آلان بيري – طالب ماجستير في جامعة فيينا ، قسم العلوم السياسية .
مُقدمة مُوجزة:
لماذا الحديث عن الديمقراطيَّة في الوقت الراهن؟
يتمُ التعاملُ مع مُصطلح الديمقراطيَّة عموماً على أنَّه بديهي، والديمقراطيَّة بديهيَّة: أي يبدو مفهوم الديمقراطيَّة للكثيرين بديهياً. وبالتالي لا داعي للحديث عنه وتطوير التساؤلات النقديَّةِ حوله وبشأنه.
يتمُ استخدام هذا المُصطلح كثيراً في السياق #الكُردي# #السوري# في الخطاب السياسي والإعلامي. ما يهمُنا هو استخدامه في الخطاب السياسي ضمن السياق الكُردي عموماً والكُردي السوري على وجه الخصوص. ولكن، لا يُفهم من هذا الخطاب الأساس النظري الذي يستنِدُ إليهِ استخدامُ هذا المُصطلح، أو عن أي ديمقراطيَّةٍ يدور الحديث: حيثُ هُناك عددٌ من الديمقراطيَّات.
بالنظر إلى أنَّنا نعيشُ في عالمٍ مُتعولمٍ، حيثُ نلمسُ آثار العولمة في مجالات الحياة كافّة، وليست الاقتصاديَّة فقط، بل وفي المجال السياسي و العسكري و الاجتماعي والثقافي والرياضي أيضاً. وبالتالي، يجبُ علينا والحال هذه أن نكون جزءاً من الخِطاب (Diskurs) الدائر حول الديمقراطيَّة في الغرب أو نحاول على أقل تقدير المُشاركة في الخطابات والنقاشات الدائرة حول الديمقراطيَّة في الساحات الدولية الأخرى، حتَّى نكون أكثر انسجاماً مع روح العصر. فنحنُ بالمُحصلة جزءٌ من هذا العالم، ويجبُ أن يكون لنا حضورٌ في خطاباته. ولكن، وبالنظر إلى حالتِنا (مُجتمع كُردي بشكل عام، وكُردي سوري على وجه الخصوص) الاستثنائية (الحرب، عدم القدرة على إنتاج المعرفة)، فلم نكن في أي وقتٍ من الأقات جزءاً من هذهِ الخطابات (حديث العالم المُتحضر عن تغيير أنماط الإنتاج على سبيل المثال، التغيير المناخي، مستقبل الديمقراطيَّة، مستقبل الدولة القومية والحديث الدائر حول التحول إلى تدويل الدولة القومية، ودمح الدول القومية الصغيرة في هياكل أكثر تعقيداً).
لهذهِ الأسباب مُجتمعة سنتحدثُ اليوم بمدينة قامشلو عن الديمقراطيَّة، وسيكون تركيزنا خلال المُحاضرة مُنصبَّاً على واقع الديمقراطيَّة في السياق الكُردي العام، والكُردي السوري بشكل خاص. فالحديثُ عن الديمقراطيَّة في حالتنا ضروريٌ ومُلِحٌ للغاية في الوقتِ الراهن.
العودة إلى جذور الديمقراطيَّة: ما هي الديمقراطيَّة أساساً؟
بطبيعة الحال لن يكون هُناك سردٌ تاريخي مُفصل حول أنواع الديمقراطيَّات، وتطور النظريات الخاصّةِ بها على مر فترات تاريخيَّة مُختلفة (فهذا لا يدخل في صُلب موضوعنا)، وإنَّما سأكتفي بالحديث عن نظريات الديمقراطيَّة المُعاصرة وحسب.
الديمقراطيَّة الليبراليَّة.
نظريات الديمقراطيَّة الراديكاليَّة.
الديمقراطيَّة كشكل ونمط حياة.
بدايةً لا بُد لنا مِنْ صياغة بعض التساؤلات الضروريَّة والمُلحة:
أولاً: ماذا نُريد؟ وعن أي ديمقراطيةٍ يدور الحديث حين استخدامنا لمُصطلح “الديمقراطيَّة”؟
ثانياً: لماذا لا تولي القوى السياسيَّة هذه التوضيحات (التوضيحات الضروريَّة والواجب تقديمها بشأن الديمقراطيَّة: تعريفها وتحديدها، وتركيز العمل على تطوير أدواتها) الأهميَّة الكافية؟
طبعاً ما سأطرحهُ اليوم مُقاربةٌ أوليَّة، وهي كانت بالأساس عبارة عن دراسة حول نظريات الديمقراطيَّة المُعاصرة، كنتُ قد قدمتها لقسم العلوم السياسيَّة بجامعة فيينا العام الجاري.
