وصل المخرج الأسكتلندي من أصل كردي سوري #بيري إبراهيم# إلى بريطانيا قبل حوالي ثلاثة عقود، وقرر تحقيق حلمه بأن يصبح سينمائيا، فبدأ بدراسة السينما في جامعة غلاسكو في أسكتلندا، ونال فيها شهادة الدكتوراه، ثم أخرج العديد من الأفلام التي حاول أن يمزج فيها بين العالمين اللذين ينتمي إليهما: الشرق والغرب.
بيري إبراهيم الذي شكل الشرق طفولته، وبنى الغرب شخصيته وأكسبه العلم والمعرفة، يجد نفسه مدينا للعالمين وساعيا إلى إجراء تجسير بعض حالات سوء الفهم بينهما.
وبمناسبة انتهائه من فيلمه الأخير M6، التقت الجزيرة نت المخرج الذي يعد واحدا من مؤسسي مهرجان حقوق الإنسان السينمائي الدولي في غلاسكو، وأحد المحكمين فيه لسنوات، وكان عضو لجنة تحكيم ولجنة اختيار الأفلام في مهرجان لندن السينمائي وفي مهرجان إدنبره السينمائي وفي مهرجان بروكسل السينمائي للفيلم الأوروبي.
-لا تخلو البدايات من مشقات، حدثنا عن تلك المرحلة والشغف السينمائي الذي ظل ملازما لك منذ الطفولة؟
كانت البداية من الأغاني الملحمية الكردية حين كنت طفلا في مدينة الدرباسية في سوريا، كانت هناك دار سينما صيفية، وكنت أجلس بجانب الجدار وأستمع إلى الأصوات، ثم أحوّل تلك الأصوات إلى صور أتخيلها. كانت الحرية الاجتماعية مقيدة حينذاك، وكانت نظرة الناس للسينما والسينمائي مشوبة بالانتقاص، لذلك كانت الحالة النفسية قاهرة، وكنت أحاول معالجة حالتي بالاستماع إلى الأغاني الملحمية التي أعتبرها أفلاما شفاهية مروية.
حين ذهبت إلى بريطانيا قبل ثلاثة عقود، قررت دراسة السينما، وكان أهلي مترددين في إعلان أن ابنهم يدرس السينما، فقد اعتاد الناس أن يدرس المغتربون إما الطب وإما الهندسة
حين وصلت إلى بريطانيا قبل قرابة ثلاثة عقود، كنت مدفوعا بواجب اقتفاء أثر حلمي لتحقيقه، والسعي للاندماج في المجتمع الجديد الذي سأعيش بين ظهرانيه. قررت دراسة السينما، وكان أهلي مترددين في إعلان أن ابنهم يدرس السينما، فقد اعتاد الناس أن يدرس المغتربون إما الطب وإما الهندسة، ثم حين زارني أبي وأمي وحضرا معي مهرجان لندن السينمائي الذي افتتح بعرض فيلمي، كان هناك عدد كبير من الجمهور، وحين الانتهاء من عرض الفيلم، كان التصفيق حارا جدا، فكانت دموع الإعجاب والبهجة تنحدر من عيون والديّ، وحينها أدركا قيمة الفن السينمائي، وتغيرت قليلا نظرتهما لدراستي. ومن جهتي فإن ارتباطي بالسينما يحقق لي كينونتي.
-ماذا عن دراستك السينمائية وعملك التالي في السينما، لاسيما أنك جئت من خلفية ثقافية مختلفة، ولا تقاليد سينمائية أو فنية راسخة فيها؟
درست في جامعة غلاسكو، قسم السينما والتلفزيون. بعد أن أنهيت الجامعة بدأت العمل في بي بي سي، وعملت على فيلم عن حالات الفقر وتأثيراته الاجتماعية، وما يتسبب به من تجهيل وتخلف في كثير من الأحيان. وجدت أن الأمر يستحق التوسع أكثر، فقدمت أطروحتي للماجستير عن المعالجة التلفزيونية للبيئة التي تقرن الفقر بالجهل. وجدت انعكاس بيئتي في عملي.
كنت أشعر بأن هناك صورا نمطية عامة وأحكاما مسبقة لدى الناس عن بعضهم بعضا هنا. اقترحت معالجة الحكاية الشفاهية بطريقة سينمائية أكاديمية، حاولت تكييف ملحمة كردية وفق الواقع والماضي الأسكتلندي عبر إجراء نوع من المقاربة بين المجتمعين الكردي والأسكتلندي، والتقاط بعض المشتركات، وقوبل العمل بإيجابية. وأردت من خلال ذلك التعمق في المجتمع الأسكتلندي واكتشافه بعين الكردي.
