مشهد سلس يشدك إلى جمال الهطول وأنت تسمع حبات المطر وهي تسقط على زجاج الخاطر، مع كل قطرة تنساب حكاية تخال أنك سمعتها ذات مرة لكن شوقاً دفين يغريك بقراءة المطر ثانية، لتجد نفسك تجري بلهفة في جدول يحمل أشياء مجهولة تنتمي اليك، خيالات سقطت منك منذ زمن، أسماء باردة تريدها أن تندثر، عناوين دافئة ما زالت تراودك، دقائق وتفاصيل في زوايا من حياتك لم تنتبه إليها.
مطر يسقط من غيمة جميلة، يغسل هضاب الصمت ليكشف عن حسرات كثيرة طمرناها تحت تراب المخاوف، حبات تسقي ذكريات مقتولة، قطرات لا تعرف الثبات تارة تعصف، وتارة تهدأ ثم تذهب بعجالة بحثا عن شحرور الحقيقة.
هذه همسات #هيفي قجو# تأخذنا في رحلة لنتعرف على بعدنا الآخر، من خلال مجموعة قصصية صدرت لها في كتاب بعنوان (بُعذٌ آخر طباعة دار فضاءات للنشر والتوزيع الاردن عمان 2019) وكتاب آخر يحملعنوان( أصابع العازف أو كصوت كناي بعيد طباعة دار النابغة للنشر والتوزيع مصر طنطا )2020.
في كتابك بعنوان بُعذٌ آخر، قرأت عصفورة تريد ان تزقزق شيئاً مختلفاً، حيث إنها امتلكت الجرأة لتفصح عما تمتنع الأنثى الإفصاح عنه، هل يمكن القول إن العصفورة آعلنت التمرد وقررت تجاوز التابو.
سواء أكان الإنسان رجلاً أم أنثى فمن حقه/ا الإفصاح عما يدور في أعماقه/ا من مشاعر وأحاسيس بغضّ النظر عن ماهية هذه المشاعر. ومجتمعاتنا الشرقية أسهمت بشكل كبير في تقزيم الأنثى وتهميش دورها ولم تترك لها مجالاً لتعبّر عما يدور في أعماقها بحجة الحياء والخجل. والأهمُّ من كل هذا وذاك الدّين (من حيث هو مؤسسة) الذي يكون بالمرصاد لكل أنثى تحاول التحليق بعكس التيار. نعم في مجموعتي القصصية الأولى والتي تعدًّ باكورة أعمالي؛ حاولت أن أقدم أنموذجاً للأنثى المتمردة التي تحاول أن تشهق بعيداً عن السائد. ولم تعد تعوّل على الرجل فقد رأت أنها ربما تفوقه ذكاء، هذه الأنثى تحاول أن تجد فضاءً مختلفاً تشكّل فيه كينونتها الأنثوية. فالجنس، الحب، الختان، الإرث، السياسة وقضايا أخرى شائكة باتت تؤرّق حياتها وتنهك كاهلها. واللجوء إلى خطاب يفكك هذه التابوهات بات ضرورةً، لتبدأ هذه الأنثى بخطوات واثقة، جريئة نحو تسطير مصيرها ومستقبلها.
استخدمت في مجموعتك القصيصة تكنيك اللقطة القصيرة المركزة، حيث شخوص القصة قليلون كما إن الحدث يدور حول موضوع واحد أو قضية معينة تقود إلى نتيجة تكون نهاية للقصة، هذا يتكرر في أغلبية القصص، حيث لم نجد شخصية من نمط آخر هل يرجع ذلك إلى أنك تسردين حكايات واقعية ولا ترغبين في تعديل أحداثها.
أرى أن سؤالك يهرب من التحديد ومسؤولية القراءة النقدية ومع ذلك دعني أوضح بصورة عامة: مجموعة(بعد آخر) مزيج من القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً أو (#هوامش سردية#)، الكتاب يحتوي بين دفتيه خمس عشرة قصة قصيرة واثنتين وثلاثين قصة قصيرة جداً. والحق أن القصة القصيرة تحتمل التغيير في الأحداث على خلاف القصة القصيرة جداً التي لا تحتمل ذلك؛ فهي تأتي مكثفة وعلى شاكلة ومضة لذلك لا مجال للتلاعب بها. أما من حيث ماهية القصص فأغلبها من واقعنا المعاش وقد حاولت في بعضها والتي تحتمل تعديل الأحداث فيها وقد عولت في ذلك على قناعاتي مرات وخيالي مرات أخرى.
