منزلها، وهناك من الأهل من أُعدِم أو قُتِل أو هرب أو ما يزال يصارع في معركة حياته القاسية.
المصدر:مجلة الدوحة عدد حزيران 2015.[1]