في فيلمي الكردي جمعت خمس شخصيات في شخصية واحدة، وأظهرت من خلالها مراحل التغيير التي يمر بها الإنسان في قرن بأكمله حين ينتقل من مكان لآخر
أما أطروحة الدكتوراه فكانت مختلفة، كانت عن فن التصوير السينمائي، عن فنيات العمل السينمائي وتطوير تقنيات وأساليب وآليات العمل السينمائي. درست كيفية المزج بين الموسيقى والإضاءة والظلال، وجعلها نسيجا متوافقا متناغما. وتم اعتماد فكرتي لإنتاج كاميرا خاصة سينمائية بتقنيات الحد الأدنى من الإنارة. استلهمت الفكرة من طفولتي، حين كنت أعيش في بيت طيني، وكان شعاع من الشمس ينسل عبر شق في النافذة، أو كوة في الجدار إلى الغرفة، شكلت تلك الصورة أساس فكرتي التي طورتها واشتغلت عليها.
- وماذا عن حضور ثنائية الشرق والغرب في أعمالك واشتغالك عليها؟ هل يأتي ذلك من باب تشكيل جسور للتواصل بين العالمين اللذين تنتمي إليهما معا؟
تحضر ثنائية الشرق والغرب بشكل لا شعوري في ذهن الشرقي المقيم في الغرب. وأنا أحاول في أفلامي السينمائية تصوير كل عالم كما هو، كي يدرك المشاهد الفصل الواقع بينهما، ثم يكون التعريف بالآخر عبر إظهار خصوصيته، وأجدل الوقائع لتتراءى وتظهر أكثر وضوحا وتعبيرا عن الخصوصية.
ملصق فيلم طنبور لبيري إبراهيم (الجزيرة)
في فيلمي طنبور (البزق) حاولت العمل على فكرة التنقل والارتحال بين الأمكنة، ومشقات الحياة التي يلاقيها المتنقل من بيئة إلى أخرى، وكيف يتخطى الحواجز والمعوقات، بدأب وإصرار وثقة.
وفي فيلمي الكردي جمعت خمس شخصيات في شخصية واحدة، أظهرت من خلالها مراحل التغيير التي يمر بها الإنسان في قرن بأكمله، حين ينتقل من مكان لآخر، وذلك في إشارة رمزية إلى أجيال تبحث عن هويتها المفقودة المنشودة. وقد حاولت التأكيد على أنه لا يتم العثور على تلك الهوية بسهولة، بل يرتبط الأمر بالتربية والماضي والطفولة والواقع، وغير ذلك من العوامل التي تساهم في بناء الهوية وبلورتها.
من هنا يكون اشتغالك على أفلام تكون صلة وصل بين المجتمع الجديد ووافديه الجدد ودور السينما في تبديد سوء الفهم بين الطرفين.
لاحظت في فترة من الفترات قبل حوالي عقدين، تنامي ظاهرة وجود لاجئين يشعرون بالاغتراب عن الواقع الذي وجدوا أنفسهم فيه، وكانوا يعيشون صراعا بين عالمهم القديم وعالمهم الجديد، وكيف يعيشون حالة ضياع وفقدان أمان وتبدد هوية، وانعكاس ذلك على أهالي البلاد، ونظرتهم لهم.
أفلامي تظهر للبريطانيين أن سوء الفهم والجهل بالآخر يولّد فجوة في التعاطي، ويؤثر على بنية المجتمع، كما أن سوء الفهم يؤدي إلى عدم التفاهم ويخلق طرائق وأساليب تفصل بين الناس
أردت صناعة فيلم عن تلك الظاهرة، مع مراعاة عدم إظهار اللاجئ كضحية أو متطفل، وكي أقوم بتجسير فجوة سوء الفهم، وأقدم صلة وصل لتعريف القادمين بمجتمعهم الجديد، وتعريف المجتمع بمقيميه الجدد.
