المركز الكردي للدراسات
“لو كان هناك قانون لما كانت هناك جمعية باسمالشيخ سعيد.. نقابة محامي دياربكر في أيدي الأعداء”. هذه كلمات لزعيم حزب النصر، متين أوزداغ، عن جمعية تحمل اسم #الشيخ سعيد بيران#، قائد ثورة 1925 في شمال كردستان ضد “الجمهورية”. بعد مرور ما يقارب قرناً (99 عاماً) على تأسيس هذه الجمهورية، و 97 عاماً على محاولة الإطاحة بها من كردستان، ما زالت القضايا التي كانت تجري مناقشتها قبل مئة عام، حية و غير محسومة إلى اليوم. ما الذي كانت تفعله “الجمهورية” طيلة مئة عام وهي لم تحسم أي قضية خلافية منذ ما يقرب 100 عام؟
للدخول إلى ظروف تأسيسها، و التوازنات الدولية التي ضمنت استمراريتها “كيفما كان”، من المفيد الاطلاع على وجهة نظر كتبت في شهر تموز (يوليو) 1925. المقال نشرته مجلة “فورين أفيرز” الأميركية، لكن اسم الكاتب ليس محدداً، واكتفت المجلة في نسخة المقال المؤرشف بوضع حرف (E) في خانة اسم الكاتب. و تواصل المركز الكردي للدراسات مع إدارة المجلة للاستفسار عن اسم الكاتب، ولم تكن الإجابة مفيدة. وللكاتب نفسه مقالة ثانية في “فورين أفيرز” حول التنافس بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة وقضايا داخلية أمريكية، و ربما يرجح أن يكون أمريكياً.
لا يسرد الكاتب أحداثاً معينة بخصوص تركيا الجديدة، إنما يقدم قراءته لمستقبل هذه الدولة، انطلاقاً من بنيتها وطبيعتها، و يتطرق إلى الثورة الكردية في أكثر من سياق، كدلالة على فشل الجمهورية في استيعاب العناصر المتباينة، ويقيّم التناقض بين الرداء الحداثوي للدولة وبنيتها الرجعية والمتطرفة. حين نشر المقال، كان قد مضى على إعدام الشيخ سعيد بيران ورفاقه قرابة شهر (30 أيار)، و أجهزة الجمهورية مستمرة في حملة وحشية لملاحقة كل من تشتبه به وتسوقه إلى محاكم الاستقلال. ويلاحظ اطلاع الكاتب العميق على الشأن الداخلي التركي، فرغم شيوع أسلوب الكتابة السطحية والمبتذلة عن شؤون الشرق في الصحافة الغربية، فإن الكاتب هنا مطلع بدقة على طبيعة حكومة فتحي أوكيار التي استقالت لأن أوكيار لم يرغب في التورط بالدماء الكردية، وحل محله عصمت إينونو الذي يصفه الكاتب بسخرية بأنه “الشخص المفيد دوماً و أبداً” لمصطفى كمال، ثم يحلل تأثيرات محاكم الاستقلال على الحياة السياسية، وألاعيب مصطفى كمال للانفراد بالحكم مع الإبقاء على ديكور دولة المؤسسات. ويلحظ النفور المتبادل بينه وبين سكان مدينة اسطنبول، وكذلك يتحدث عن تفسيره للعداء بين أنقرة و اسطنبول، و بين المدن الساحلية والداخلية حيث في المحصلة كان انتصار حرب الاستقلال بمثابة هزيمة لاسطنبول أيضاً في السنوات الأولى من عمر الجمهورية.
يقيّم الكاتب أيضاً إمكانية استمرار هذه النسخة المقلدة من الدولة الحديثة بعد عام 1925، و يميل إلى أن عناصر نجاحها غير متوفرة، لكن لا يجزم بانهيارها، فهو التقط وصفة بقاءها وهي تحول تركيا، ككيان سياسي، إلى حل وسط لتهدئة الصدام المديد بين بريطانيا وروسيا في غرب آسيا والبحر الأسود، وبين فرنسا وإيطاليا في البحر المتوسط، وهذه الوظيفة ما زالت فعالة إلى اليوم وهي بمثابة “يا نصيب” يومي تربحه تركيا دولياً لمواصلة سياسة “الصندوق المغلق” داخلياً، فتفعل ما تشاء في تسيير سياسة أمنية وحشية بحق الكرد، داخل تركيا وفي جوارها القريب. (تعليق – حسين جمو)
نص المقال:حقائق وخرافات تركية
*فورين أفيرز – تموز 1925
مرت تركيا خلال العقد الماضي بثلاث فترات من التحوّلات السريعة التي أحدثت تغييرات تثير الحيرة بحيث لا تزال البلاد تعيش أجواء الحكايات الخرافية.
ماذا تبقى من الإمبراطورية العثمانية القديمة في الجمهورية التركية الحديثة التي تطهّرت من السلاطين والخلفاء والهيمنة الأجنبية؟ ما الذي حل بالأتراك المهزومين الذين كانوا سيطردون من أوروبا؟ أين هي تركيا حامية حمى الإسلام التي كان من المفترض أن يحتشد خلفها العالم الإسلامي، من المغرب إلى الهند، قبل أربع سنوات؟ تبخّرت واختفت وذابت في نسج من الخيال لا يمتّ بالواقع بِصلة على غرار المفهوم التركي لكل هذه الأمور. كان هذا العقد صورة متعددة الألوان بأشكالٍ متباينة، أمامها ستار تلو الآخر من المظاهر الزائفة. وخلف كل المشاهد المتغيّرة، بقي مشهد ]الشخصية[ التركية الباردة أحد أكثر الأنماط التي لم ولن تتغير في أوروبا.