كتاباتك على مستوى نص واحد مزيج من القصة والخاطرة، هي أقرب ما تكون إلى القصة الشعرية، هل هذا لونك المفضل أم هي ارهاصات لتجربة اكثر نضجا.
مرة أخرى أرى السذاجة النقدية في فهمك لعملي السردي؛ فعملي السردي القصير جداً ينطوي في إطار الهوامش السردية القائمة على تقنيات بعيدة كل البعد عن الخاطرة الأدبية هذا من جهة. ومن جهة أخرى بما أنكم تكتبون أيضاً ولكم تجارب كثيرة في الكتابة فإنكم تدركون أنه لا حدود للكتابة ففضاؤها شاسع ويغري من يمتهنها والكاتب/ة الذكي/ة يستفيد من كل تجربة تصادفه سواء واقعاً أو قراءة وهنا يأتي دور الخيال ولعبة الاستعارات التي تعطي للعمل جمالية فنية باذخة. وكما تعلمون قبل أن أجد ضالتي في القصة القصيرة جداً كنت أكتب الشعر لم أجد بداً من توظيف الشعر في كتابة القصة ومن وجهة نظري المتواضعة أجد أنني وفقت نوعاً ما في ذلك وأنتظر بفارغ الصبر القراءات النقدية لكتاباتي فوحدها تستطيع أن تحكم عليها بالنجاح أو الفشل.
وجدت في نصوصك معنىً ظاهرياً يسرد حكاية عادية محورها امرأة ظلمها المجتمع أو أحزنها الحبيب، ومعنىً باطنياً يحمل دلالات كونية نفسية وفلسفية واسعة المعاني تلامس البُعد الآخر للإنسان هل خافت هيفي الغوص أعمق في هذه الأبعاد اللامرئية.
الكتاب الأول قد يحمل وضوحاً في الدلالة بالنسبة للقصص القصيرة ولكن في الوقت ذاته وفي الهوامش السردية المرافقة ثمة غموض متقصد ومحاولة لتكثيف المعنى، فالمسألة هنا أيضاً مرهونة بالناقد الذي يحسن القراءة ولايطلق أحكاماً مسبقة.
أعتقد أن كل عمل كتابي بغض النظر عن أي جنس ينتمي فهو يحمل دلالة ظاهرية أخرى تحاكي العقل الباطن للقارئ فقد يكون النص في البداية والعرض بسيطاً وتأتي الفجاءة في الخاتمة حيث تتسم بالغموض. بالنسبة لي هذا لا يعني البتة أنني خائفة من الخوض في تابوهات محظورة عل العكس تماماً فقد تطرقت لها بكل شفافية وهذا يبدو جلياً في كتاباتي.
الحب، الجندرية ومواضيع أخرى حساسة وهامة، لكن ما أفقدها شيء من قيمتها أنها جاءت مكررة ومبعثرة ربما كان يحبذ أن تجتمع المضامين من نفس السياق في نص واحد ليكون أكثر تركيزا، مثلا سرديات اعتقال النساء هل كان بناء القصة لديك متكاملا.
أتمنى أن تعيد قراءة الكتابين فربما تغيّر هذه البساطة النقدية التي تحكم بها على نصوصي، فالنقد الأدبي أضحى يحيط بالنصوص الأدبية على نحو أكثر عمقاً مما تطرحه من أحكام نقدية. في الواقع لا أتفق معكم ، فكل موضوع من هذه المواضيع تحتاج مجلدات ولا أعتقد بمكان أن القصة القصيرة الواحدة تحتمل كل ما ذكرتمونه بين سطورها على العكس تماماً أجد أن تفرّد كل قصة بمسألة من هذه المسائل على حدة أسهم في تَمَوْضِعِ فكر القارئ في تلك المسألة واستشفاف الحل لنفسه والنهاية المفتوحة التي تركتها ساعدته في تخيل نهاية لها وعلاوة على ذلك فاللحظة الإبداعية لا ترتهن لمقاييس خارجية كما أن الأديب/ة لا يعمل/لا تعمل وفق هذه المقاييس المذكورة فالإبداع له منطقه الخاص. علاوة على ذلك فموضوعة الحب هي ذاتها ولكن تتجلى بأشكال متنوعة من المعالجة الأدبية.