أردت أن أظهر للبريطانيين أن سوء الفهم والجهل بالآخر يولد فجوة في التعاطي، ويؤثر على بنية المجتمع، وكيف أن سوء الفهم يؤدي إلى عدم التفاهم ويخلق طرائق وأساليب تفصل بين الناس. اخترت الحديث عما يمكن تسميتها بالأمراض العفوية، تلك الناجمة عن صراع الأفكار المسبقة وسوء الفهم، وكيف أن الأفكار أيضا يمكن أن تكون مريضة، وتنتقل كالهواء، وأسميت الفيلم الإنفلونزا العفوية ثم غيرنا الاسم إلى هجمة الغاز كي لا يتسبب العنوان بإثارة آراء مضادة، وكي يخفف من التصادم ويبدد وجهة النظر المغلوطة. عرض الفيلم في إدنبره بداية، ثم عرض في اثنين وثلاثين بلدا في مختلف الدول، ونال العديد من الجوائز.
-ماذا عن مشروعك الجديد الذي خصصته أيضا للاجئين وحياتهم في بريطانيا والصعوبات التي يعانونها جراء التغير الذي يجدون أنفسهم فيه؟
استكمالا للمشروع السابق قبل سنوات، انتهيت حديثا بالاشتراك مع المخرج الإنجليزي الروسي الأصل ليو سيديناف من فيلم M6 الذي سيعرض قريبا في لندن، والعنوان رمز الطريق السريع الذي يربط بين إنجلترا وأسكتلندا، ويكون الترميز إلى حالة التغيير السريع التي يجد اللاجئ نفسه في خضمها، إذ ينتقل في ظرف شهور قليلة من مجتمع مختلف إلى واقع جديد تماما، وهذا يحدث لديه نوعا من الصدمة، والمساعي التي يبذلها للتأقلم مع حالته، وسبل استيعاب الصدمة وامتصاصها.
-اشتغلت على أفلام من كتاباتك وأخرى لكتاب آخرين، كيف تجد الفرق في العمل على ما تكتبه وما يكتبه آخرون؟
أكتب معظم أفلامي وأخرجها. أكتب السيناريو بطريقة الصور، أرسم الصور بداية في خيالي، ثم أنقلها إلى الورق، تمهيدا لتصويرها سينمائيا. الصورة تقودني في كتابتي. أقوم بتطويع الكلمات في خدمة الصور التي أتخيلها، أحكي الحكاية بالصور.
كما اشتغلت على إخراج بعض الأفلام التي كتبها آخرون، لكن حين أخرج الأفلام التي أكتبها أجد راحة وحرية أكبر، لأني أحيانا أرتجل بعض المشاهد والمواقف في مواقع التصوير وأضيفها إلى العمل.
-ذكرتَ أنك عانيت من رقابة مجتمعية قبل هجرتك منذ قرابة ثلاثة عقود، كيف ترى دور الرقابة وتأثيرها على العمل السينمائي في العالم العربي والشرقي عموما؟
أعتقد أن الرقابة تقتل الإبداع، لذلك لا بد من رفع قيود القرابة عن السينما، سواء كانت في السينما العربية أو الكردية، لأن حرية المبدع المسؤولة هي ما يجب أن تقوده في عمله.
التفكير في الرقابة يقيد صانع الفيلم، وهذا يأتي على حساب جودة الفيلم وسويته. والسينما في العالم العربي -وفي الشرق عموما- تعاني من الرقابة ودخلت هذا الحيز الذي قيّدها
مثلا السينما المصرية قبل الثمانينيات كانت أكثر حرية وانفتاحا من السنوات التالية. التفكير في الرقابة يقيد صانع الفيلم، وهذا يأتي على حساب جودة الفيلم وسويته. والسينما في العالم العربي -وفي الشرق عموما- تعاني من الرقابة ودخلت هذا الحيز الذي قيدها. بالنسبة للسينما الكردية فهي لم تتمأسس بعد.
وهناك مشكلة تلفزة السينما، أي اشتغال السينما لتكون مهيأة للعرض التلفزيوني بعد أيام قليلة من العرض في دور السينما، وهذا بدوره طريقة مختلفة للرقابة، لأن دور السينما أصلا تعاني في العالم العربي، فيصبح تفكير السينمائي على طريقة الفيلم التلفزيوني، والمعالجة بين الجانبين مختلفة وتكون على حساب الفن السينمائي.
صحيح أن التلفزيون يعتبر أكثر انتشارا ويحقق مشاهدة ومتابعة أكثر، لكن هذا لا يعني تكييف الفيلم السينمائي ليغدو متلفزا أكثر منه سينمائيا. هذا الأمر مختلف عنه في الغرب، فالسينما حاضرة وانتشارها أكثر، ولا تزال تحظى بالمتابعة إلى حد جيد.[1]
المصدر : الجزيرة