جرّدت الحرب الإمبراطورية ]العثمانية[ من الأراضي غير التركية، وأثارت اضطرابات في البلاد بفعل المجازر وعمليات التهجير وأفضت إلى تنازلات مذلة هي الأكبر بالنسبة إلى «قوى المركز». لكن لم تتعرض الجيوش التركية إلى الهزيمة في الأراضي التي يقطنها العرق التركي. لم تعنِ فلسطين وسوريا الكثير للشعب التركي وكذلك حملة ]الضابط البريطاني أدموند[ ألنبي. وفي النهاية، تجنبت تركيا وحدها من بين «قوى المركز» نتائج هزيمتها ودفع الثمن الذي تستحقه. لذلك، عندما ينظر التركي إلى الحرب، يسقط ستار المظاهر الزائفة وتختفي الحقائق، ولا يرى سوى انتصاراته العظيمة في غاليبولي وكوت العمارة.
وفي الفترة التي أعقبت الحرب، أي بين هدنة مودروس ومودانيا (1918-1922)، تفاعلت التطورات بوتيرة متسارعة. اعتزم الحلفاء التعامل مع تركيا بحسب هواهم. وفوق كل اعتبار، رغبوا بمنح المضائق وضعاً دولياً وإخراج القوة التركية من أوروبا، وهي خطوات لترتيب البيت الداخلي تأخرت كثيراً. وعليه، جلبوا اليونانيين، أمهر وكلائهم، بتقاليدهم الأيونية والبيزنطية البعيدة عن ركب الحداثة. وتالياً، ظهر جندي تركي في صحارى الأناضول جمع الكثير من المقاتلين من بني جنسه حوله. وفي قصره في القسطنطينية، جالت قدسية السلطان، خليفة الإسلام، كطيفٍ يطارد سياسيي دول الحلفاء. وانكسرت شوكة الحلفاء جراء القوة العسكرية الضاربة لمصطفى كمال والنداء المحمدي للخليفة الذي لم يكن بالإمكان تخيّله.
انتهت تلك الفترة الاستثنائية بهزيمة مخزية للجيش اليوناني. وهكذا، لم يكن هناك شيء أكثر إثارة للذهول من إعلان الحلفاء الحياد بشأن الحرب المشتعلة حينها بين وكلائهم اليونانيين وأعدائهم القوميين الأتراك. لم يكن هناك تصنع أكبر من تلك العلاقات القائمة آنذاك بين السلطان في القسطنطينية والقوميين في أنغورا ]أنقرة[، في وقت يهاجم السلطان القوميين ويعتبرهم متمردين غير أتقياء، بينما يعلن القوميون لأمة محمد أنهم حاربوا من أجل تحرير خليفتها. وصلت السخافة المثيرة للسخرية ذروتها حينما منع الحلفاء، في صيف عام 1922، اليونانيين من دخول القسطنطينية تحت طائلة شن حرب، ليدخلها الأتراك بعد عام فحسب.
بالطبع، تناسى الأتراك هذه الفترة المليئة بأخطاء ]الحلفاء[ الفادحة، ووصفوها ب«حرب الاستقلال» المجيدة. بالنسبة إليهم، اعتبرت المسألة تجديداً للأمة التركية، وانبعاثاً للروح الوطنية التركية، ونضالاً بطولياً ضد أوروبا انتصروا فيه بفضل قوّتهم وتضحياتهم. في نظرهم، تُمثّل معارك سكاريا والمارن انتصاراتٍ حقيقية وعظيمة للغاية. برأيهم، قاموا بكل ما يتوجب فعله. واعتبروا أن تركيا واجهت الغرب وانتصرت عليه، لا أن الحلفاء امتنعوا عن مواصلة القتال بعد أربع سنوات مضنية من الحرب أو أن الحلفاء تقهقروا أمام قوة الخليفة «الفائقة» وارتكبوا خطأ تصفية الحسابات بين بعضهم البعض.
كيف انفصلت الجمهورية عن الواقع؟
زار جنرال أجنبي بارز القسطنطينية مؤخراً، وأجرت الصحف لقاءات معه. ومن ضمن الترهات التي صدرت، نُشرت تصريحات مكتوبة جاء فيها أنه يعتبر «معركة سكاريا مجيدة وآثارها أكثر أهمية بالنسبة إلى العالم من تلك التي نتجت عن معركة المارن». ليست تلك مجرد واقعة كذب شرقي. من المنصف أكثر تسميتها تعبيراً عن رأي يعتقد المواطن التركي العادي أن على الجندي المتميز الايمان به.
لقد أكدتُ على الجانب الأسطوري لأسس الدولة التركية الحالية، لا لتسليط الضوء على المعاناة والتضحيات الكبيرة للأتراك خلال الحرب والهدنة، ولكن لأنه لا يمكن استيعاب انفصال النظام الجمهوري الحالي عن الواقع ما لم يفهم المرء جو الزيف الذي ساد الفترات السابقة. حينما يطرح رئيس تحرير صحيفة رائدة في القسطنطينية – أوروبية الشهرة – سؤالاً بجدية «إلى كل المهتمين بالسياسة، فيما إذا شكّلت تركيا في يوم من الأيام تهديداً لجيرانها؟»، ما الذي يمكن للمرء استخلاصه؟ هل يمكن أن يتساءل ببساطة «هل فقد هذا الرجل رشده»؟ على الإطلاق، بل هو شخص مثقّف وذكي للغاية، لكن يمكن فهمه فقط من خلال الحكاية الخرافية التي عاش أجوائها.
