الكتابة هي الملعب المكتظ بأزمنة وأمكنة لا نهائية أراها دفعة واحدة وكأنها سفر إلى ما لم يعد موجوداً
هل يشكل الصوت ذاكرة مكانية، بل هل تأخذنا تمتمات الجدات التي ترسخت في اللاوعي البعيد إلى الشعرية، إلى استحضار الصورة ورائحة وملامح المكان؟ تمتمات المرأة العارفة التي تفتح باب الصبر للدخول نحو الحياة، والتي تصلنا من اللاوعي السحيق؟
هكذا يمضي الشاعر ريبر يوسف نحو الشعر وعالم السرد، وكأنه يكتب أغاني المكان وألوان عباد الشمس التي تأخذنا إلى عالم فان كوخ. يكتب وكأن الأشياء تمطر وتحكي وتحتفظ بذاكرة من مروا، فنكون داخل نصوصه أمام مشهدية سينمائية مُشكّلة بالكلمات، يختار لها أحيانا موسيقى من أغاني المهد، ليجعلها حاضراً أبدياً. يمضي في نصوصه حاملاً تأملاته ومفرداته الخاصة التي يشتقها من تفاصيل صغيرة حوله، والأهم أنه يضع الكتابة موضع النافذة، أو باب البيت، ولا يمنحها موضع المخلّص، وكما يقول إن: إعادة صياغة وجود الكتابة وتحويلها إلى المنقذ هي الفكرة التي أساءت إلى الكتابة.
في أعماله المتتابعة يأتي صوت الداخل الذي يفتح باب الأسئلة الوجودية على معنى الحرية والحياة والمرأة والأرض وتفاصيل كثيرة لدرجة يطلق النص على لسان امرأة كأصل ووجود، فالصوت إنسان وحرية أيضاً، كل هذا يأتي بسرد وسؤال وشعر يسيل من الأرض حتى تمطر السماء.
هكذا يأخذه السرد إلى الرواية فيحكي المكان وقد أكلته الحروب والصراعات في رواية المريد الأصمّ يغوص في قعر الألم، تلك اللغة الألم التي يفكك من خلالها رموز صمت الضحايا، حكايا الصبر، وهنا يكمن تحدي الحياة وتحدي الكتابة.
#ربير يوسف# الكردي السوري، ابن مدينة #الحسكة#، كتب باللغتين الكردية والعربية ، وضمّن الأغاني الكردية في نصوصه. درس التصوير السينمائي، ويقيم في ألمانيا منذ 2009. أنجز الكثير من الأعمال الشعرية والروائية ومنها:
قصائد بحجم ابتساماتنا، من غصن إلى آخر يتنقّل القصف، حَجِلاً أعبرُ الحقل، مجموعة شعرية باللغة الكردية،قريباً تنهض الجدة، ماذا يقول دوار الشمس ليلا؟ له روايتان هما: المريد الأصم وعزلة الأرملة السوداء.
حول التجربة والعلاقة مع المكان والزمان كان لي معه هذا الحوار
- البيت الذي ولدنا فيه يبقى محفوراً بالذاكرة، هل تحدثنا عن بيت الطفولة الأول، المدرسة، عن مكانك؟ وما الذي يشكله لك المكان والزمان كبعد فلسفي وشعري ووجودي؟
--آباؤنا وأمهاتنا صنعوا لنا معابر على برك الماء التي تغمر الطريق إلى المدرسة، صنعوه من اللبنات والحجارة الفائضة عن حاجتهم؛ بنوا منها بيوتنا، وكان ثمة سحر في عملية تعاطينا مع فعل الذهاب الموثق برابط متين عبر أجزاء صغيرة هامة من بيوتنا. كانت هناك زاويتان تحملان ذات المعنى، الأولى امتداد بيوتنا العمودية نحو السماء، والثانية أفقية ممتدة على طول الشارع المغمور بالسماء المنعكسة في مياه الأمطار وشبكات الصرف الصحي المعطلة، ولاسيما بعد هطول المطر، فتبرق الشمس وتشع وتنعكس من الحجارة المتراصفة، فهل كنت جاحظاً متأملا في همَّ فكِّ اللغز وتلك الشيفرة؟ الرابط في فعل ذهابنا إذاً، كان الطريق إلى المدرسة جذوراً ممتدة من بيوتنا سيّارةً على مدى الطريق؛ لتفضي إلى حيث ركن المعرفة. كان الطريق إلى المدرسة مدرسة بدوره، نورٌ خفيٌّ نائم على آثار خطواتنا التي دلّت الزمن إلينا.
