بيار روباري
سوف نتناول في إطار هذه الدراسة التاريخية الموجزة، تاريخ وهوية مدينة “#درزور#”، التي تشكل ثلاثية مهمة مع كل من مدينتي (رقه، هسكه)، ومعآ يشكلان القسم الجنوبي من الجزيره الفراتية الكردية. ولا شك أن هذه المدينةةواحدة من الحواضرالخوريةالقديمة جدآ. ومنطقة الجزيره السفلى تربطها حدود جغرافية مع منطقة “أنبار” الكردية بجنوب كردستان، وهما مفتوحتان على بعضهما البعض، وتشتركان في نهر الفرات أيضآ، وشرحنا في الدراسات السابقة معنى تسمية (الأنبار والجزيره)، ولماذا سمها الكرد الخوريين بتلك التسميات.
الأسباب التي دفعتنا إلى تناول هوية وتاريخ هذه المدينة العريقة كتابة في هذه الدراسة، هي المحاولات الخسيسة والبائسة من قبل الكتاب العرب المستعربة، وقولهم أن المدينة (عربية)، ولا يحق للكرد حكمها والإستفادة من ثراوتها. لذا أردنا بداية أن نثبت لأبناء شعبنا الكردي، الذي تعرض لغسيل دماغ على مدى مئات السنين، من قبل محتلي كردستان، من خلال زرع أكاذيب في أدمغة الكرد بأن هذه المدينة غير كردية، وهذا يتنافى كليآ مع الواقع والحقائق التاريخية، التي سنقدمها بالتسلسل خلال هذا البحث الموجز. والسبب الأخر، هو إبراز أهميتها التاريخية، كونها واحدة من المدن الأثرية في المنطقة، وعلاقتها بالمدن الخورية المجاورة لها. وأخيرآ فضح أولئك الدجالين، الذين سوقوا الأكاذيب طوال المئة العام الماضية بهدف القول أن المدينة عربية. وسوف نتناول في هذه الدراسة المحاور الرئيسية التالية:
1- مقدمة.
2- جغرافية مدينة درزور.
3- أثار مدينة درزور.
4- تاريخ مدينة هموكاران.
5- معتقدات سكان مدينة درزور الأصليين.
6- أصل تسمية درزور ومعناها.
7- الوجود الكردي في درزور والمنطقة المحيطة بها.
8- الحياة الإقتصادية في مدينة درزور.
9- الخلاصة.
10- المصادر والمراجع.
أولآ، مقدمة:
مدينة “درزور” هي واحدة من كبريات مدن غرب كردستان، وتقع جنوب شرق الجزيره الفراتية على نهر الفرات، وتبعد عن مدينة الرقه حوالي 139 كم. وخلال قيامي بجمع المعلومات عن هذه المدينة ودراسة المراجع والدراسات المتوفرة والمنشورة عنها، لم أجد بينها أي مرجع كردي للأسف الشديد، ولكني لم أستغرب ذلك بعد قيامي بأجراء دراسات عديدة عن المدن الكردية الأثرية والتاريخية ولربما كانوا أكثر شهرة وأهمية أيضآ من التاريخية والحضارية، أيضآ لم أي دراسة كرديات حول تلك المدن، ولذلك لم يعد يصدمني الأمر، حيث أن الكرد تخلوا عن تاريخهم، مثلما تخلوا عن ديانتهم اليزدانية!!!!
هذه الحالة المزرية للشعب الكردي، باتت معروفة للقاصي والداني، والجميع بات يعلم أن الكرد يجهلون تاريخهم، حيث أنهم لم يهتموا يومآ بكتابة وتدوين تاريخهم بأيديهم، فكيف يمكن لنا توقع كتابة بحث أو دراسة منهم عن تاريخ مدنهم الأثرية، ولهذا يعد الكرد الإمة الوحيدة بلا ذاكرة، ومع الكرد لا يخجلون من أنفسهم، وترى كل واحد منهم يعتبر نفسه أفهم خلق ويخلل ويفتي في كل الإمور، في الوقت الذي لا يعرف كتابة إسمه وفي مقدمة هؤلاء السياسيين ومثقفيهم ويحتاجون إلى عشرات الحظائر. وتبين لي مدى كرههم لمعرفة تاريخهم ودراسته، وتأكدت من هذا من خلال نشر هذه الدراسات على حلقات في صفحتي على الإنترنيت حيث عدد الذين يقرأون المادة بالعشرات، وإذا أحدهم نشر صورة يظهر فيها صدر إمرأة، الألاف منهم يطبلون ويزمرون. والذين يقرأون جلهم لا يفهمون ما قرأوه، هذه هي الحقيقة المرة.