عندما تم توقيع الهدنة في مودانيا بين الأتراك وقوى أوروبا الغربية «المحايدة»، سيطرت قوات الحلفاء على القسطنطينية والمضائق، بما في ذلك لواء من الحرس البريطاني، مدعومةً بأقوى السفن الحربية في أوروبا وقوة جوية كبيرة. ومع ذلك، في غضون ستة أسابيع، أضحت تلك القوة شكلية. بقيت السفن الكبيرة في المرفأ، وأمكن مشاهدة الحراس البريطانيين والجنود الفرنسيين يسيرون في شوارع القسطنطينية. لكن في الواقع، انتقلت السيطرة إلى ضابطٍ تركي صغير، ماهر، بلا مبادىء ونشيط بشكل مثير للدهشة. كان في طريقه إلى تراقيا لقيادة حوالي ثمانية آلاف من «الدرك» سُمح لتلك المقاطعة بتجنيدهم وفق هدنة مودانيا. لكن لسبب أو لآخر، مكث في القسطنطينية وأحكم قبضته على السلطة حينما طال بقاؤه. وقبل أن يمضي ستون يوماً على توقيع الهدنة، شاهد كيف خرج السلطان/الخليفة من قصر يلدز في فجر يوم بارد متوجهاً إلى مالطا على متن سفينة حربية بريطانية، وقاد هذا الضابط سيارته إلى قصر توب كابي ومسجد الفاتح مع خليفة جديد (تم اختياره بعناية من قبل مصطفى كمال وحكومة الجمعية الوطنية الكبرى).
نظرياً على الأقل، يجب أن يكون ل«أمير المؤمنين» سلطات دنيوية ودينية على حد سواء. ومهما قيل عن غرائبية أسلوب اختيار الخلفاء في الماضي، فإن انتخاب شخصية مرموقة من قبل مجلس علماني غير منتخب كان بدعة يصعب تبريرها إلى حدٍ ما. كان رجلاً عجوزاً لطيفاً يحب الحياة الريفية الهادئة واستهواه الفن. بعد تسلّمه الخلافة، دأب على الذهاب كل يوم جمعة إلى مسجدٍ في الدولة، على نمط ما سمحت به أنقرة. وفي أوقاتٍ أخرى، شغل نفسه في تشذيب لحيته التي تحض عليها التقاليد، لأنه لم يكن لديه واجباتٍ أخرى. أما ‘سيف عثمان’ الذي لازم السلاطين، فلم يُصنع في عهده، إذ كان لمصطفى كمال رؤيته الخاصة للسيوف.
الفتح الثاني للقسطنطينية
في غضون ذلك، التئم مؤتمر لوزان. واجهت قوى أوروبا تركيا على طاولة السلام. إلى جانب تركيا، اصطفت روسيا السوفيتية. كان البلاشفة أصدقاء علنيين للأتراك القوميين، ووقّعت معاهدة تحالف بينهما، واستفاد الأتراك من المساعدة الروسية التي أتت على شكل ذهبٍ وعتاد. بدرجةٍ أقل، ومن خلال معاهدة أكثر سرية، استفاد الأتراك من التعاطف الفرنسي. في لوزان، رأوا أن الزمن عفا على تلك الصداقات الغامضة مع البلاشفة والفرنسيين. فضلّوا الظهور بشكلٍ لا لبس فيه كشعبٍ مستقل سيد نفسه يمتلك قوة عظمى أعيد إحياؤها أخيراً بفضل نصرٍ مظفّر. من خلال قول «لا» غالباً و«نعم» نادراً، فرض عصمت باشا إرادته. تطلبت الدبلوماسية شيئاً من الصبر، والصبر ولد في آسيا.
لذلك تم في نهاية المطاف التنازل عن الامتيازات وتأجيل مسألة سداد الفائدة على الديون التركية قبل الحرب إلى وقت ملائم، ومن ثم وُقِعت المعاهدة. وتم التسليم بأن السياسات القديمة بمنح وضع دولي للمضائق، وأوروبا من دون أتراك، غير واقعية. وبالنظر إلى أن الأتراك في لوزان أمسكوا عملياً بجميع الأوراق، فإن نص المعاهدة على ترك المضائق مفتوحة للتجارة واحتوائها على ما يكفي من البنود التي تجعلها متناسبة مع أسس العلاقات الدولية اعتُبر انتصاراً لهم في حينه. على الورق، يبدو اقتراح مناطق منزوعة السلاح في المضائق وحدود تراقيا الذي طرحه الحلفاء جيد جداً. ومع ذلك، تم التغاضي عن مسألة صغيرة تمثّلت في بقائها منزوعة السلاح.
وطبقاً للتسلسل الزمني، سحب الحلفاء آخر قواتهم من القسطنطينية، ومن ثم دخلت قوة تركية صغيرة، متهالكة للغاية ومحبطة إلى حد كبير، المدينة. بدا من الصعب على سكان القسطنطينية أن يروا فيها «الجيش المنتصر دوماً» الذي حقق الانتصار المذهل على اليونانيين وأثار إعجاب أوروبا بشكل كبير قبل عام. ولكن المظاهر خادعة، إذ حققت القوة العسكرية التركية هدفها، وسُجّل الفتح الثاني للقسطنطينية في التاريخ.
ثم انطلقت تركيا الجديدة في مسارها، وأطلقت على نفسها اسم «الدولة التركية»، وأعلنت أن من تحكمها هي «الجمعية الوطنية الكبرى» فقط. وأطلق على رئيس الجمعية، مصطفى كمال باشا، لقب «غازي» (المنتصر). وفي الآونة الأخيرة، جال البلاد ونظّم مجموعة سياسية أطلق عليها اسم «حزب الشعب». كما وجد وقتاً للزواج من سيدة شابة ثرية يغمرها الطموح والأفكار المعاصرة. صدمت لطيفة هانم إلى حد ما الأتراك المحافظين. لم يكونوا معتادين على رؤية امرأة بملابس أوروبية ترافق زوجها في رحلاته حول البلاد. لكن حراك التحرر النسوي بين أفراد الطبقة العليا في تركيا حقيقة واقعة. وحتى لو اقتصرت على عدد قليل من الناس، إلا أنها تنمو.