تميزت نصوصك عن الغربة بأنها قصص واقعية تخص مهاجري 2015 وما بعد، حيث وفقت بالوقوف على قضايا ومشاكل خاصة بهم تختلف عن شؤون المغتربين القدماء، هل نسميك سفيرة المهاجرين الجدد.
هذا يتجلّى في الكتاب الأول(بعد آخر(
أودُّ أن أنوّه هنا أنني كنت على احتكاك مباشر مع المهاجرين والمهاجرات من خلال عملي الطوعي ما يقارب العامين، الأمر الذي ساعدني على توظيف ما يواجهه المهاجر/ة من أمور في حياته/ا في نصوصي السردية وفي كثير من المرات كنت أُسقط هذه الأمور على نفسي وأغدو بطلة النص. أي باستطاعتي أن أقول كنت أكتب ذاتي الأنثى وأتقمّص دور المهاجرة وأدوّن كل ما أشعر به على ذلك البياض الجامح. بالنسبة للقب سفيرة المهاجرين الجدد؛ فالأمر لا يهمّني.
في كتابك الثاني أصابع العازف ثمة أنثى تعزف ذاتها حدّ التماهي، ومضاتها مبهرة وما يعيبها أنها تتكرر ولو اختلف العنوان، حيث لم أجد مضامين وألوان مختلفة إلا في الربع الأخير من الكتاب، ما رأيك ربما في لحظة شجن أثقلت نصوصك بكثافة التكرار.
أعتز كثيراً بمجموعتي الثانية(أصابع العازف)، لكونها تعكس كما أتصور تطوري على مستويات الأسلوب والعنونة وبدايات النصوص وخواتيمها وتحديداً في مستوى الموضوعات على عكس ما وصفت تماماً فالكتاب يتوزع على محاور أربعة تدحض تماماً ما انتهيت إليه في قراءتك المتسرعة. من جهة أخرى إذا كنت تشير إلى موضوعة الحب هنا فهو الموضوع الحاضر الغائب في حياتنا اليومية، بإمكاننا أن نتكلم عنه متى شئنا وأنى ذهبنا، يفترض بالحب ألا يقيده زمان أو مكان، الحب في كل قصة من مجموعتي الثانية أصابع العازف أو كصوت نايٍ بعيد! يتجدد مع شخوص القصة ويتنوع مع أمزجتهم
تقدمين قصص حية شخوصها حقيقيون، وغالبا ما تكون مضامينها مسائل فعلية، ولكن أثناء المعالجة الدرامية تقفين على الحياد دون تبديل مصير شخوص القصة أو تغيير أحداثها، هذا يسمى خبراً صحفياً وليس عملاً أدبياً، إذ إن جمال النص الأدبي يكون في مهارة كاتبه في اللعب به، أم أنك تجدي أنه ليس من مهام الكاتب تقديم الحلول لقضية.
المشكلة في قراءتك أنها فضفاضة وتفرُّ من المساءلة النقدية الجادة التي أبحث عنها. ومع ذلك هذه وجهة نظركم وما علي إلا ان أحترمها، لكن أرغب في التنويه إلى أنني حين أنتهي من كتابة نص أدبي أخضعه لضغوطات جمّة فأحاول أن أقدم للقارئ/ة نصاً متكاملاً من حيث الجمالية الفنية، زخم الصور والاستعارات وكذلك لتشذيب وتصقيل حيث يخرج النص في صورته الأخيرة. وهنا يأتي دور الخاتمة والتي أحاول أن تكون غير نمطية وتفاجئ القارئ/ة، وغالباً كما نوهت أنني أترك النهاية مفتوحة لخيال القارئ/ة الذي بإمكانه أن يجد الحل كما يشاء. مهمة الكاتب/ة هي تسليط الضوء على القضايا التي يعاني منها المجتمع وتثقل كاهله والكشف عن الأمور المسكوت عنها وليس تقديم الحلول فوظيفتي ككاتبة أن أصوغ المسألة في صيغة جمالية تلفت انتباه القارئ. من جهة أخرى في قصة (حافة النهوض) تركت شخصية المرأة المغتصَبَة تتطور بطريقة فنية لمسها كلّ من قرأها. في النهاية جزيل الشكر لكم.[1]