ماذا تعني الديمقراطيَّة أساساً؟ في حقيقة الأمر لا تعني الديمقراطيَّة سوى القبول الفعلي لِهذهِ العناصر:
أولاً: فراغ مكان السلطة.
ثانياً: الفصل بين السلطة والقانون والمعرفة.
ثالثاً: بقاء الصراعات بين مُختلف المصالح، الطبقات والمجموعات مُستعصية.
رابعاً: المجال العام السياسي الذي ينشأ في الفجوة ما بين الدولة والمُجتمع.
نظريات الديمقراطيَّة الراديكاليَّة في الوسط الأكاديمي الغربي في الوقت الراهن
الديمقراطيَّة الراديكاليَّة هي أولاً وقبل كل شيء مشروعٌ سياسي، الهدف منه هو تثبيت وتعميق وتوسيع المبادئ الأساسيَّة الأربعة للديمقراطيَّة: الحرية، المُساواة، التضامن والسيادة الشعبية (قارن. كومتيس وآخرين 2019: 11 – 15).
قام عالم السياسة الأرجنتيني إرنستو لاكلاو (Ernesto Laclau) (1935 – 2014) والمُنظرة السياسيَّة البلجيكية شانتال موف (Chantal Mouffe) (1943) في كتابِهما “الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية” بتطوير بناء نظري، عُرف في الأوساط الأكاديمية “بالديمقراطيَّة التعدديَّة والراديكاليَّة”. تعودُ الخلفية التاريخية لِهذهِ النظرية إلى الحركات الاجتماعيَّة في سبعينيَّات القرن المُنصرم، وإلى صعود النيوليبراليَّة. في هذا النهج النظري يتمُ الاعتماد على الخطاب التحليلي للهيمنة الذي وضعه أنطونيو غرامشي.
كان الأمر بالنسبة للاكلاو وموف مُتعلقاً بالدرجة الأساس بالعمل على المُتطلبات الأساسيَّة لتوسيع مطالب الحرية والمُساواة من خلال الحركات الاجتماعيَّة الجديدة. كما كان الأمر يتعلق أيضاً بتأسيس “مصفوفة جديدة للمُتَخيَّل الاجتماعي” من خلال الثورة الديمقراطيَّة بحسب فهم توكفيل (قارن: فلاتشر 2021: 24).
يقوم لاكلاو وموف بتحديد تعريفهما بالقول: “بهذا نُعلِنُ نهاية مُجتمعٍ مِنَ النوع الهرمي وغير المُتكافئ، يحكمهُ منطقٌ سياسيٌ لاهوتي يقوم فيه النظام الاجتماعي على الإرادة الإلهيَّة. حيثُ تم تصور الجسم الاجتماعي ككلٍ واحد، حيثُ ظهر الأفراد ثابتون في مواقف متباينة. وطالما سادت مِثلُ هذهِ الطريقة الشاملة لترتيب الاجتماعي، الأمر الذي تسبب بِشلِ قُدرة السياسة، وأن لا تكون أكثر من تكرارٍ للعلاقات الهرميَّة التي أعادت إنتاج نفس النوع من الذات التابِعة” (لاكلاو & موف: 1991: 214).
أمّا في التعدديَّة فيقولان:
“فقط إذا تم قبول أنَّ المواقف الموضوعيَّة لا يُمكِنُ إرجاعُها إلى مبدأ أساسي وضعي وموحد، عندها فقط يمكن التفكير في التعدديَّة بطريقة راديكاليَّة. إنَّ التعدديَّة راديكاليةٌ فقط إلى الحد الذي يجدُ فيهِ كُلُّ فردٍ مِنْ هذهِ التعدديَّة للهُويات في حد ذاته مبدأ صلاحيته، دون الحاجة إلى البحث عن ذلك في أساسٍ وضعيٍ متسامي أو أساسي لتسلسل هرمي المعنى، وكمصدرٍ وضمانةٍ لشرعيته. وهذهِ التعدديَّة الراديكاليَّة ديمقراطيَّةٌ بقدر ما يكون الدستور الذاتي لكل فرد من أعضائها نتيجةً لتحولاتٍ في المُتخيل المساواتي. بالمعنى الأساسي، فإنَّ مشروع الديمقراطيَّة الراديكاليَّة والتعدديَّة ليس سوى النضال مِنْ أجل أقصى قدرٍ مِنَ الحُكم الذاتي لكافةِ المجالات على أساس تعميم منطق المساواة المُتكافئة” (لاكلاو & موف: 1991: 228 – 229).