أما إذا نشرت بوستآ ومدحت لا سمح الله صنمآ من الأصنام الكردية القبيحة، فتجد محبكجية ذاك الصنم، تكالبوا على البوست ومدحوا فيه وفيني!!!! نحن ما زلنا للأسف إمة القطيع. أنا أكتب للأجيال القادمة وأنا واثق كل الثقة، أنه سيأتي جيلآ كرديآ مشبعآ بالوطنية الكردية وحب وطنه كردستان، جيلآ مسلحآ بالعلم والمعرفة، ويدرك أهمية كتابة وقراءة التاريخ، وسينكب على دراسته وفهمه، وهو ذاته سيقيوم بدراسات أوسع وأشمل مما أقوم به أنا حاليآ. مثلما كتب تاج الثقافة الكردية الشاعر واللغوي الكردي “أحمد خاني” ملحمته الشعرية “مم وزين” لأجيال المستقبل وكان مؤمنآ بذلك، أنه سيأتي جيلآ شابآ واعيآ من بعده وسيكمل المسيرة، وهذا فعلآ ما حدث. وأنا كلي ثقة سيأتي من بعدي جيلآ سيكمل المسيرة وتتفخر الإمة الكردية به.
أنا واثق أن 99% من أبناء الشعب الكردي في غرب كردستان، لم يهتموا يومآ بتاريخ هذه المدينة ولا
بنشأتها، ولا يعرفون عنها سوى النذر اليسير، مما درسوه في الكتب المدرسية الإلزامية في المرحتلين
الإعدادية والثانوية، والمليئة بالأكاذيب وعمليات التدليس.
وجميع الكرد يعتقدون في قرارة أنفسهم أن هذه المدينة التي نحن بصدد دراسة تاريخها وهويتها، إنها مدينة عربية دون معرفة السبب وإن كان ذلك صحيحآ أم لا. كون لم يكتب لهم أحد من الكرد عن تاريخ المدينة، وأخبرهم بحقيقة تاريخها الصحيح، وأن هذه المدينة كردية الجسد والتاريخ والروح. وأنها جزءً أصيلآ من تراب كردستان حالها حال الهسكه وقامشلوا، وهلج ودلبين وقطنا ودمشق وكامل ساحل البحر المتوسط الشرقي والشمالي إلى بحر “مرمرا”.
لا يمكن تحميل عامة الكرد مسؤولية عدم معرفتهم بتاريخ هذه المدينة أو غيرها، وذلك لأسباب عدة منها:
أولآ، وجود الكرد تحت نير الإحتلال العربي الإجرامي الإستيطاني المباشر.
ثانيآ، غياب دراسات كردية حول المدينة.
ثالثآ، مناهج التعليم المحشية بالأكاذيب البعثية، التي زرعوها في أدمغة الكرد.
رابعآ، تقصير النخب السياسية والثقافية الكردية، في إعطاء التاريخ الإهتمام المطلوب.
لا يمكن لنا الحديث عن تاريخ هذه المدينة بمعزل عن تاريخ محيطها الجغرافي التي تنتمي إليه، ولا عن تاريخ المدن الأثرية الخورية – الميتانية – الهيتية – الميدية والسوبارتية الأخرى التي تعج بها المنطقة.
وعندما نتحدث عن مدينة “درزور”، لا نتحدث عن المدينة الحالية الحديثة، والتي لا يتجاوز عمرها في أحسن الحالات عن 130 عامآ. وإنما نتحدث عن المدينة الأثرية، التي بُنيت على أنقاضها المدينة الحالية
والتي يعود تاريخها إلى (4000) عام قبل الميلاد.
