في خريف عام 1928، بدأ #أحمد ثريا بدرخان#، سليل العائلة الأميريّة الكرديّة الأشهر، المعروف إعلاميّاً باسم ثريا بدرخان، رحلة خارجيّة طويلة على متن سفينة بخاريّة متجهة إلى الولايات المتحدة. كانت جمعية خويبون (الاستقلال) الكرديّة تأسست في بيروت قبل عام، وتولى الأمير ثريا مسؤوليّة الدعاية الخارجيّة، فمن بين أفراد عائلته، وهو أكبر أبناء أمين عالي بدرخان سناً، كان ثريا الأقل حضوراً في الوسط الكرديّ والأكثر تمثيلاً للكرد في الخارج.
رفقة رحلة… لقاء وقضية
على متن هذه السفينة، كانت هناك امرأة بريطانيّة شابة مميزة تدعى غريس مارغريت هاي درموند-هاي. Grace Marguerite Hay Drummond-Hay، ذات الاسم المركب الطويل، هي أشهر امرأة في الإعلام الغربيّ آنذاك بسبب شخصيتها المحبّة للمغامرة؛ فهي أول امرأة حلّقت برحلة قاريّة عبر منطاد قبل رحلتها على السفينة البخاريّة بشهور، لتصبح نجمة في الصحافة الأنغلوساكسونيّة.
بدأت قصة نجاحها بزواجها في 1923 من الرجل الذي حملت لقبه بقية حياتها: الدبلوماسي البريطانيّ روبرت هاي درموند هاي الذي يكبرها ب50 عاماً، وما لبث أن توفي، لترث غريس ثروة طائلة وعلاقات واسعة سهّلت لها امتهان الصحافة والكتابة عن السياحة والسفر عبر الرحلات الجوية الأولى عبر العالم في ذلك الوقت.
لقاء غريس وثريا بدرخان غير موثّق في أرشيف العائلة البدرخانيّة، فهو مجرد صدفة جمعت بين شخصين على متن رحلة، وربما لم يترك أيّ انطباع لدى ثريا، إذ جرت بينهما دردشة سياسيّة سردتها غريس في مقالٍ لها نُشر في صحيفة SPHERE البريطانيّة في الثاني من أغسطس/آب 1930.
بدأت غريس مارغريت مقالها بالإشارة إلى أن الصعوبات التي تواجهها بريطانيا العظمى في مصر والهند تهيمن على مشهدِ الثورات في العالم. لذلك، فإنَّ التطوراتِ الأخيرة في «المشكلة الكرديّة» المستمرة في تركيا تمر من دون أن تلفت انتباه أيَّ أحدٍ، وتقصد الكاتبة هنا ثورة آغري الكبيرة بقيادة الجنرال إحسان نوري باشا، ميدانيّاً، وجمعية خويبون، سياسيّاً.
تضيف الكاتبة أن ما يحدث (ثورة آغري – آرارات) «تعبير آخر جلي لمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وأيضاً الشرق ضد الغرب، الكرديّ السنيّ المسلم المحافظ والمتشدد ضد التركيّ ذو الروح الغربيّة»، وتسرد غريس مارغريت ملامح سريعة من انعدام الثقة في العلاقات الكرديّة التركيّة منذ معاهدة التحالف بين الطرفين عام 1514، وتقول إنّ وجهةَ نظر الكرد تحمّل تركيا مسؤولية تدهور العلاقات، فالكرد أوفوا بالتزاماتهم كاملةً بينما استولت تركيا على بلادهم لجعلها أرضاً تركيّة. وتبدو غريس مطلعة على تفاصيل من سيرة الكرد، ولا شك أنّ وجهة النظر الكرديّة هذه تعود إلى الأمير ثريا بدرخان، فهي لم تلتقِ كرديّاً آخر غيره. لذلك، تحدثت عن سقوطِ آخر معقل للكردِ في أيدي الجيشِ العثمانيّ عام 1848 و«خيانة» ابن عم بدرخان بك له، وتضيفُ: «ومنذ ذلك الحينِ، أصبحوا أقليّة بلا قيادة، يواجهون مصير جميع الأقليات ويشتكون من أنّهم ناشدوا الدول (الكبرى) من دون جدوى، ومرة أخرى قرروا تولي زمام الأمور بأنفسهم».