تقولُ موف في وصف الديمقراطيَّة الحالية: “إنَّ إحدى الأطروحات المركزيَّة في المُناقشات الحاليَّة حول “ما بعد الديمقراطيَّة” هي أنَّ الديمقراطيات الحديثة تخضع لسيطرة النُخب المُتميزة بشكل مُتزايد خلف واجهة من المبادئ الديمقراطيَّة الرسمية. أدى تنفيذُ السياسات النيوليبراليَّة إلى “استعمار” الدولة من قِبل مصالح الشركات والجمعيات، بحيث يتم الآن اتخاذُ قراراتٍ سياسيَّةٍ مُهِمّة خارج القنوات الديمقراطيَّة التقليديَّة” (موف 2011: 3).
لكن ما الذي يحتاجه المُجتمع الديمقراطي بحسب موف؟ “يحتاج المُجتمع الديمقراطي إلى مناقشة حول البدائل المُمكِنة، ويجبُ أن يُقدم أشكالاً سياسيَّة من التماثل الجماعي مع مواقف ديمقراطية مُتباينة بشكلٍ واضح. التوافق ضروريٌ بلا شك، لكن يجب أن يقترن بالمُعارضة. هُناك حاجةٌ إلى إجماعٍ وتوافقٍ حول المؤسسات التي تُشكِلُ الديمقراطيَّة، وحول القيم “الأخلاقية – السياسية” التي تُشكِلُ النظام السياسي – الحرية والمُساواة للجميع – ولكن ستكون هناك دائماً خِلافات حول معناها، وطريقة تحقيقها. في ديمقراطيةٍ تعدديَّةٍ هذهِ الخلافات ليست شرعيَّةً وحسب، بل وضروريَّة” (موف 2007: 43).
الديمقراطيَّة كشكل ونمط حياة: يفهمُ المؤرخ الألماني المُعاصر فان رهدن (Van Rahden) (1967) الديمقراطيَّة على أنَّها أسلوب حياة، حيث أنَّ هذا الأسلوب الآن في خطر. إذ يكتب: “أعقبت الموجة الثالثة من الدمقرطة وانهيار الديمقراطيَّات الشعبيَّة الشيوعيَّة ثِقةً بالنفس مُنتصرة وخالية من الهموم لتفكير كفاءة السوق الليبرالية، حيثُ تم اعتبار الديمقراطيَّة البرلمانية الشكل الطبيعي للحكم في الحداثة الغربية. نحنُ نعلمُ اليوم أنَّ هذهِ الفكرة كانت خاطئة وخطيرة. تُظهر تجربة العقدين الماضيين أنَّ الديمقراطيَّة الليبراليَّة تعيش أزمة عندما تفشل في الاعتناء بتلك الفضاءات العامّة، التي تُمكّنُنا من تجربة الحرية والمساواة والحصول عليهما، وممارسة تلك الفضائل الديمقراطيَّة التي تُقدم الفرصة لأن يصبح النزاع الشغوف أساساً للتعايش الديمقراطي” (فان رهدن 2019: 41).
مِثل موف، ينتقدُ فان رهدن ديمقراطية اليوم (الديمقراطيَّة التمثيليَّة، التي أصبحت في الوقت الراهن “شكلاً طبيعياً للحكومة” في الحداثة وسمتها الرئيسية). في هذا السياق يمكن الإشارة إلى تشخيص آخر قدمه أدورنو بخصوص العلاقات الرأسمالية المُهيمنة في الديمقراطيَّة الليبرالية، حينما قال أنَّهُ “لا يُمكِنُ عيش الحياة الخاطئة بصواب” (أدورنو 2003: 19).
لكن لماذا الديمقراطيَّة الليبرالية في أزمة؟ على هذا السؤال يقدم كل من فان رهدن وموف إجاباتٍ مُتماثلة. حيث يهتم الاثنان بأنَّه لا بُدَّ مِنْ “إحياء النضال من أجل المبدأين الأساسيين: الحرية والمساواة” (فلاتشر 2021: 4). إذ أنَّ الأمر يتعلق بالبحث عن الإرث الضائع للديمقراطية؛ إذ أنَّ الهدف الأساس هو استعادة هذا الإرث الديمقراطي الضائع.