ثانيآ، جغرافية مدينة درزور:
تقع مدينة “درزور” الأثرية على ضفة نهر الفرات إلى الشرق من مدينة “رقه”، ويبلغ مساحتها كمحافظة حوالى (33) ألف كم مربع، أي إنها تساوي ثلاثة أضعاف مساحة دولة لبنان هذا الكيان اللقيط. ووصل عدد سكانها حوالي (500.000) الف نسمة في عام 2020. يخترق المدينة نهر الفرات بفرعين: الأول كبير ويمر من طرف المدينة، والثاني صغير يمر من وسطها تقريباً، ويقسمها إلى جزيرة نهرية عائمة وتسمى محليآ بي “الحويجة”، وتمتاز بكثرة جسورها، وأهم الجسور التي تربطها بباقي المدينة الواقعة إلى جنوب النهر، هو الجسر المعلق الذي بناه المحتلين الفرنسيين في أوائل عشرينيات القرن الماضي أثناء فترة إحتلالهم للمنطقة.
ويوجد في المدينة ثلاثة جزر نهرية هي: جزيرة سگر (صكر)، جزيرة كتخ (كاطع)، جزيرة المريعية ةهي أقرب الجزر للمدينة. الجزر النهرية هي أراضي زراعية خصبة. وهذه الجزر النهرية غير صالحة للبناء لرخاوة أرضها، ولكنها أراضي زراعية خصبة للغاية، ولهذا تزرع سنويآ ويستفاد منهم. طبعآ العوائل القوية وضعت يدها على هذه الجزر.
موقع المدينة يقع في سهل خصيب محاط بالصحراء من ثلاثة جهات رئيسية، ووالأراضي الصخرية التي توجد في منطقة “درزور” أكثرها من الجص، الحجر الكلسي، هذا إضافة للحجر الرملي والملح الصخري والغضار، وكما ينتشر في بعض نواحي المدينة الصخور البازلتية، وهي بقايا بركانين خامدة حدثت في (تل بروك وتل عياش) ويقعان على بعد 8 كم من مركز المدينة.
وبسبب طبيعة منطقة “درزور” الجافة لا بل الصحراوية، المحيطة بالمدينة وخاصة من الجهة الجنوبية، فإن الغطاء النباتي في محيط المدينة يقتصر على بعض النباتات المعمرة ومنها الشيح والنباتات الحولية التي تعرف بين السكان باسم العشب، هذا إلى جانب إنتشار بعض الأشجار الصفصاف فضلاً عن قصب السكر.
ونتيجة لتقلص الغطاء النباتي وتراجعه بشكل كبير وخاصة في المئة العام الأخيرة، تسبب بدوره في تراجع الغطاء الحيواني البري، حيث تناقص بشكل مخيف، وبسبب بعض الأنواع من الحيونات البرية إندثرت من المنطقة وتحديدآ الفهود والأسود، ولم يعد لها أثر منذ عام 1920 تقريبآ. لأن هذه الحيونات المفترسة تتغذى على الحيونات الثدية وبسبب تقلص المناطق الخضراء قل عددها، وبالتالي قل غذاء الأسود والفهود. وبحلول العام 1986 إنقرضت الغزلان من المنطقة بشكل شبه تام. ولحسن الحظ مازال يعيش في المنطقة أعداد من الضباع، الذئاب، الثعالب، ابن آوى والأرانب البرية، هذا إلى جانب بعض الطيور الجارحة كالنسور والصقور، وبعض الطيور الأخرى مثل الهدهد والحجل.
