الضغط السياسي والاقتصادي ما زال مستمرا من قبل الأحزاب الشيعية الحاكمة في بغداد على إقليم كردستان الذي يديره ويتولى السلطة فيه الحزب الديمقراطي بزعامة مسعود بارزاني. ولم تمارس هذه الضغوط العدوانية التي أرهقت الشعب الكردي وأنهكته على نطاق واسع إلا بعد أن فاز رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي بولاية ثانية عام 2010 بدعم مباشر من إيران مقابل الخضوع لأجندتها السياسية في المنطقة. واشتدت الضغوط أكثر عندما اتفق بارزاني مع مقتدى الصدر وجلال طالباني على سحب الثقة من المالكي عام 2012، ولكن المحاولة فشلت بسبب انسحاب الصدر وطالباني من الاتفاق بشكل مفاجئ وبقي بارزاني لوحده أمام سطوة المالكي الذي مارس صلاحياته التنفيذية الواسعة للنيل منه ومن سكان الإقليم، ولم يترك طريقا إلا وسلكه لإلحاق أكبر قدر من الأذى بالكرد وحقوقهم الدستورية وخاض صراعا لا هوادة فيه مع بارزاني، وما زال هذا الصراع محتدما إلى غاية اليوم.
كان من الممكن لمسعود بارزاني أن يجنب الإقليم والشعب الكردي الكثير من العقوبات الجائرة لو حذا حذو المالكي واستسلم للأجندة الخارجية ودخل في محاور إقليمية توسعية، لكنه رفض المساومة على خصوصية الإقليم واستقلالية قراره السياسي ورفض “نقل تجربة الأمن المنهارة في باقي أجزاء العراق ومحافظاته إلى منطقة كردستان الآمنة”، على حد قول محمد صالح القلاب، وفضل الجوع على الخضوع، وحض الشعب على الصبر والصمود وقال “مثلما صبرت أربيل على هولاكو القديم، فإنها ستتحلى بالصبر وتصمد في وجه الهولاكو الجُدد”، داعيا الكرد إلى “التحلي بالصبر إزاء هذه التهديدات والهجمات”.
ولكن، كما أن للصبر حدودا عند السيدة أم كلثوم في رائعتها الخالدة، فإن للصبر الكردي أيضا حدودا على الاعتداءات المستمرة من قبل الأحزاب والميليشيات الحاكمة في بغداد، فاختار الكرد آخر الحلول وهو الانفصال عن العراق وتشكيل دولتهم المستقلة. وفي صبيحة يوم الخامس والعشرين سبتمبر من عام 2017 توجه الشعب عن بكرة أبيه نحو صناديق الاقتراع ليصوت على أعظم قرار تاريخي تم اتخاذه وهو التصويت على الاستقلال في عملية استفتاء لم تشهد المنطقة مثيلا لنزاهتها وديمقراطيتها..
ولكن، كان لدى قوى الشر المتمثلة في المجتمع الدولي الزائف والولايات المتحدة حساب آخر ومعادلة إستراتيجية مغايرة تماما للمشروع الكردي، حيث رفضت نتائج الاستفتاء بحجة أنها تفتقد إلى الشرعية، كما جاء على لسان وزير الخارجية الأميركي حينها ريكس تيلرسون. ولا ندري ماذا تعني الشرعية في قاموس الأميركيين، هل هي الشرعية التي فرضتها القوى العظمى على الشعوب، أم شرعية النظام الطائفي في العراق؟
وأي شرعية أعظم وأصدق من شرعية الشعوب؟ يبدو أن مفهوم الشرعية مثل مجمل المفاهيم المعاصرة الأخرى قد انحرف عن معناه الحقيقي وخضع للمصالح الإستراتيجية.
هذا التخاذل الأممي – الأميركي تجاه الكرد أعطى ضوءا أخضر للنظام العراقي للزحف نحو المناطق المتنازع عليها واحتلالها، ومن ثم فرض عقوبات هائلة على سكان إقليم كردستان لم يسبق لها مثيل، منها تشديد سياسة التجويع وقطع العلاقات السياسية والاجتماعية، والمناداة بطرد الكرد من بغداد والمدن العراقية الأخرى، وفرض الحظر الجوي الشامل على مطارات أربيل والسليمانية، وتحريك القوات العراقية نحو عاصمة الإقليم، والدخول في اشتباك ضار مع قوات البيشمركة، والقيام بإجراء مناورات عسكرية تركية – عراقية بالتزامن مع تنسيق عسكري عراقي – إيراني بهدف ترهيب السلطات الكردية وإخضاعها لهيمنة بغداد، واستئصال فكرة الاستقلال نهائيا من رؤوس قادتها، ولكن هذا مستحيل لأن الله هو الذي أودع في قلب كل كردي أن يعيش حرا أو يموت. وإذا كان مسعود بارزاني زعيما لحزب قبل الاستفتاء فإنه تحول بعد إعلانه عام 2017 إلى زعيم أمة.
محمد واني
كاتب كردي عراقي
المصدر: العرب اللندنية
[1]