في تعريف “الفضائل الديمقراطيَّة” (فان رهدن 2019: 41): الفضائل الديمقراطيَّة يمكن عيشها في الأماكن غير المرئية التي تتواجد فيها الديمقراطية (سنتحدث عن تلك الأماكن ضمن المحور الرابع لهذهِ المُحاضرة)، والتي يلتزم مفهوم “الديمقراطيَّة كأسلوب ونمط حياة” بتحديدها. بالإضافة إلى ذلك، مع هذا الفهم للديمقراطية، يجبُ التأكيد على ضرورة هذه “الفضائل الديمقراطيَّة” التي يمكن العثور عليها في هذهِ الأماكن، ومحاولة جعلها ملموسةً قدر الإمكان من أجل دمجها في مشروع سياسي.
حيثُ يقول: “التي تفتح الفرصة لأن يصبح النزاع الشغوف أساس التعايش الديمقراطي”. كذلك الأمر ترى موف أيضاً أنَّ النضال “يجبُ ترويضه إلى نزاع (مُنافسة)”. بعبارة أخرى: “لم يعد المُتنافسون يعتبرون أنفسهم أعداء، يريد كل واحد القضاء على الآخر” بحسب فهم كارل شميت للأمر، بل “خصوم يجب احترامهم” (فلاتشر 2021: 21).
سوف يتفاوض هؤلاء (“التعايش الديمقراطي”) على علاقات المبادئ الأساسية: الحرية والمُساواة للجميع بطريقة مُثيرة للجدل، حيثُ أنَّ الديمقراطيَّة لا توجد إلَّا في نزاعاتٍ مفتوحة حول تصميمها، وإلَّا فلا معنى للحديث عن الديمقراطيَّة أساساً (قارن. فلاتشر 2021: 22).
علاقة السياسة والمُجتمع الكُردي بالديمقراطيَّة
تم استخدام مُصطلح “الديمقراطيَّة” بشكل مُفرط ومُبالغٍ فيه في السياق السياسي الكُردي في القرن العشرين والحادي والعشرين. الأمر الذي يدفعنا الآن، وفي هذا التوقيت بالذات لصياغة التساؤلات النقدية الجدية حول هذا التطور المُثير للاهتمام. إذ يجب إجراء بحثٍ مُمنهجٍ حول السؤال الآتي: لماذا هذا الانكباب المُفرط والمُبالغ فيه على استخدام مُصطلح الديمقراطيَّة؟
هل يعني هذا توجه الحركة السياسية الكُرديَّة، وبالتالي معه المُجتمع الكُردي إلى الديمقراطيَّة فعلاً كمُمارسة سياسيَّة (فيما يخص الجانب السياسي من الأمر)، وكنمط حياة (فيما يخص علاقة المُجتمع بالديمقراطيَّة)؟
كل الأحزاب والتشكيلات السياسيَّة الكُردية الحديثة والمُعاصرة تستخدم مُفردة الديمقراطيَّة في اسمائها الرسمية وأدبياتها، وتعتبر نفسها بالتالي ديمقراطية، وتُعبر عن ذلك في كل فرصة.
نظراً لحالة الكُرد الاسثنائية في القرن العشرين والحادي والعشرين (الحرمان من الدولة القومية لقرنٍ من الزمن، وعدم القدرة على التدول في نفس الوقت) لا يُمكِنُ الحديث عن نظام سياسي كُردي. فالنظام السياسي لا يتواجد إلَّا في جسم دولتي (السلطة والنظام السياسي). ولكن، كان هُناك وما يزال نشاطٌ سياسي كُردي تمثل في تأسيس الأحزاب (أحد أهم أدوات الديمقراطيات الليبرالية المُعاصرة)، التي رأت أنَّها مسؤولة عن قيادة وتوجيه المُجتمع وفق رؤاها السياسيَّة وبراديغماها. هُنا، بالإمكان البحثُ جيداً وكشف علاقة السياسة والمجتمع الكُردي بالديمقراطيَّة كنمط سيادة وحكم.