أما مناخ المدينة فيعرف بشدة جفافه وقلة أمطاره هذا إضافة إلى إرتفاع درجات حرارته. وتعيش المدينة وريفها في الصيف فصلآ حارآ وجافآ، وفي الشتاء بردآ قارصآ وذلك بسبب الفارق الكبير بين درجات الحراة بين الفصلين. ومن هنا يمكن القول بأن مناخها صحراوي قاري، ويعود السبب في ذلك هو بعدها عن البحر المتوسط والسلال الجبلية. ويظهر بوضوح أثر ذلك، بتقلب شديد في درجات الحرارة بين الصيف والشتاء والليل والنهار، ولكن مرور نهر الفرات بالمدينة يخفف من أثر المناخ الصحراوي عليها بعض الشيئ. وقد سجلت أعلى درجات حرارة في المدينة عام 1978 حيث بلغت 48 درجة مئوية، أما أخفضها فقد بلغت 9 درجات تحت الصفر.
وبسبب جفاف تربتها وقلة الغطاء النباتي في المنطقة المحيطة بالمدينة، فعندما تهب الرياح فتحمل معها رمال الصحراء وأتربتها، التي تعرف بالمنطقة تحت “بالرياح المسمومة”، وتتعرض المدينة سنويآ لعواصف ترابية قادمة من الصحراء وبشكل دوري، ويبلغ مجموع أيامها في العام الواحد بمعدل (70) سبعين يومآ، وتؤثر سلبآ على الرؤية حتى تعدمها في بعض الأحيان، وعلى صحة السكان دون شك. الرطوبة في المنطقة متدنية للغاية، وتعتبر منطقة “درزور” من أجف مناطق غرب كردستان، وهطول
الأمطار تصل إلى (50 مم) سنويآ، وتمطر ما معدله حوالي (40) يوم في العام، ونادرآ ما يتساقط الثلوج فيها في فصل الشتاء.
وقبل بناء سد الفرات في بلدة الطبقة في عام (1973)، كانت المدينة تتعرض بشكل دوري لفيضانات نهر الفرات، ولعل أكبر فيضانين شهدتها المدينة في المئة العام الأخيرة، كان الأول عام 1929 حين إرتفع منسوب المياه سبعة أمتار، وفي عام 1967 حين إرتفع منسوب المياه عدة أمتار وتسبب ذلك بدمار كبير في الممتلكات وأرزاق الناس. هذا وتقسم محافظة “درزور” إلى ثلاثة مناطق رئيسية هي:
1- منطقة درزور. 2- منطقة الميادين. 3- منطقة البوكمال.
وتعتبر “درزور” مدينة زراعية، وتشتهر بزراعة الحبوب والقطن، هذا إلى جانب ذلك تشتهر المدينة بتربية المواشي، ومنذ إكتشاف النفط الخام فيها أصبحت المدينة عبارة عن مركزآ للتنقيب وإستخراج النفط الخام، وخاصة في حقل “العمر” أكبر حقول النفط في البلاد مساحة وإنتاجآ، وإكتشف عام 1968. يقع الحقل على الضفة الشرقية لنهر الفرات، على بعد 15 كيلومترا شرقي بلدة البصيرة بريف المدينة. وهناك أيضا حقل التنك”، وهو ثاني أكبر حقل بعد حقل “العمر”، ويقع في بادية الشعيطات بريف المدينة الشرقي.
ثالثآ، أثار مدينة درزور:
مدينة “درزور” بحكم موقعها الجغرافي الواقع على خط التماس الذي يفصل بين المناطق الحضرية الخورية ومناطق البادية، لذا ظلت تتعرض طوال تاريخها للهجمات من الجنوب، ولم تعرف الإستقرار بسبب تلك الهجمات والغزوات المتكررة من طرف العرب. والمدينة الأثرية التي كانت تحتوي أثارها أي تلك القلعة التي هدمها المجرمين البعثيين، كانت مقامة على تلة تسمى اليوم بي (لاقا)، هي الأخرى تعرضت للهدم والدمار عدة مرات في تاريخها، ولم يبقى اليوم من أثارها شيئ تقريبآ، والأسوأ من ذلك أن المدينة القديمة والحديثة لم تحظيا يومآ بأي إهتمام وعلى جميع الأصعدة، وفي مقدمتها الصعيد الأثري التاريخي. ولم يكلف أحد نفسه لليوم التنقيب في موقع تلك التلة، لعلنا نعثر على بعض أثار هذه المدينة وسكانها الأصليين الذين عاشوا زمنآ طويلآ.