الجمعية الوطنية ومصطفى كمال
مهّد مصطفى كمال، رفقة زوجته وحزبه وبيده معاهدة لوزان، الطريق نحو تحوّلٍ آخر في المشهد. في نهاية تشرين الأول (أكتوبر) 1923، حانت الفرصة. نشبت أزمة سياسية صغيرة: انهيار الحكومة بسبب خلافات شخصية، ووقوع الجمعية في مأزقٍ بشأن الموعد النهائي لتشكيل حكومة جديدة. تقدم مصطفى كمال إلى الأمام وذكر الشروط التي بموجبها سيشكّل مجلس الوزراء. وفي غضون ساعتين، وجد نفسه الرئيس المنتخب، بحسب الأصول، للجمهورية التركية حديثة العهد. نجح في فرض إرادته على الجمعية ووضع حداً لتردد لجنة كانت تحاول منذ شهر صياغة الدستور، لأن الشروط التي فرضها على الجمعية هي في الواقع البنود الأساسية لهذا الدستور: إنشاء الجمهورية، وانتخاب الرئيس من قبل الجمعية، وحق الرئيس في رئاسة الجمعية ومجلس الوزراء، عند الحاجة، واختيار رئيس الوزراء. لكن ضربة سيف مصطفى كمال لم تكن جلية تماماً. إذ بقي الأتراك متوهمين بأن المجلس، وليس الرئيس، يحكم البلاد. لكن مع ذلك جميع أعضاء المجلس كانوا من حزب الشعب. بين الحين والآخر، اجتمع أعضاء الحزب مع قادته في لقاءاتٍ مغلقة. وبين الفينة والأخرى، مارس الحزب صلاحيات الجمعية الوطنية الكبرى علناً.
اختار مصطفى كمال لمنصب رئاسة الوزراء رجلاً موالياً يدعى عصمت (إينونو)، أظهرت مسيرته العسكرية أنه رئيس أركان من الطراز الرفيع وناقل للأوامر لا مثيل له، وأبدى الرئيس سعادته بهذا النهج، ومنحه راتباً أعلى قليلاً من راتب رئيس الولايات المتحدة، بينما اكتفى نواب الجمعية براتب يعادل ألفي دولار في السنة.
الغنائم للمنتصر
بات المشهد جاهزاً لوضع حدٍ دراميٍ للخداع الذي لم يعد الحفاظ عليه ضرورياً. تم إظهار خليفة المسلمين، الرابط الروحي مع المسلمين حول العالم والقوة الجبارة التي أثارت إعجاب البريطانيين والفرنسيين، على أنه شخصية هشة طرده شعبه دون تردد. وجد مصطفى كمال في الجمعية أداة تزييف مفيدة بعدما انتفت الحاجة إلى شخصية صورية في قصر «دولما باهتشي». كخطوة احترازية، تأسست محكمة ثورية سمّيت «محكمة الاستقلال» في القسطنطينية، حيث نشر بعض الصحافيين رسالة مفتوحة من رموز هندية مسلمة حثّوا فيها الخليفة المعيّن من قبل حكومة أنقرة على عدم الاستقالة من منصبه. حتى محكمة الاستقلال نفسها لم تجد في الأمر جرماً شنيعاً، لكنها اصطادت محامياً بارزاً وأحد الوجهاء وحكمت عليهما بالسجن لعدة سنوات.
ثم غادر مصطفى كمال لقضاء عطلة في سميرنا (إزمير)، ودعا صحافيي القسطنطينية لزيارته في مكان إقامته. كما رتّب «لعبة حرب استراتيجية» وضعت قادة الجيش على مقربة من سميرنا. ثم عاد إلى أنغورا وألقى خطاباً شهيراً أمام الجمعية (1 آذار/مارس 1924) قال فيه إن «الدين الإسلامي يجب أن يتحرر من دوره كأداة سياسية لعبها منذ قرون». في ليلة 4-5 آذار (مارس)، أخرجت الشرطة الخليفة السابق مع أسرته من قصره وقادتهم على بعد ثلاثين ميلاً (48 كيلومتراً)، خارج القسطنطينية، ليوضعوا في قطارٍ نحو الخارج. لا شك أن رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج والرئيس الفرنسي ريمون بوانكاريه تساءلا حينها كيف لم تخطر هذه الخطوة البسيطة على بالهم؟
لكن لم يكن ذلك نهاية المطاف. سرعان ما تبع إلغاء الخلافة ونفي العائلة العثمانية بأكملها تحييدٌ للمحاكم والمدارس الدينية وفرض سيطرة الحكومة على الأوقاف السلطانية الكبيرة، إذ أن «الغنائم للمنتصر» كما يقال. ومن ثم، فُرض النظام العلماني كسياسة للحكومة. وعليه، لم يعد هناك سوى قوة واحدة في تركيا: الجمعية الوطنية الكبرى. ولم يعد الجندي الداهية الذي يقطن المقر الرئاسي المتواضع في أنغورا منزعجاً من الأقنعة الأخرى.
علاوة على ذلك، توجبت صياغة دستور جديد واعتماده. فاللجمهوريات الحديثة دساتير. وتكمن كينونة كمال وحاشيته في كونهم حداثيين. خصص يومٌ واحد في الأسبوع لبحث تلك الوثيقة المهمة، حيث تمت مناقشة واعتماد حوالى خمسين من بنوده بهذه الطريقة خلال آذار (مارس) والنصف الأول من نيسان (أبريل) عام 1924. لكن العرض لم يمض كما يجب وواجه عقبات عديدة. مالت الجمعية أحياناً إلى نسيان دورها الحقيقي في المسرحية. وفي واقع الأمر، رفضت الموافقة على تضمين بندٍ في الدستور يمنح الرئاسة حل الجمعية أو قيادتها للجيش والبحرية وقت الحرب، أو في أن تكون ولاية الرئيس أطول من ولاية الجمعية. وحتى مع تخصيص يومٍ كامل في الأسبوع، لم ينجز الدستور بالشكل المطلوب. وبناءً عليه، في العشرين من نيسان (أبريل)، تم إقناع الجمعية بأن تتداول لبضع ساعات البنود الخمسين المتبقية، بما في ذلك جميع المواد المتعلقة بالسلطات القضائية وحقوق المواطنين الفردية، واعتمادها. ثم شرع في وضع الدستور بأكمله للتصويت النهائي برفع الأيدي. تم تأمين أغلبية الثلثين المطلوبة، واعتُبرت المسألة محسومةً بالتزكية.