تنتقل غريس في مقالها إلى لقاء جمعها مع شخصية كردية شهيرة، فكتبت:
«قبل عامين (1928) سافرت عبر المحيط الأطلسي على متن سفينة بخاريّة مع الأمير ثريا بدر خان، القوميّ الكرديّ، من نسل خالد بن الوليد، الذي تعرض النبي محمد على يديه إلى هزيمته الوحيدة. لمدة ثلاثة عشر قرناً، حكم أجداد الأمير ثريا دولة الجزيرة الكرديّة. أخبرني الأمير بفخر أنّ الإمبراطور الأيوبي صلاح الدين، خصم ريتشارد قلب الأسد، كرديّ. ثم أشار بامتعاضٍ إلى أن هذه الثروة الغنية في نفط الموصل (المقصود حقول كركوك) هي مُلك وطني للشعب الكرديّ. وأشار في الوقت نفسه إلى أنّ معاهدة سيفر عام 1920 تنصًّ على قيام دولة كرديّة لم تتحقق بعد».
الحربُ مستمرةٌ وستستمرُّ
في الجزء التالي، تتحدث غريس مارغريت عن سبب توجه ثريا إلى الولايات المتحدة والدول الغربية، وهي، كما تبدو، مستمعة جيدة، وحفظت حتى تاريخ تأسيس جمعية خويبون؛ التنظيم الكرديّ الذي أعاد رسم معالم القومية الكرديّة في النصف الأول من القرن العشرين.
تقول غريس: «يسافر بدرخان ويعمل بلا كلل كممثل عن جمعية خويبون التي تأسست في تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1927، وطالبت باستقلال كردستان على النحو المنصوص عليه في معاهدة سيفر، وأعلنت كرد آفا، في جبل آغري، عاصمةً مؤقتة. لقد تقربوا بحذر من بلاد فارس وأرمينيا والعراق وسوريا، مقابل تصميمهم على شن حرب لا هوادة فيها ضد الأتراك».
حين التقت الصحافية البريطانيّة بالأمير ثريا، كانت الكفة تميل للكرد في ثورة آغري عام 1928، وحين نشرت هذا المقال، كانت الثورة تشارف على نهايتها إثر مساومات أفضت في النهاية إلى اتفاق الجمهورية التركيّة مع كلِّ من الاتحاد السوفييتي وإيران على السماح لقواتها باستخدام أراضيهما لمحاصرة القوات الكرديّة في الجبل الحدوديّ. وإثر هذه التفاهمات، خاصةً مع الجانب الإيرانيّ، فقدت الثورة الكرديّة خط الإمداد الرئيسيّ. في المقابل، أجرت إيران وتركيا تسوية تضمنت تبادلاً للأراضي حصلت تركيا بموجبها على امتداد جبل آرارات (آغري) الواقع داخل الأراضي الإيرانيّة، ومنحت في المقابل للدولة الإيرانية أراضٍ بديلة تمثلت في بلدة قتور.
في المحادثة بين الأمير والصحافية عام 1928، ذكر ثريا بدرخان أنَّ «الحربَ بين الترك والكردِ مستمرةٌ.. وستستمرُّ حتى يتم تحقيق هدف الكرد»، وعلّقت غريس مارغريت في مقالها على هذا التصريح بالقول: «سواء كان هذا التهديدُ يعني شيئًا أم لا بالنسبة لكمال باشا –الفاتح– فإنَّ الكرد الذين فروا من تركيا بعد تمرد (ثورة) الشيخ سعيد عام 1925 إلى الخارج، نجحوا بالتأكيد في أن يصبحوا شوكةً في خاصرة الدكتاتور التركيّ».
مهندس العلاقات الخارجيّة
كان من المقرر أن يمثل ثريا بدرخان المطالب الكرديّة خلال مؤتمر الصلح في باريس ثم معاهدة سيفر عام 1920، لكن لسببٍ ما، لم يستطع السفر، فتم انتداب شريف باشا خندان ليكون مفوضاً للحديث باسم الكرد. ومنذ هروبه النهائي من إسطنبول عام 1913، عقب فراره من السجن ونجاته من حكم الإعدام، أقام ثريا في مصر بشكل أساسي. وعلى الرغم من أنه الأكبر من أبناء بدرخان والأكثر حراكاً على الساحة الدبلوماسية الدولية، فإن ابتعاده الطويل عن كردستان شكّل عائقاً أمام ثقة الإنكليز به، فهو من دعاة الانتداب البريطاني على كردستان والانفصال النهائيّ عن تركيا العثمانيّة، وموالٍ للإنكليز على نحوٍ لافتٍ. ترك ثريا انطباعاً إيجابيّاً لدى الضابط البريطانيّ الميجور نوئيل الذي قام برحلة عبر شمال كردستان من أجلِ استكشاف إمكانيات الاستقلال الكرديّ برفقةِ شقيقي ثريا – كاميران وجلادت-، فأشادَ نوئيل به في كتابه «كردستان والكرد» بالقولِ: «لقد أنجز أعمالاً هامة لصالح الكرد. وكان أكثر من عرّف العالم الخارجيّ بالقضية الكرديّة، وساهم بشكلٍ خاصٍ في إيصال فكرة استقلال كردستان إلى الشعب الإنكليزيّ». وحين فكر الإنكليز، لفترة وجيزة، في بداية احتلالهم العراق، بتأسيس دولة للكرد، كان ثريا بدرخان مرشحاً ليكون رئيساً لدولة كردستان.