مدينة “درزور” الأثرية شهدت عدة حضارات عبر تاريخها الطويل، أولهما الحضارة الخورية، الميتانية، ومن ثم توالت عليها حضارات مختلفة بفعل الإجتلالات المختلفة كالإحتلال الأموري، الأشوري، البابلي، الأكدي، الفارسي، الروماني، ثم إحتلها العرب المسلمين ومن بعدهم إحتلها العثمانيين، المدينة القديمة كانت تتكون من خمسة طبقات اوكل طبقة كانت ترمز لحضارة بعينها، وتشكلت تلك الطبقات الخمس على مدى ألاف الأعوام. وبقيت المدينة مأهولة بالسكان منذ نشاتها حتى تمت إزالتها عام 1969 ميلادي بشكل كامل بقرار حكومة البعث الإجرامية وكان الطاغية حافظ الأسد وزيرآ فيها بل كان هو الوزارة. ومن ثم أقيمت المدينة الجديدة على أنقاض المدينة الأثرية.
ورغم أن محافظة “درزور” تعتبر من أغنى المحافظات في غرب كردستان بالاثار القديمة، حيث تضم أكثر من (800) موقع أثري من أصل (4000) في عموم غرب كردستان، فلم تحظى بإهتمام الأثاريين الكرد إن وجودوا ولا السوريين. وهذا العدد الهائل من المواقع الأثرية، جعلتها تحتل المرتبة بالأثار وهذا ما يجلهه الكرد تمامآ. الناس فقط على دراية بثرائها النفطي فقط، كونها تملك أكبر حقلي نفط في غرب كردستان.
تحتضن مدينة “درزور”، متحفاً ضخماً هو الأكبر في منطقة الجزيره يضم ما يقارب خمسة وعشرين (25.000) ألف قطعة. ومن محتوياته بيوت أثرية بأحجامها الطبيعية بالإضافة إلى التماثيل، التمائم، المنحوتات، النقوش، الهياكل العظمية، القطع الأثرية الفخارية، والأواني الزجاجية المتنوعة وغيرها.
العرب ومعهم الكرد لا يهتمون بأي مدينة أثرية مهما كانت لها أهمية تاريخية، يهتمون بها فقط عندما يهتم بها الغربيين والأجانب عمومآ، وهذا ينطبق على الأثار وكل شيئ غير ذلك، بما فيهم المبدعين من بني جلدتهم. وكون الأجانب لم يهتموا بمدينة “درزور”، لسبب أو لأخر غير معروف، فلم يهتم الأثاريين السوريين بالمدينة نهائيآ، حالهم حال نظام البعث – الأسدي الإجرامي، وباتت في عداد المدن المنسية عمليآ. أرى من الضروري لا بل من الواجب على الكرد تشكيل فريق من خبراء الأثار، له خبرة معتيرة في التنقيب عن الأثار في المدينة وحفظها، ودراستها وتحليلها، ويرافقهم فريق من الخبراء في اللغات القديمة، للقيام بالتنقيب في موقع تلة “لاقا” وبقية المواقع الأثرية في المدينة، إضافة المواقع الأثرية تضمها أراضي المحافظة، التي سنتوقف عند بعضها، خلال هذه الدراسة لإلقاء الضوء عليها، لمعرفة تاريخها وهويتها القومية.
أبرز المواقع الأثرية في منطقة درزور:
هناك مواقع أثرية كثيرة في محافظة “درزور”، وسنتوقف عند أربعة منها لأهميتها:
1- موقع دورا أوروبوس:
اكتشفت مدينة دورا أوروبوس عام (1920) من قبل البعثة الفرنسية بإدارة الباحث “فرانز كومون” (1922-1923)، ثم تولت متابعتها في ما بعد بعثة أمريكية – فرنسية مشتركة بقيادة الباحث “ميكائيل روزتوفتزيف” بين أعوام (1928-1937).