في الموصل..كردستان شأن تركي
توقفت الجمعية عن الاجتماعات لمدة نصف عام بعد إنجازين من هذا القبيل. وفي مطلع الصيف، عقد مؤتمر أنغلو-تركي لتسوية مسألة الموصل. طالب الأتراك عملياً بكامل الولاية، واستندوا في مطالبهم إلى حد كبير على السكان الكرد في المنطقة المذكورة. وأشاروا إلى أن هناك آلاف الكرد داخل حدود تركيا، وأن الترك والكرد كلٌ واحد. وبالتالي، يجب منح كامل كردستان إلى تركيا. لكن لم يكتب النجاح لتلك الجهود. فبعد تسعة شهور، انتفض الكرد في تركيا (ثورة الشيخ سعيد بيران في شباط 1925). وسواء كان ذلك أمراً إيجابيأً أو سلبياً، ما لبثت أعمال المؤتمر أن توقّفت.
سارت الأمور على ما يرام حتى خريف عام 1924، مع اجتماع الجمعية مرة أخرى في أنغورا، حينما واجه العمل السلس لأجهزة مصطفى كمال بعض التشويش. أدت المشاكل مع البريطانيين على حدود الموصل، بسبب الغارة التركية على الأراضي المتنازع عليها، إلى تأجيل التفكك في الوحدة السياسية التركية لبضعة أسابيع. لكن في تشرين الثاني (نوفمبر)، تشكّل حزب معارض أخيراً بإسم «الجمهوري التقدمي» (ندم حزب الشعب لأنه لم يفكر في ذلك من قبل، فأضاف كلمة «الجمهوري» على اسمه). وبطبيعة الحال، تلا ذلك غليانٌ سياسي في أنغورا. كان النظام القديم عبارة عن حزبٍ واحد، ومجلسٍ واحد، وحكومةٍ واحدة. لا يمكن أن يكون الأمر أُسري أكثر من ذلك. والأسوأ مما سبق هو انحياز اثنين من أفضل ضباط المؤسسة العسكرية إلى التقدّميين.
التقدمي المحافظ!
كان الحزب الجديد أقلية بارزة. لكن لم يمض وقت طويل حتى قلّمت الحكومة أظافره، لتصل حكومة أقل تشدداً، بقيادة فتحي بك (فتحي أوكيار) السلطة.
برر التقدميون وجودهم فيها برغبتهم جعل الحكومة الراديكالية أكثر محافظة. ففي أرض الزيف، لا غرو أن تعني كلمة «التقدمي» العكس تماماً، أي المحافظ. كان التقدميون، ولا يزالون، المجموعة المناهضة للتغييرات بالقوة والتغريب المفرط والتدمير السريع للتقاليد المرتبطة بالإسلام. تدعو منابرهم إلى التجارة الحرة (مع بعض الاستثناءات)، والاستفتاء الوطني كوسيلة وحيدة لتعديل الدستور، والانتخاب المباشر للنواب، وانتخاب رؤساء بلديات المدن بدلاً من تعيينهم. بدت هذه الطروحات مفيدة بما يكفي، لكن لا تأثير يذكر للمنابر في تركيا، فهي ليست سوى ديكوراً. ترتبط القضايا الحقيقية دوماً بالأفراد.
وسرعان ما ظهرت شخصية لافتة للنظر: الجنرال نور الدين باشا، صهر أشهر درويش (صوفي) في تركيا. شخصية رجعية ومسلم متدين وعدو شخصي معلن لمصطفى كمال. كان انتخابه لعضوية الجمعية عن بروسا (بورصة) في شهر كانون الأول (ديسمبر) 1924 بمثابة ضربة قاسية للحكومة، لأنه حتى ذلك الوقت، كان جمهور الناخبين سهل الانقياد بشكل ملحوظ نحو رغبات الحكومة. ولم يكن التقدّميون أقل استياءً من الكماليين لانتخابه. كان رجعياً من النوع غير القابل للاحتواء. وسرعان ما رفضت الحكومة السماح له بشغل مقعده في الجمعية على أساس أنه لم يستوف أحد شروط الترشح في الانتخابات العامة المنصوص عليها في الدستور. في الحقيقة، وصل نور الدين باشا الجمعية عبر انتخابات فرعية أجريت في بروسا، لكن أنقرة فسرّت الأمر بشكلٍ مختلف. بعد شهرين، انتخبت بروسا نور الدين باشا للمرة الثانية، وسمحت له الحكومة، المنهمكة بالثورة الكردية، بشغل مقعده خوفاً من خطر إثارة النعرة الدينية.
الثورة الكردية.. و سقوط فتحي أوكيار
أثارت الثورة الكردية قلق أنقرة العميق. كانت المنطقة المتمردة صغيرة وعدد المسلحين قليل نسبياً، لكن المبدأ الذي أثير بفعل الثورة هو القرآن نفسه. قد لا يكون التدين متجذراً في تركيا، إلا أن هناك حساً إسلامياً قوياً. تمثل الخطر في التفاف العناصر المتذمرة من الوضع القائم في البلاد حول مؤيدي التقاليد القديمة. كان لذلك أن يتحقق لو أن رجلاً أقل شأناً من مصطفى كمال تواجد على رأس السلطة. كانت إجراءاته المضادة شاملة ومدروسة. فُرضت الأحكام العرفية في اثني عشر ولاية، وصدر قرار بتعبئة جزئية لزيادة قوة الجيش بمقدار النصف. وضِعت خطط عسكرية مفصّلة قيد التنفيذ تم بموجبها اللجوء إلى قوات ضخمة للضغط من خلال تكتيكات تطويق – على الرغم من تأخر الاحتكاك بالمتمرّدين ستة أسابيع.