مثلت الأحزاب الكُردية عموماً مراكز لتجمع القوة والشرعية، حيثُ أنَّها كانت تحتكر على الدوام ما عُرف في القرن العشرين “القضية” (أي القضية الكُردية). كانت الأحزاب الكُردية مُجملاً “ثورية”، أي لم يكن وضعها كوضع الأحزاب النشطة في الديمقراطيات الليبرالية. ثوريتها (أعني بالثورية هُنا أنَّها – هذه الأحزاب – أرادت إحداث التغيير على مُختلف الصعد) تمثلت في أنَّها كانت أحزاباً مُسلحة (خاضت كفاحاً مُسلحاً ضد أنظمة شمولية)، وشمل نشاطها التعبئة الكاملة للمُجتمع، وكل ما يملك (مُجمل رأسمال المُجتمع الثقافي)، وصارت تُمثل في أوقات الحرب (سلطة عُنفٍ مركزية)، وفي أوقات السلم (سلطة تحكم من الأعلى نحو الأسفل، وتحتكِرُ الشرعيَّة).
كُلُّ هذا يحدثُ وسط انعدام النظام السياسي، إذ أنَّ النشاط السياسي الكُردي في زمن الحرب كما وفي زمن السلم أيضاً ليس إلَّا تجسيداً فظاً للحالة الحزبيَّة. ولكن، يجبُ هُنا الانتباه جيداً، وعدم الخلط بين وضع الأحزاب في السياق الكُردي ووضعها في الديمقراطيَّات الليبراليَّة؛ حيثُ تُعتبر الأحزاب السياسية في هذه الديمقراطيات إحدى أهم الأدوات الديمقراطية. وعليه، فإنَّ الحالة الحزبية الكُرديَّة في هذا السياق اسثنائيةٌ للغاية، الأمر الذي يستوجب وإياه تقييماً آخر.
هُنا بدأت السياسة الكُرديَّة تحتكُ بالديمقراطيَّة. لكن، وبتتبع تاريخ النشاط الحزبي الكُردي في القرن العشرين والحادي والعشرين مُجملاً نجد أنَّهُ لم ينجم عن هذا الاحتكاك أي ترسيخٍ لمبادئ الديمقراطيَّة الرئيسيَّة الأربعة: الحرية، المُساواة، التضامن والسيادة (سيادة الشعب والمُجتمع في علاقتهما بالسلطة). إذ ظلت هذهِ المبادئ أسيرة الخطاب الرسمي العام، ولم تترك آثراً مُستداماً في المُجتمع. يتضح أنَّ السلطة الحزبية الكُرديَّة اتخذت من الديمقراطيَّة (والتي لا تُمثِلُ نمط حكم في نظام سياسي مُعين وحسب، بل ونمط حياة أيضاً) أداة للتعبِئة، ولشرعنة الاحتكار السياسي مُستغِلةً بِذلِكَ الحالة الاسثنائية للشعب الكُردي، وحالة الطوارئ التي يعيشها مِنذُ عقودٍ طويلة؛ وحيثُ حرَمَهُ التقسيمُ الاستعماري في القرن العشرين من التحول إلى دولة قوميةٍ نموذجية. أي، بالإمكان القول أنَّ الحزبية الكُرديَّة بمقاربتها للديمقراطية لم تسلك طريق تمكين وترسيخ مبادئ الديمقراطيَّة ضمن مجال نشاطها أيَّاً كان هذا النشاط، وإنَّما اكتفت بِأن اتخذت من الديمقراطيَّة موضة (أي أنَّ الديمقراطيَّة الكُرديَّة التي تمت على يد الأحزاب السياسيَّة كانت خاضعة لمنطق الموضة وحسب).
أمّا المُجتمع الكُردي ونظراً لأنَّه تجسيدٌ لحالة المُجتمع العشائري (المُجتمع الكُردي بوصفه مُجتمعاً عشائريَّاً) فلم تكن ردود فِعلهِ إِزاء تعامل وسلوك السياسة الكُرديَّة (المُتمثلة في الأحزاب) سريعة وواعية لحجم الخطر الذي سينجم عنه مُستقبلاً. إذ أنَّ المُجتمع الكُردي اكتفى نظراً لحالته الاسثنائية، ولإدراكه أنَّه دائماً على أعتاب الإبادة الثقافية والجسدية بالالتفاف حول هذهِ الأحزاب، وعزز شرعيتها حتَّى بدت بالفعل ديمقراطية، إلى أن حدث انقلابٌ كوبرنيكي، تمثل برأيي في بلوغ هذهِ الأحزاب السلطة. حيثُ لم تعد قضية الشرعية وتجديدها تُشكِلُ هاجِساً لدى هذهِ الأحزاب (حتَّى أنَّ مسألة الشرعية فقدت الاهتمام تماماً، وصارت بديهيَّة: أي أنَّه مِنَ البديهي أنَّ الشعب ما يزال يرى أنَّ هذهِ الأحزاب ما تزال تُمثِلُ مصالحه)، واكتفت بِمُمارسة السلطة واحتكارها؛ والذي يؤكد ذلك هو حالة الصراع الحزبي الكُردي القائمة مِنذُ عقود. إذ أنَّها تُمثِلُ ذروة هذا الصراع: الصراع على السلطة، لا الصراع على الشرعيَّة (الشرعية التي يُعطيها الشعب بوصفه مالِك السيادة) في مناخ ديمقراطي.