تقع مدينة “دورا أروبوس” على بعد (85) كم إلى الجنوب الشرقي من “درزور”، وتتربع على رأسٍ صخري يتطاول ليشرف على نهر الفرات، فيجمع بين البادية والنهر بوحدة متلاحمة لا إنفصام لها، وتنحدر الأرض التي تقوم عليها المدينة بانكسار شديد نحو وادي الفرات من جهتها الشرقية والشمالية والجنوبية، الأمر الذي أكسب المدينة مناعة طبيعية ضد الغزاة، لذلك اكتُفي ببناء سور عال على طول تلك الجهات، أما الجهة الغربية التي تطل على البادية الواسعة الأرجاء، فقد حصنت بالأسوار والأبراج والخنادق.
تمتد حدود المدينة ألأثري على حوالي 1 كم من الشمال إلى الجنوب، وحوالي 700 متر من مجرى نهر الفرات حتى حائط الصحراء أي حوالي (50) هكتار. وتقع قبور المدينة إلى الغرب في حين يوجد مباني خدمية ومكب للنفايات خارج بوابة تدمر وخارج أسوار المدينة.
أنشأت المدينة في العصر الهلنستي بزمن “سلوقس الأول” عند نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، أي نحو (300) عام قبل الميلاد، حينما قام أحد قواده “نيكاتور” ببناء حصن في هذا المكان الذي وجده مناسباً لإقامة قلعة مهيبة ترهب الأعداء، أي أن المدينة تأسست لأغراض عسكرية استراتيجية، ثم اكتسبت أهمية تجارية بمرور الزمن، ويتجلى ذلك في القلعة الضخمة المطلة على نهر الفرات، والتي يفصلها واد عميق عن بقية أجزاء المدينة، كما يبدو من السور الخارجي وتحصيناته المتينة، الذي دعم بسور داخلي، ويتلاقى السوران عند الأبراج المربعة الشكل، ثم توسعت المدينة وزادت مساحتها حتى أصبحت (72) هكتاراً. وإسمها تعني حصن أو قلعة أوروبس وهي تسمية يونانية.
وكانت المدينة محصنة بأسوار منيعة مزودة (26) بستة وعشرين برجاً و(4) أربع بوابات، أهمها بوابة تدمر إضافة إلى القلعة وعدد من القصور (قصر القلعة، قصر الحاكم، قصر حاكم النهر) وهي ذات تخطيط شطرنجي، تقسمها الشوارع إلى عدد من الجزر السكنية المنتظمة وتحتوي على الساحة المركزية “الآجورا”، وعدد من الحمامات الرومانية وما يفوق على (16) ستة عشر مبنآ دينياً مثلت مذاهب وديانات مختلفة منها الوثنية ومنها التوحيدية: أهمها الميثاريوم، معبد بل، أرتميس، أثارغاتس، أرتميس نانايا، زيوس كريوس، والبيت المسيحي الأقدم في العالم والكنيس المحلي، وقد زُين معظمها بالرسوم الجدارية.
كما عثر على الكثير من التماثيل والمنحوتات التي تبرز طبيعة الفن الخاص “بدورا أروبوس” والتي تأثرت بثقافة الشعوب التي عاشت فيها، كتمثال الإلهة أفروديت فوق درع السلحفاة، ومنحوتة الإله آرشو ومشهد الإله ِبل وغيرها. جميعها صنعت من حجر الجبس، كما عُثر على العديد من المخطوطات الرقية والنقود، وأشلاء من ورق البردي والنقوش الكتابية. لقد عاشت المدينة قرابة خمسة قرون عرفت خلالها الكثير من الصراعات والحروب بين القوى المتصارعة في تلك المرحلة وخاصة بين السلوقيين والفرس،
ثم بين الرومان والبارثيين، ثم بين الرومان والساسانين الكرد، وبقيت مدينة “دورا أروبوس” خاضعة للسلوقيين منذ إنشائها حوالي (300) قبل الميلاد إلى أن وصل نفوذ الفرس بقيادة “الفرثيين” حتى نهر الفرات، مستغلين ضعف الدولة السلوقية.