- الأغاني السرية عن الثوار الكرد، حدثنا عن الغناء، ماذا يعني لك الغناء - هذا الصوت الذي يأخذنا إلى الحب، للوطن وللذاكرة التاريخية وطقوس المكان؟ الغناء العربي، اللغة الكردية، اللغة العربية ماذا أخذت من هذا وذاك؟ الشمس النار وذاك البعد الزرادشتي والإيزيدي؟ وهل يمكن أن نقف من اللغة بشكل عدائي نتيجة موقفنا من الأنظمة؟
- - يكمن هنا بطريقة ما، إعادة تلك الصورة التي رافقت لحظات الطفولة: مشاهدة جدتي تدندن بعض الأغاني الكردية وهي تجهش ببكاء معلوم ومكتوم في اللحظة ذاتها، فكّرت طويلاً بذلك الركن الذي يصافح فيه البكاء الغناء على ألسنة الحائرات والمستسلمات. على مضض، تحوّرت قيمة الأغنية الكردية عندي، صارت حجة للبكاء، وكذلك البكاء صار شريكَ الغناء، لا أعرف كيف حدث ذلك، كيف تعمقت الأغنية في قاع الذاكرة والألم.
نتيجة ظروف تاريخية وسياسية بعيدة وقريبة، تحوّل الغناء السري لدى الكرد إلى وسيلة لتدوين الأحداث التاريخية، صارت نمطاً تعبيرياً يوازي الكتابة لدى العديد من شعوب العالم، لذلك وفي زمننا هذا، نلجأ في أحايين كثيرة إلى الأغاني الكردية القديمة لكي نتعرف على تفاصيل تاريخية وأحداث معينة. تحوّل الغناء لدى أجدادي إلى كتابهم الكبير السري والخفي في حناجرهم، انتقلت الأغاني من ألسنة الجدات إلى ألسنة الأمهات، فألسنة الحفيدات إلى ألسنة حفيدات الحفيدات وهكذا.
لدى الكثيرات من النساء الكرديات، تداخلت الديانات وتحوّلت إلى ماهية معقدة وسلسة في آن واحد، مثلاً: تشاهدين عجوزاً كردية مسلمة، تنوي إلى الصلاة باللغة الكردية، تقسم بالنار والشمس، وتحفظ بعض الجمل العربية لأنها مؤمنة بفكرة أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية داخل القبور والجنة. ثمّة سحرية عصية على الشرح والخوض في تفاصيلها يشبه بناء بيت من مواد لم تُبنى بها البيوت بَعدُ. على هذا النحو، مثلاً أيضاً لدى جدتي تداخلت الزردشتية والإيزيدية والإسلام والمسيحية واليهودية. ماتت دون أن تعرف ما إن كانت سنية أم شيعية أم علوية! كانت مسلمة وحسب، مسلمة من ذلك المنظور السحري المتداخل الذي يحتوي على تلك الديانات المذكورة جميعها.
أمّا حول الأغنية العربية، فهي سليلة تلك الحالة الإنسانية التي حصلت عليها من خلال اللغة العربية، هي بكل الأحوال لغتي الأم الثانية ولغة الثقافة الأولى لدي. كان الغناء العربي يسري من خلال ذلك الدرب، مع الأغنية العربية عشقت وكرهت وحزنت وفرحت وعبّرتُ، كانت الأغنية العربية مختلفة في ذاكرتي عن الأغنية الكردية، أي أن الأغنية العربية كانت غير موثوقة بالبكاء وحكايات الجدة والتاريخ في ذهني.
اللغة هي لغة الناس لا لغة الأنظمة الحاكمة، علاقتي مع اللغة قادمة من علاقتي مع بشر أشبههم ويشبهونني، قادمة برفقة تلك الجذور العميقة في القلوب.
*تقول :
بم تتمتمين يا جدتي؟
يضع الزمنُ حناءه الأحمر على شعري
لحظات الفجر الأولى أمشط في الأثناء خيوط النور على رقبة فرسي
ما هو الدهريا بني؟
- الجدة دائما والأرقام لكُردية تنهض في كتابك قريباً تنهض الجدة، وفي ظلالهن تغفو الأفراس ماذا يعني لك الرقم، هل نحن أرقام؟
- ككتاب قريباً تنهض الجدة هو عن جدتي التي قامت بتنشئتي ورعايتي وتربيتي مذ كان عمري عاماً واحداً إلى أن ماتت. كانت الأرقام الكردية هي أوّل ما تعلمته من جدتي، العد من الواحد إلى الكثير من الأرقام، لذلك حرصت على أن تكون هي شريكة الكتاب من خلال عنونة القصائد باللغة الكردية، بلهجة ولكنة جدتي. ثمّة أساب أخرى دفعتني إلى خوض هذه التجربة التي تكررت في كتاب آخر في ظلالهن تغفو الأفراس: محاولة تعريف القارئ العربي إلى شكل الأحرف في اللغة الكردية والأرقام، كما نعرف. اللغة الكردية كانت ممنوعة في سوريا بفترة حكم حزب البعث للبلد، حاولت بذلك فتح نافذة بين الكردي والعربي من خلال الأحرف الكردية.