في تاريخ اساءة الاستخدام الكُردي للديمقراطيَّة، وآثارها المرحليَّة والمُستقبليَّة
إني مُدركٌ جيداً إنَّ عملية تأريخ اساءة الاستخدام الكُردي للديمقراطية ليس بالأمر السهل أبداً. إذ أنَّ ذلِكَ يتطلب قبل كُلِ شيء توصيفاً ومِنْ ثم تحليلاً دقيقاً ومُمنهجاً لعلاقة الكُرد بالديمقراطيَّة كنمط حكم ونمط حياة (ما فعلتهُ في المحور الثاني كان مُقاربة أوليَّة ومُوجزة). ولكن، سأحاول هُنا تكثيف العرض التاريخي لِما أسميه “بتاريخ اساءة الاستخدام الكُردي للديمقراطية”، لاستنتاج ومناقشة آثاره المرحلية المُعاشة حالياً كما والمُستقبلية المُحتملة.
تاريخ اساءة الاستخدام بدأ حين تم تغييب مبدأ سيادة الشعب وتهميشه على نحو مأساوي من قِبل السياسة الكُرديَّة (المُتمثلة في الحالة الحزبية كما ذكرنا سابقاً)، وحين انعدم التكافل والتضامن بين المجموعات المجتمعيَّة التي انقسمت وتشرذمت بالتزامن مع الانقسام والتشرذم الحزبي الذي حصل ليس على مبدأ المُنافسة على كسب الشرعية، وبالتالي الحصول على مزيدٍ من حصة التمثيل (كما في الديمقراطيات الليبراليَّة – الديمقراطيَّة البرلمانيَّة أو ما تُسمى بالديمقراطيَّة التمثيلية)، وإنَّما على مبدأ احتكار مزيدٍ من السلطة، الأمر الذي تزامن مع بلوغ حالة الحرية السياسية (حرية الفرد في البقاء كائناً سياسياً خارج الساحة الحزبية) مرحلة حرجة، تمثلت ذروتها في ربط السياسة بالحالة الحزبويَّة: أي ضرورة الانتماء لحزب أو تأيده أو اتخاذ أيديولوجيته كجزء من رؤية المرء للعالم؛ كما ومع التشوه الذي أصاب مبدأ المساواة، حيثُ أنَّ الحالة الحزبويَّة أسست ورسخت واقع تقسيم المُجتمع الكُردي إلى مجموعات غير متساوية. إذ أنَّ التأييد الشعبوي لتيار ما على سبيل المثال يُمثِلُ هذا الواقع، فأن تكون من أنصار قنديل، على سبيل المثال ، فهذا لا يعني أنَّك متساو مع أنصار أربيل، والعكس صحيح. فدائماً ما هُناك “أدنى” و”أعلى” شأناً في هذه المعادلة؛ وهذا ما يُعزز الحقيقة التي تحدثنا عنها سابقاً بخصوص أنَّ الصراع الحزبي الكُردي ليس معنياً بالمُنافسة السياسيَّة التقليديَّة، والصراع لكسب مزيدٍ من الشرعية الشعبيَّة، وإنَّما فقط وفقط بالسلطة (بأحد أكثر أشكالها بدائيةً).