إن أهم ما في دورا أوروبوس هو وجود (14) أربعة عشر معبدآ، من ضمنها معابد يزدانية، مما يدل على التنوع الديني والتسامح بينها في نفس الوقت والتعايش السلمي في ذات الحين. السبب في ذلك عدم ظهور الأديان الشمولية بعد في تلك الفترة الزمنية أي (اليهودي، المسيحية، الإسلام). كما أن سكان المدينة كانوا خليطآ من الأقوام والعنصر الغالب كان من الخوريين الكرد، وإلى جانبهم بعض اليونانيين، المحتلين الرومانيين، وبعض البربر الذين جلبهم معهم الجيش الروماني أثناء توجه للمنطقة، كون شمال أفريقيا كانت بكاملها خاضعة للسيطرة الرومانية. وأنشئت في “دورا أوروبوس”، أول كنيسة في هذا الوقت المبكر بالمدينة، وكانت المدينة تعرف ما لا يقل عن خمس أديان، منها الديانة اليزدانية ديانة سكانها الأصليين.
وأول عالم آثار عمل في الموقع في العام 1920 كان الأمريكي “جيمس هنري بريستيد” وبعد عامين من الاكتشاف الأولى، بدأت أول حملة تنقيب جدية في الموقع. بعد ذلك أتى البلجيكي “فرانس كومنت” ومن ثم بدأ مشروع فرنسي أمريكي مشترك إستمر لعشرة مواسم: من عام 1928 حتى عام 1937 وتوقف لنفوذ موارد تمويله. وأتى من بعده مشروع روسي ضخم أشرف عليه العالم “ميخائيل روستوفتسيف” وتم من خلال هذا المشروع إكتشاف معظم الأشياء المهمة في الموقع. وفي عام 1980 إنطلق مشروع سوري – فرنسي ترأسه العالم الفرنسي “بيير ليرشيه”.
2- موقع حلبية وزلبية الأثري:
تقع المدينتان التوأمان الأثريتان على هضبة مرتفعة تغطيها حجارة بركانية، تعد امتداداً لجبل البشري،
ويقسمها الفرات إلى قسمين، فتصبح مدينة حلبية على الضفة الجنوبية للنهر، ومدينة زلبية على الضفة الشمالية، تفصل بينهما مسافة تقارب 3 كم. وتبعدان حوالي (58) كم عن مدينة “درزور” شمالآ على نهر الفرات في منطقة الجزيره.
ولموقع المدينتين أهمية كبرى كونه يشكل موقعاً عسكرياً ممتازاً لتحصينه الطبيعي بالصخور الشاهقة الموجودة على سفح الهضبة، لأنه يتحكم بالطريق النهري وطريق القوافل التجارية البرية القريبة منه. بحسب المصادر التاريخي فإن تاريخ بناء المدينتين يعود إلى العهدين (البابلي والآشوري)، إذ دانتا لهما بالولاء حيناً وثارتا عليهما أحياناً أخرى، حتى قام الملك “آشور ناصر بال” بحملة عسكرية عليهما، حوالي سنة (878) قبل الميلاد، ونكل بأهلهما وخربهما وبنى مكانهما قلعتين على ضفتي النهر.
أما فيما يتعلق بسكان المدينتين والمنطقة التي تحيط بهما كانوا من الكرد الخوريين، ومتأخرآ قدم إلى المنطقة الأموريين العرب. وفي عهد السلوقيين وجدت عدة مدن في ممر حلبية يعتقد أنهما تعود لفترة الخوريين، ولكنها أزليت بشكل كامل ولم يبق من آثارها شيء. وبسبب هذا الموقع الهام جعل منهما ممرآ تجاريآ وتعاونتنا مع مملكة تدمر، عندما كانت في أوجه إزدهارها الإقتصادي. وما يميز مدينة “حلبية” الشارع ذو الأعمدة الرخامية التي تغطي الجانبين، يمر الشارع ببابي المدينة الجنوبي والشمالي. ووجد علماء الأثار في المدينة، كنيسة إضافة إلى دار للقضاء، وأبراج وأهرامات إستخدمت كمدافن تشبه الأهرامات التدمرية وحمام وإضافة إلى مطابخ. وعثروا أيضآ على الكثير من أواني الطبخ وقطع قماشية صنعت في المدينة في ذلك الوقت، مما يدل على حضارة حقيقة ونهضة إقتصادية تميزت بها المدينة في تلك الحقبة الزمنية.