في العام 1930، نُشِر كتاب باللغة الفرنسيّة في باريس نال نصيبه من التوزيع والترويج تحت عنوان «القضية الكرديّة.. جذورها وأسبابها»، وتمت ترجمته إلى العربيّة باسم جمعية خويبون بعنوان «القضية الكرديّة.. ماضي الكرد وحاضرهم» لمؤلف لم يسبق أن سمع به أحدٌ، وستبقى صورته مجهولة. كان الجميع يعلم أن «الدكتور بلج شيركو» اسم مستعار. ونُسب الكتاب إلى جلادت بدرخان حين بدأ كتّابٌ كرد في النبش عن اسم المؤلف الحقيقي، ومن بين هؤلاء، هزار موكرياني وكمال مظهر أحمد وآخرون ذكرهم الدكتور نجاتي عبدالله في تقديمه لطبعة «دار آراس» من كتاب بلج شيركو. وبحث نجاتي أيضاً عن وثائق في الأرشيف الفرنسي، وتوصل إلى رأيٍ جديد وحاسم، فالمؤلف هو السياسي والمثقف الكردي ثريا بدرخان، الذي أصدر كذلك كتاباً ثانياً بالاسم المستعار ذاته في باريس عام 1931 بعنوان «نداء كرد الجنوب إلى عصبة الأمم».
يعد كتاب «بدرخانيو جزيرة بوتان» للكاتب الكردي مالميسانج، من ترجمة شكّور مصطفى، من أهم الأبحاث عن العائلة البدرخانية، ويتضمن معلومات قيمة عن ثريا بدرخان. (هناك ترجمة أخرى للكتاب إلى العربية أنجزها دلاور زنكي).
من خلال مقدمة نجاتي عبدالله لكتاب شيركو بلج، والوثائق التي تضمنها كتاب مالميسانج، نعلم أن ثريا بدرخان قصد الولايات المتحدة بعد أن غادر بلاد الشام في خريف 1928، وهو عضو مؤسس لجمعية خويبون، وفي طريقه، نزل في إيطاليا أولاً والتقى الزعيم الإيطالي بينيتو موسوليني. تقدر فترة بقائه في الولايات المتحدة بين تشرين الثاني/ نوفمبر 1928 وحتى نيسان/أبريل 1929 بغرض تنظيم شؤون الكرد في أميركا والدعم والدعاية لجمعية خويبون (جمعية استقلال الكرد)، وعقْدِ عددٍ من الاجتماعات في ديترويت بميشيغان، من دون أن يصرح ثريا بدرخان بنتائج لقاءاته والشخصيات التي قابلها، وحين عاد إلى بيروت ثم دمشق، كانت ثورة آغري (آرارات) ضد الجمهورية التركيّة على مشارف الهزيمة بعد صمودها أربع سنوات إثر تلاقي مصالح كل من روسيا وتركيا وإيران وفرنسا في مساومات ومقايضات ثنائيّة وثلاثيّة من أجل خنق طرق إمداد الثورة. وعلى إثرها، نفت فرنسا عدداً من السياسيين الكرد المقيمين على أراضي الانتداب في سوريا، وبناءً على طلب تركيا، نفذت فرنسا عمليات نزع السلاح في المناطق المعنية بالقضية داخل الأراضي الملحقة بالانتداب الفرنسيّ: تعلك، قامشلو، قبور البيض، وما يحيط بها. وفي 4 آب/ أغسطس 1930، صدر قرار طرد من سوريا ولبنان بحق ثريا بدرخان الذي كان يحمل جواز سفر مصريّاً، وانتظر شقيقه جلادت مصيراً مشابهاً، لكنه نجا منه لأنه اختار الجنسية السورية في وقتٍ سابق، أما الزعماء الكرد الآخرون، الأقل نفوذاً وارتباطاً ب«خويبون»، تم وضعهم قيد الإقامة الجبريّة في دير الزور.
بقي ثريا في باريس حتى وفاته عام 1938. له ابنة اسمها قُدرت وابن يدعى حقي. تزوجت قدرت من الأمير راكان الهاشميّ، من العائلة الملكية الأردنيّة، ولهما ولدان وأربعة بنات، وأطلقا على الابنة الكبرى اسم نوزاد.[1]