نظراً لسوء الاستخدام المُفرط للديمقراطية مفهوماً ومُمارسة، فإنَّ هذا أدى إلى فقدان الديمقراطيَّة لمعناها الحق (ليس كنمط للحكم وحسب وإنَّما كنمط للحياة أيضاً)، وبات يتم تداولها بشكلٍ رخيصٍ ومُبتذلٍ للغاية، الأمر الذي تسبب بأنَّها (أي الديمقراطيَّة) فقدت بريقها ووقعها وجديتها. كما وتسبب سوء الاستخدام المُفرط هذا في وقت ما إلى رسوخ حالة من النفور العام من الديمقراطيَّة، بحيث صارت مُرتبطة لدى الكثيرين بِجُملةٍ مِنَ الصور النمطيَّة والأحكام المُسبقة، أهمُّها: أنَّ الديمقراطيَّة أداة للدعاية وجذب الانتباه و”برستيج عصري” يتم استهلاكه من قبل الأحزاب والحركات السياسية بشراهةٍ ونهمٍ شديدين.
خطورة هذا الأمر تكمن في أنَّ الحالة الحزبيَّة الكُرديَّة في القرن العشرين والحادي والعشرين ألحقت ضرراً بليغاً وتشوهاً فظيعاً بأحد أسمى المُصطلحات (الديمقراطيَّة)، وحولته إلى مجرد سلعةٍ بخسة الثمن في البازار السياسي العام، وشجعت على استخدامه على نحو مُبتذلٍ للغاية.
ما الحل؟ لَنْ أقدم هُنا أيَّة حلولٍ سحريَّة، وليس بالإمكان تقديم هكذا حلول مُطلقاً. ما سأفعله مُجرد محاولةٍ لتفكيك التعقيد القائم بشأن أزمة الديمقراطيَّة عموماً، وحالته المرضيَّة في السياسة والمُجتمع الكُردي.
لا يُمكِنُ فرض التخلي الكُلي عن الديمقراطيَّة، إذ لا بدائل عنها سوى الشموليَّة، والعسكراتيَّة، والأوليغارشيَّة، وسائر أشكال السلطويَّة البدائيَّة. ما يُمكِنُ فِعلهُ هو “دمقرطة الديمقراطيَّة نفسها”. تبدأ عملية دمقرطة الديمقراطيَّة من نقل ساحة عيشها ومُمارستها من ساحتها التقليديَّة (الأحزاب والمجالس التمثيليَّة، والمؤسسات ذات الطابع الدولتي) إلى ساحات أخرى ذات طبيعة سيو-اجتماعيَّة: العائلة، الجمعيات الثقافية، علاقات الجيرة، التجمعات المُصغرة للناس من مُختلف الشرائح خارج خيم الباشوات، ومضافات آغوات العصر وتكية الشيخ (إذ أنَّ كلها مُعادية للديمقراطيَّة، ومحاولة مُستمرة لإيقاع المُجتمع في شرك الماضي)، كما وخارج المُنتديات التي تُنظِمُها السلطة (لأنَّها تُمثِلُ أداة رقابة). هُنا يجب الإبقاء على إرث الديمقراطيَّة حياً: الديمقراطيَّة التي لا تعني سوى سيادة الشعب، وفقط الشعب. فكل العناصر المُشاركة في عملية الديمقراطيَّة تتغير وتتبدل إلا سيادة الشعب والمُجتمع، التي تشكل أساس كل عملية ديمقراطيَّة.
المراجع والمصادر:[1]
Adorno, Theodor. W (2003): Minima Moralia, in: Gesammelte Schriften, Bd. 4, Berlin: Suhrkamp Verlag.
Comtesse et al. (2019): Was ist radikale Demokratie, in: Dagmar Comtesse & Oliver Flügel-Martinsen & Franziska Martinsen & Martin Nonhoff (Hrsg.), Radikale Demokratietheorie, Berlin: Suhrkamp Verlag, S. 11-21.
Flatscher, Mathias (2021): Chantal Mouffe, „Über das Politische“, Universität Wien.
Laclau, Ernesto & Mouffe, Chantal (1991): Hegemonie und radikale Demokratie, Wien: Passagen Verlag.
Schumpeter, Joseph A. (1993): Kapitalismus, Sozialismus und Demokratie, Tübingen & Basel: Narr Francke Attempto Verlag.
Mouffe, Chantal (2011): „Postdemokratie“ und die zunehmende Entpolitisierung, in: Aus Politik und Zeitgeschichte, Jg. 1, Nr.2, S. 3-5.
Mouffe, Chantal (2007): Über das Politische: wider die kosmopolitische Illusion, Berlin: Suhrkamp Verlag.
Van Rahden, Till (2019): Demokratie: Eine gefährdete Lebensform, Frankfurt/New York: Campus Verlag.