تقول في رواية المريد الأصم : ما الحرب من دون صيحات المتظاهرين وهدير الطائرات الحربيّة وصراخ المعتقلين في غرف التعذيب؟ وكيف تتبدّى الموجودات والأفعال من دون أصواتها؟
- لماذا (المريد الأصمّ)، هل ثمة متصوف أو شيخ يمشي هذا المريد على خطاه؟
- تماماً، حاولت من خلال المُريد الأصم تغيير ذلك التفصيل المتعارف عليه، والذي يخصّ التلقّي والإيمان، ونقل تلك الحالة إلى كائن آخر أو مجموعة كائنات. الشخصية الرئيسية في رواية المُريد الأصم هي شاب أصم، اسمه (ي)، حاولت تغيير زاوية الرؤية لدى القارئ من خلال ذلك الاسم، أي إدخال القارئ في القاع النفسي والروحي للشخصية، الشخصية التي كانت مريد صوت خفي في نفسه وروحه سعى طويلاً في سبيل البحث عنه واكتشافه.
- يبدو واضحاً صوت الحرب في رواية المُريد الأصم بعنوانها الملفت، كيف رأيته؟ كيف ترى الوطن؟ هل ثمة وطن وهل تغيرت الصورة ولاسيما بعد 2011؟ ماذا يعني اليوم ورائحة الحروب والقوميات والطائفية تفوح بالخراب؟
- - ثمّة خيط واضح حول اللوحة التي رسمتها الحرب في سوريا داخل رواية المُريد الأصم، حاولت طرح مجموعة أسئلة تخصّ شكل الحرب داخل نفوس وقلوب الصُمّ في العالم، كيف يعيشون تحت ثقل الحرب؟ بمَ يفكرون؟ كيف يعرّفون الحرب. الحرب تعني دخول شخصية الرواية الأصم في مواجهة الصوت، الصوت الذي لم يعرفه أبداً، لم يدخل أذنه، كيف غيّرت الحرب كيان الشخص الأصم داخل الرواية؟ بطريقة ما حاولت طرح أسئلة لا متناهية تخصّ علاقة الصم بالحرب، بأصوات الطائرات الحربية وأصوات المعذبين داخل السجون، بصوت جرس باب البيت، وكيف يتحوّل جرس البيت إلى كابوس عند شاب أصم. من هذا المنظور تفكّكت الحرب داخل الرواية، صارت لا تشبه الحرب التي نراها ونسمعها نحن السميعين.
المكان يتغيّر كل ثانية، كذلك المرء، لذلك ما من مكان ثابت لدى المرء؛ الأمكنة التي أتوق إليها، تغيّرت ولم تعد موجودة بالأساس، بشر الأمكنة ونباتها وحيواناتها تغيّروا، حتى أنا تغيرت، أصبحت كائناً يعيش في زمن ويشتاق إلى مكان داخل زمن آخر لم يعد موجوداً، كذلك ليس في مقدوره إيجاد صياغة تدفعه إلى التأقلم مع مكانه الجديد، لأنني في اللحظة التي أكون فيها في المكان الجديد، أعيش من خلال ذاكرتي في مكانٍ آخر، لم ألتق قط بالمكان في زمن مناسب؛ ثمّة اغتراب دائم يخص هذه المعادلة المعقدة، يعاد صياغتها من خلال الكتابة وحسب، الكتابة هي الملعب المكتظ بأزمنة وأمكنة لا نهائية ومتعددة، أراها دفعة واحدة عبر الكتابة وكأنها سفر إلى ما لم يعد موجوداً.