كانت الإجراءات السياسية أوسع نطاقاً. أعيد تشكيل محاكم الاستقلال التعسفية، واستُبدلت حكومة فتحي بك المعتدلة نسبياً، التي أطلقت على نفسها «حكومة الهدوء والاستقرار»، بأخرى برئاسة عصمت، المفيد دوماً وأبداً، فيما أُخضعت المعارضة بشكلٍ كامل. وسارع المؤيدون المترددون (وهم كثر في الجمعية) إلى تأكيد ولائهم لحزب الشعب، بفعل ثلاثة قوانين سنّتها الحكومة على عجل. صنّفت هذه القوانين أي خطاب ديني ذو ميول سياسية على أنه خيانة، ومنحت الحكومة السلطة التعسفية في إسكات أي صحيفة، كما سمحت للضباط الذين يقودون فيالق الجيش تنفيذ أحكام الإعدام بحق أي شخص، عسكرياً كان أم مدنياً، أدين من قِبل محاكم عسكرية في أي منطقة قد تخضع للأحكام العرفية. سميت هذه الإجراءات غير العادية «قوانين التهدئة». يتذكر المرء تلك العبارة الإنكليزية القديمة عن «إسكات الأشخاص المقيتين بحد السيف».
هذه هي النقاط الرئيسية لقصة «تركيا الجديدة» القصيرة. لكن تحجبها غشاوة اللاواقعية إلى درجة أنه يتوجب على المرء الغوص في أعماقها من أجل تقييم قيمة الدولة التركية ككيانٍ سياسي.
بادىء ذي بدء، لنأخذ بعين الاعتبار أي نوعٍ من الشخصية نتعامل معه. لدى الأتراك بعض السمات التي يمكن تثمينها. وليس من قبيل المصادفة أو الفضول أنهم كسبوا إخلاص العديد من أبرز الشخصيات الغربية. تمنحهم بساطتهم وصدقهم ولطفهم وحس الولاء لديهم جاذبية كبيرة جداً. بشكل عام، لم تُبدع هذه الشخصية شيئاً على مدى القرون السبعة من تاريخها. عملت العرقيات الخاضعة لها بإسمها، وحققت إنجازاتٍ رائعة – مساجد اسطنبول، على سبيل المثال. أخذت هذه الشخصية الكثير من الفارسي والعربي والبيزنطي والأرمني والسوري والأوروبي، لكن لا يدين الفن أو العلم أو الفلسفة لها بأي شيءٍ ملموس.
النمط الأكثر تطرفاً من الدولة القومية
صنعتان انشغل بهما التركي منذ قدومه إلى أوروبا قبل ما يقرب من ستمائة عام: الإدارة والحرب. ومع ذلك، فإن كل الأراضي التي أدارها، من الخليج إلى نهر الدانوب الأوسط، شهدت إما ركوداً أو خراباً تحت سلطته. حارب دائماً بشجاعة لا تهتز، وأحياناً بدافع التعصّب. لكن تكونت قواته عادةً من الأعراق التي خضعت له. ولم يخرج من كل حروبه ضابطٌ واحد أو أميرالٌ عالي الرتبة، أو يتمخض عنها تكتيكٌ أو اختراعٌ عسكري ذو قيمة.
هذا العجز الاستثنائي في المقدرة على الإبداع، حتى في المجالات التي ينتقيها، يحمل تأثيراً مباشراً على مشكلته الحالية، على اعتبار أن المهمة التي حددها لنفسه هي تكوين أمة. وبقدر ما يتعلق الأمر بهدفه الحالي، فإن تركيا التي كانت موجودة قبل الحرب لا يمكن البناء عليها لتحقيق هذا الهدف. لم تكن الإمبراطورية العثمانية القديمة أمة بالمعنى الغربي الحديث للكلمة، وهو أيضاً يمثّل المعنى التركي الحديث. كانت بالأحرى آلة إدارية لتحصيل الضرائب. ذهبت تلك الضرائب إلى الأوليغارشية الصغيرة (باستثناء حينما تدخل المستفيدون الدوليون بعد إفلاس الدولة). وبما أن المؤسسة الدينية والدولة كانتا كُلاً واحداً، فإن جماهير الشعب، الذين نُظر إليهم على أنهم مصدرٌ لتحصيل الأموال ليس إلا، دعموا كليهما من دون أي تململ.
لا يشبه كل ما سبق تلك الأمة المتغربنة جداً التي يحاول الأتراك بناءها اليوم. قد تكون جمعيتهم (البرلمان) ستاراً زائفاً للتغطية على سلطة استبدادية، وقد تكون انتخاباتهم هياكل فارغة. لكن جوهر ما يسعون إليه صراحةً هو أمةٌ بمفهومنا، والروح الكامنة وراءها هي القومية، حتى لو كانت من أكثر الأنماط تقوقعاً وشوفينيةً. يجب أن تستند النتيجة بالضرورة على قدرة تركيا على الإبداع، أو على الأقل التقليد.