ذُكرت حلبية أول مرة في أيام الملك الآشوري “آشور ناصر بعل الأول” حوالي (1149- 1131) قبل الميلاد، وكانت حصناً للدول الآشورية ثم البابلية ثم للحضارات التي تعاقبت عليها متعاقبة، كما سيطرت عليها مملكة تدمر لفترة طويلة، وكانت معبرآ للتجارة التدمرية بين الشرق والغرب ومحطة للتوقف والتزود، وملجأ للتدمريين إبان الحروب التدمرية مع “ماركوس أنطونيوس” والامبراطورية الرومانية عام 41 قبل الميلاد.
أما حصن “زلبية”، الذي يقع على الضفة الشمالية لنهر الفرات، والذي لا يبعد سوى (3) كيلومترات عن تومأها “حلبية”، ويقابله مع شيئ من الإنحرف نحو الجنوب الشرقي، وكان يحتل مكانة مهمة أيام الحكم الآشوري من الناحية العسكرية لموقعه الهام، وإذا ما قورن بحصن “حلبية” فإن معالمه قليلة للغاية، ويربط الحصنين “حلبية وزلبية” أبنية سقفت نهر الفرات.
ولا يزال آثار الجسر في نهر الفرات تبدو واضحة للآن، وكان الحصنين “حلبية وزلبية” محط أنظار الساسانيين الكرد والروم، وقد دمرها “كيخسرو الأول” حوالي العام (540) ميلادية بعد استيلائه على الموقع، ولما إسترجعها القائد البيزنطي “جستنيا نوس” حوالي (565) ميلادية أعاد بناء ما تهدم منه.
كان حصن “زلبية” يشبه توأمه في معظم تفاصيل بنائه ونمط عيش أهله. وهو مرتفع من الحجر الجصي كان مبنيآ عليه قلعة ذات أسوار وأبراج من الحجر الجصي، وقد جرفت مياه النهر هذا المرتفع، بسبب مروره من أسفله بشكل سريع، وذهب بمعظم القلعة للأسف الشديد.
وإلى الشمال من القلعة بقايا سد كان قائماً على نهر الفرات، وإستخدم لغايات الري والزراعة والحد من فيضانات النهر. ومع تعاظم نفوذ تدمر العسكري والتجاري، لفت نظر الغزاة المنافسين لها إلي الحصنين كونهما كانا يقعان ضمن مناطق نفوذ مملكة تدمر حينها، فقام الرومان بقتال التدمريين وتدمير مدنهم ومنها حلبية وزلبية. وبعض الروايات التاريخية تقول، أن الملكة زنوبيا، بعد حصار الرومان لها في تدمر، تسللت محاولة الوصول إلى “حلبية وزلبية” على شاطئ الفرات، لكن حامية رومانية قامت بأسرها وإقتيادها ولكن لا نمكل أدلة تؤكد ذلك. ودمر الرومان حلبية وزلبية لتصبح أوابد أثرية تسرد قصة حضارة المدينتين التوأمتين اللتين تغفوان على كتف نهر الفرات.
كشفت البعثة السورية – الفرنسية المشتركة، التي أنهت أعمال التنقيب في الموقع، عن وجود رسوم وزخارف تزين جدران المدافن البرجية الواقعة شمال الحصنين، ويعود تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وهذه الرسوم والزخارف التي تزين جدران المدافن، تتميز بأشكال هندسية مختلفة وملونة بالألوان (الأحمر والبني والبرتقالي)، ويبلغ عدد المدافن التي تم إكتشافها في الموقع حوالي (64) مدفناً بمختلف الأحجام، وتصل المساحة الوسطية للمدفن الواحد إلى حدود (3.5)م طولاً، و(3،5)م عرضاً.
نهاية الحلقى الأولى وإلى الحلقة القادمة.[1]