- ريبر حكيلي عن مرجعياتك الثقافية البيت المدرسة الجامعة؟
- - استحضر صورة المدرّس في لحظة غضب، وكيفية معرفته بحركة التلميذ أو شغبه، وكذلك0 للون العسكري بكل ما يعنيه من غربة عن الطبيعة. كان مدرّس مادة الرياضيات يكتب بالطبشور ويراقب حركاتنا عبر البلور الموضوع على صورة حافظ الأسد المعلقة أعلى السبورة. كان حافظ الأسد عينَ وأذنَ المعلّم، وكان المعلم بمثابة حافظ أسد مصغّر داخل مدرسة الشهيد جان حجار ذات الحائط الشاهق والباب الحديدي المصفّح والمقفل، طيلة أوقات الدوام بسلاسل حديدية ضخمة إلى جانب قفل كبير. غالبية المدارس كانت بأسماء الشهداء، شهداء لم نكن نعرفهم، بل كنت أظنّ غالباً أن كلمة الشهيد تعني المدرسة في سياق الاسم ولا سيما أنها كانت على أغلب المدارس التي كنا نسمع عنها. (الشهيد، الحائط الشاهق، صورة حافظ الأسد، العَلم السوري، السلاسل، الشباك على النوافذ، العصا في يد المعلمين) كلها كانت المنهاج السري الباطني الذي بناه حزب البعث واشتغل عليه ليعزز فينا - نحن طلائع البعث كما كان يطلق علينا - فكرةَ الشهادة في سبيله. كنا جنوده السريين. تُرى ما هو السر الخفي الذي يربط ما بين الزيّ العسكري ولون السبورة؟ هي ذاكرة بصرية مستقبلية، حرص الديكتاتور على دمجها وربطها بذاكرة التلقين؛ عبر المناهج الرسمية (الكتب) والمناهج السرية (الوسائل). كان اغتراباً ما عشناه في سوريا، كان انتظاراً لليوم الذي نحياه الآن.
- في كتاب في ظلالهن تغفو الأفراس الذي صدر عن دار العين 2021. هل الفرس هنا بمثابة الجموح، صوت الأنثى صوت المكان؟ لماذا استبدلت الحصان بالفرس؟
في جميع الحكايات التي سمعتها على لسان جدتي، كانت مفردة الفرس هي الحاضرة دوماً، ومستبدلة بمفردة الحصان. فيما بعد، تيقنت بأن معظم النساء الكرديات اللواتي عرفتهن كنّ يحبذن لفظ واستخدام المؤنث من الخيل. الأمر الذي دفعني إلى استخدام مفردة الفرس في كامل الكتاب، هي محاولة سعيت من خلالها في سبيل إيجاد التشكيل النفسي لتلك المفردة المؤنثة لعلّها تكون عوناً نفسياً داخل القصائد تساهم بطريقة ما بالبحث في جماليات وأسباب تخصّ الاستخدامات تلك.
- ألا ترى بأن المرأة امرأة وأقصد السورية كبعد جغرافي وتاريخي مع خصوصية المكان والجغرافيا؟ ألا ترى أيضاً أن حمل الصبايا الكرديات للسلاح ظلم ما في أحد وجوهه؟
- - معظم النساء حول العالم عبر التاريخ دافعن عن أنفسهن ضد الغزاة والطغاة بطريقة ما، عملية حمل السلاح ليست مسجّلة باسم المرأة الكردية؛ عبر التاريخ ثمة نساء من جميع القوميات والديانات حملن السلاح بفترة ما للدفاع عن أنفسهن. القضية هنا بكل الأحوال تنتمي إلى معادلة الحفاظ على خيارات المرأة وتعزيزها، الفكرة هي أننا يجب أن نكون مع ما تختاره المرأة وبكافة السبل. أي أنّ التنظير في شرح ومعالجة مصائر النساء يدخلنا إلى عمق فكرة الوصاية عليهن. هنّ حرائر يذهبن إلى المدرسة، يحملن السلاح دفاعاً عن أنفسهن، يتحولن إلى معلمات، يتحولن إلى طبيبات. ليس في مقدوري التفكير حتى ما إن كان خيار حمل السلاح ظلماً أو لا، التفكير في هذا السؤال بمثابة العتبة الأولى في سلّم الوصاية على المرأة، وهذا ما يجب ألا يحدث.