ما يقترحون فعله، إذا قبلنا بصيغة فيلسوفهم السياسي البارز، يتلخص في دمج الثقافة التركية والدين الإسلامي والحضارة الغربية. والثقافة التركية، بقدر ما يمكن تعريفها، نتاج أفكار وتقاليد معينة لأعراق شرقية أخرى أثّرت على بساطة وذكورية قبيلة المحاربين الترك. لم يستوعب الأتراك العثمانيون أبداً الأعراق المختلفة التي حكموها في بنيتهم السياسية، لكنهم تشربوا كمية هائلة من الدماء الأجنبية من خلال رق النساء وأسر الصبية المسيحيين من أجل فيالق الإنكشارية. كما استوعبوا أيضاً جزءاً معتبراً من حضارة وثقافة الشعوب الشرقية، خاصةً البيزنطيين، الذين كانوا على اتصال بهم. فقبل أن يقعوا تحت التأثير الغربي، على سبيل المثال، شكّلوا إمبراطوريتهم على نسق حكومة بيزنطية بطريقةٍ حاذقة بحيث لم يكن من اليسير تمييز إحداها عن الأخرى. ويستند القوميون الأتراك المعاصرون في ادعائهم بقابلية استيعاب الحضارة الغربية على نجاحاتهم السابقة في دمج الثقافات الأجنبية.
لكن لأحدنا أن يتساءل ما إذا كانوا يأخذون في الاعتبار الاختلاف الأساسي بين الحضارتين الغربية والشرقية. إن حياتنا الغربية مبنية على تجارب لم تختبرها أوروبا الشرقية وبلاد الشام بالمطلق: إحياء التعلم، عصر النهضة، الإصلاح، اكتشاف وغزو العالم الجديد، الحركة الليبرالية الديمقراطية، الثورة الصناعية وتطور العلم الحديث. أصبحنا كغربيين واقعيين نعلي شأن الفرد بشكلٍ لم يعهده الشرق أبداً. وبمعزل عن أي معوقات قد تظهر جراء تمسك تركيا بالدين الإسلامي، سيبدو اندماج الثقافة التركية والحضارة الغربية، في الواقع، مهمة صعبة.
صراع أنقرة والقسطنطينية
وحتى الآن، أضاف الأتراك إلى رصيدهم القليل من العمل البنّاء الذي من شأنه أن يشير إلى نجاحٍ مستقبلي في هذا المسار. ومن الواضح أن الدستور ليس أساساً متوازناً، إذ أن الطريقة المرتجلة التي تم تبنيه من خلالها مؤشر حقيقي على الطريقة التي ينظر بها الأتراك إليه. يمكن، من الناحية العملية، تعديله بمجرد تصويت من قبل الجمعية، أو تأويله بحسب الحكومة الموجودة في السلطة. وقبل أن يتم عامه الأول، أصدرت الجمعية، بناءً على طلب الحكومة، «قوانين التهدئة» التي قيّدت الحرية الشخصية إلى حد العدم.
والأسوأ، لجهة بناء الأمة، فشل تركيا في توحيد العناصر المتباينة داخل الدولة. والمشكلة الكردية مثال على ذلك، والتمرّد الكردي مقياس لفشلهم. لكن أخطر ما في الأمر السخط المتزايد في القسطنطينية ومنطقة مرمرة. من حيث الأساس، يندرج هذا النفور في إطار الخلاف التقليدي ما بين الأراضي السهلية والمرتفعات، وتباين المصالح ما بين منطقة ساحلية بتجارتها البحرية وهضبة عالية وقاحلة إلى حد كبير. عندما أبحر مصطفى كمال في مضيق البوسفور على متن سفينة حربية في الصيف الماضي، التفت سكان القسطنطينية إلى نشاطاتهم غير عابئين بزيارة رئيسهم. من الصعب تحمّل استياء الرئيس بلا شك، لكن خسائر التجارة تبقى أسوأ. يُلقى باللوم على الإداريين في الأناضول والتشريعات الصادرة من أنقرة فيما يخص الركود الحالي الخطير في الأعمال التجارية في القسطنطينية. تشكو القسطنطينية من عدم الكفاءة، إن لم يكن الحقد الصريح لحكم أنقرة . وبدورها، ترد أنقرة باتهامها القسطنطينية بعدم الولاء والتآمر.
وكذلك، خلال سعيهم لبناء دولة، لم يظهر الأتراك القدرة على حل مشاكلهم الاقتصادية. بلدهم زراعي بشكل أساسي، لكنهم اضطروا في أوقات عديدة إلى استيراد القمح. قد يكون مرد ذلك إلى المواسم الرديئة أو سوء البذار، لكن الحكومة حمّلت شبكة النقل، المليئة بالعيوب، المسؤولية، ثم شرعت (ربيع عام 1925) في فرض ضريبة نقل جديدة بنسبة 10 في المئة، بحسب القيمة، على جميع المنتجات الزراعية التي تُنقل على بعد أربعين ميلاً (64 كيلومتراً) من منشأها.
لا جدال في أن بناء الطرق والسكك الحديدية ضرورة ملحّة. لكن العديد من المشاريع الكبرى، بما في ذلك «مشروع تشيستر»، لم تؤد إلا إلى إنشاء جزء يسير من شبكة سكك الحديد الحكومية من أنقرة باتجاه سيواس. تنخفض قيمة الليرة التركي شيئاً فشيئاً، وترتفع تكلفة المعيشة، وتزداد الضرائب على الأراضي، ويتم فرض ضرائب جديدة على «الاستهلاك» لرفع سقف الرسوم الجمركية، بينما لم تنجح الميزانيات السنوية في تحقيق التوازن، ولا تزال الفائدة على الديون العامة غير مسددة. لا يثق رأس المال الأجنبي بالاستثمار في البلاد عندما يستذكر إفلاس الحكومة التركية في عام 1875 وتنصلها الجزئي عام 1903، أو حينما يراقب موقف الحكومة تجاه مديونيتها الحالية.