- نصوصك قصيرة وكأنها أغنية تبدأ بحرف جر، حال، بعيداً عن الأفعال، هل الفعل الحاضر انتصار للزمن القادم، وهل ترى أن الزمن يحضر مكثفا في الآن؟
- - في معظم الكتب التي طبعتها، حرصت ألا تبدأ الجملة بالفعل قدر الإمكان؛ عملية الكتابة هي نتيجة عدم قدرتي على القيام بالأفعال، لو كان في مقدوري القيام بالأفعال لفعلت وعشت وما كتبت، لذلك كان لابد من إهمال الفعل دائماً وتأخيره وتوظيفه ضمن سياق اللاجدوى التي أؤمن بها، قدر المستطاع تبدأ الجملة في مشاريعي بالحال، الأسماء، أحرف الجر والصفات وغيرها. أحياناً أبدأ الجملة بالفاصلة كما في رواية (المريد الأصم). تلك المعادلة، أو، ذلك الشغل دفعني إلى هجر الجمل المنجزة في اللغة العربية، قدر الإمكان سعيت في سبيل إعادة بناء الجملة داخل النص، صارت الحالة هذه بمثابة رياضة دفعت صوب متعة لانهائية، متعة تشكيل الجمل كما تؤثر على نفسيتي لا كما تتداول ضمن سياقات متعددة. إلى جانب تلك العملية منذ بداياتي تقريباً، سعيتُ في سبيل البقاء خلال الزمن المضارع، هذا الذي يرافقني الآن ودوماً، كلّي إيمانٌ بأنّ (اللحظة/المضارع) حاملي الوحيد الذي ينقذني. خذلني الماضي كفعل ميت ومتقد في آن داخل ذهني، كذلك المستقبل اللامرئي الذي التفكير فيه وبه يشبه المقامرة. وجدتُ في عملية إمساك يدي والسير إلى جانب نفسي حلاً نفسياً أنقذ خلاله وبه ذاتي. الأمر شبيه بجوهر فكرة الخلق - بتصوّري - أي، بما معناه، ثمة مَن/ما خلقك ونفخ فيك ما ينبغي عليك عدم الخروج منه وعليه، فتشاهد نفسك تماماً على منتصف الطريق، ستفكر في قرارة نفسك: هل أعود؟ هل أمضي قُدماً؟ ثمة وحشان مفترسان يرافقان الكائن هما الماضي والمستقبل؛ الأمر الذي دفعني إلى البقاء خلال تلك الأرض الصادقة التي تمسك بيدي، أرض المضارع.
اشتغلت على هذا السياق في أغلب مشاريعي الكتابية تقريباً، إلا أنّ فكرة العمل عليه داخل رواية عزلة الأرملة السوداء كان تحدياً نوعاً ما، سألت نفسي مراراً، أثناء تفكيري بتقنيات الكتابة التي ينبغي عليها أن تحمل العمل بشكله النهائي: كيف سأكتب عملاً طويلاً دون التطرق إلى فعل واحد حتى في زمن الماضي؟ بدا الأمر فيما بعد سهلاً كما لو أنني أخوض نزالاً داخل أرضي/ ملعبي، في عالمي.
- الدكتاتورية هل قتلت مفهوم الوطن السوري هل نناضل لنكون مواطنين وكيف؟ وما دور الكتابة والقراءة، وهل ترفع الكتابة جداراً مهدوماً؟
كل ما حدث في سوريا - في زمن حزب البعث - حمل سمة محاربة الناس ككتلة واحدة، فقدَ الناس إمكانية التفكير بشكل جماعي، سادت روح الفردية عبر الوقت، لذلك فقدتُ الإيمان بكلمة نناضل؛ هذه الكلمة تضعني في سياق ألم العقود المنصرمة، صارت تبعث على القلق في نفسي، وصارت كلمة المواطن تبعث على البكاء والضحك في ذات اللحظة، اشتغل حزب البعث على تحوير هذه الكلمة، صارت ملكه أسوةً بكلمة الوطن.
لم تستطع الكتب حماية الناس عبر التاريخ، ولم ترفع جداراً هدمته الحرب، ولم تبنِ سياجاً حول المشردين والمقموعين، في الحرب، يشعل المرء النار ويسعّرها بالكتب أحياناً كي يحصل على وجبة طعام، لذلك ومنذ البداية آمنتُ بسؤال: كيف أنقذ نفسي عبر الكتابة؟ لم ينته السؤال بعد، ولم أُحظَ بجواب حتى اللحظة.
الكتابة ربما تأخذ دور باب البيت، نافذة، طاولة، جدار، وجبة طعام وشجرة في حديقة، أهميتها في النظر إليها كوسيلة لا كمنقذ، إعادة صياغة وجود الكتابة وتحويلها إلى المنقذ هي الفكرة التي أساءت إلى الكتابة وحاولت تحويرها وإنهاءها وتوظيفها. التغيير والبناء من مهمة المؤسسات، أما الكتابة فهي شكل من أشكال التعرف إلى نفس المرء كالتأمل في شجرة.[1]
موقع - سبا