يجدر القول إن الأتراك يحاولون تقديم بعض المساعدة لمزارعيهم من خلال إنشاء مصارف زراعية، كما أنهم لم يلجأوا حتى الآن إلى طباعة الأوراق النقدية وقضوا على نظام ضريبة العُشر الذي دأبت الدولة بموجبه على استقطاع 12 في المئة من المنتجات الزراعية. كما أن الحظ يحالفهم بتوفر بعض المحاصيل التي تدر المال، مثل التبغ والزبيب والتين، والتي تدعم اقتصاد سميرنا وسامسون وتجلب دخلاً لا غنى عنه. لكن عجزهم في السنة المالية الماضية كان كبيراً، وإن كان حجمه غير معروفٍ، على اعتبار أنهم لم ينشروا نفقاتهم الفعلية منذ عام 1921. لكننا نعلم أن عجزاً كبيراً يتراكم عاماً بعد عام، وأن النفقات العسكرية لقمع الثورة الكردية ستؤدي إلى تفاقمه. لا يتخيّل المموّلون الأجانب الذين يعرفون تركيا جيداً كيف يمكن للبلاد أن تستمر في تمويل نفسها، ناهيك عن الوفاء بديونها.
طيف الدولة الحديثة
تبعاً لفقه القانون، لا توجد دلائل واضحة على جهدٍ بناء يبذل في هذا الصدد. إذ ألغيت المحاكم القنصلية وتلك الشرعية كذلك، بينما لم تتغير طريقة عمل المحاكم المدنية التركية التي كان من المفترض أن تتوسع وتغطي مجمل الصلاحيات. ما هو مطلوب، سلطة قضائية تدفع أجوراً عالية ونهج منطقي للإجراءات القضائية. إلا أن ذلك لا يلوح في الأفق.
يحوم طيف الدولة الحديثة فعلياً، ولكنه أشبه بقشرة سطحية لا تكفي لإنجاز الأمور. هناك مناقشات ومفاوضات غير منتهية لا تسفر عن نتيجة. تشهد الجمعية جلسات مساءلة، لكن لا قيمة للأسئلة المطروحة. يسعى عدد قليل من المتمسكين بمعتقداتهم إلى حشو الأفكار الغربية، بما في ذلك العلمانية، في أدمغة شعب معادٍ للغرب بشكلٍ جوهري ورجعيٍ بشدة. الحقيقة هي أنه من بين سكان تركيا البالغ عددهم ثمانية ملايين نسمة، عدد الرجال الأذكياء والتقدميين والأكفاء قليل جداً. يسعى هؤلاء إلى دفع البلاد نحو النهوض من خلال قدراتها الذاتية، لكن عدم الكفاءة والقصور الذاتي وكره الأجانب الشوفيني يقابلهم عند كل منعطف.
على ماذا تنطوي إذاً هذه المسرحية الخيالية المكونة من مشاهد غير واقعية؟ هل كل الأشكال التي يراها المرء على المسرح مجرد أشباح؟ كلا، إذ أن في تركيا اليوم ما كان موجوداً أغلب الأحيان في الماضي: رجل قوي يعرف بالضبط ما يريد، ويحصل عليه. يحمل لقب «غازي» ورئيس، ويحكم من وراء ستار مجلس، بما لا يجعله مختلفاً من حيث المبدأ عن عبد الحميد الثاني الذي كان يُدعى «سلطان» و«خليفة» وحكَمَ بتفردٍ مطلق. يستخدم مصطفى كمال التغريب والعلمانية كأدواتٍ، تماماً كما كان التعتيم والدسائس وسيلة عبد الحميد.
المؤكد أن تركيا ستتدهور في ظل النظام الحالي لعدم توفر إمكانيات إدارية كافية غير مقيدة في البلاد للمحافظة عليها. لكن ذلك لا يعني أنها ستتفكك تحت وطأة عدم الكفاءة أو تقع فريسة لقوة أجنبية ما. راكم الأتراك قدرة مقاومة هائلة لسوء الحكم. احتياجاتهم بسيطة للغاية. يمكنهم التعايش بطريقة أو بأخرى مع أي ظروف تقريباً. يريدون فقط أن يتركوا وشأنهم. قد تكون البلاد تتجه نحو الانهيار، في نظر الغرب. لكن هل يشعر الأتراك ذلك؟
علاوةً على ذلك، فإن تركيا اليوم هي تماماً كما كانت منذ مئة عام وأكثر: القوة الأرجح كفة في ميزان القوى الأوروبي. على الساحة الدولية، تستفيد من تنافس القوى المتشككة ببعضها البعض، إذ تجدها بريطانيا مفيدة للغاية في منع وصول الروس إلى البحر الأبيض المتوسط والطريق إلى الهند. وتبدو روسيا راضيةً لرؤية تركيا مسيطرة على المضائق إلى أن يحين الوقت الذي قد يتحقق فيه الحلم الروسي القديم. تُعتبر طرفاً في التنافس الفرنسي-الإيطالي على الهيمنة على البحر الأبيض المتوسط. لا ترغب أي قوة أوروبية أن يحل منافسٌ ما محلها. فالمضائق الكبرى والممر البري الذي يوصل القارتين، في القسطنطينية، حيوية للغاية.
هذه إذاً هي حقائق تركيا «الجديدة»: السعي الفردي منذ القِدم للاستفراد بالسلطة، والقصور الجماعي وعدم الكفاءة الأزليين، والتوازن القديم بين القوى المتنافسة في أوروبا. أما العلمانية والنزعة الغربية والديمقراطية، فليست سوى موضة عابرة للحاكم الحالي، تماماً كما كان توجه توحيد المسلمين لعبد الحميد أو القومية الطورانية لأنور باشا. تتعمق النزعة القومية إثر الهزات الشديدة التي تعرض إليها الأتراك في السنوات العشر الماضية. لكن القومية لا تثمر عن شيء إن لم تبن أمة. إن جهود الأتراك لبناء أمة تذهب بعيداً في تبنيها القيم الغربية أمر لا يتوافق مع تقاليدهم وأصولهم. تتحول مبادئنا الغربية لدى تبنيهم لها إلى مجرد ستار لتغطية أمور متأصلة لديهم.[1]