تاريخياً عُرفت منطقة #عفرين#/كرد داغ، بأنها واحدة من أولى المستوطنات البشرية، بل إن الباحث النمساويّ توماس شميدنغر، مستنداً إلى وصف الآثاريّ الأمريكي جيمس هنري برستد، وصفها بأنها شهدت “أول مستوطنات بشرية دائمة ومدن”؛ ذلك أن هناك “استأنس الناس الماعز والأغنام، ثم الأبقار والخنازير، وبدؤوا في زراعة الشعير والقمح ذي الحبة الواحدة والقمح ثنائي الحبة”، وعلى بُعد 25 كم من أنطاكيا، مقرّ الحاكم العام الروماني لمقاطعة سوريا الرومانية، شهدت كرد داغ، زراعة أشجار الزيتون، ولعلّ التحقيب والبحث عن تاريخ تلك المنطقة؛ يُفيدنا ببيئتها الزراعية المتوارثة، الأمر الذي طبع في خيال شعوبها تبجيل زراعة الأشجار، لا سيما أشجار الزيتون التي بلغ عددها 26 مليون شجرة؛ بحسب المصادر التي اشتغل عليها شميدنغر، وهو ما يفسّر أيضاً زراعة كُرد عفرين؛ أشجاراً مثمرة بالقرب من قبور موتاهم بُعيد دفنهم، الأمر الذي يشي بطبيعة علاقة الناس مع الأشجار، ويُضفي هالة قداسة على طبيعة هذا الفعل/العُرف.
بيد أن أولى مستوطنات البشر أمست مستوطنة رُعاع ودَهماء، حيث غدا مسلّحو المعارضة، وباسمهم العاري “الجيش الوطني السوري”، آلة تحطيب مُريعة؛ فالصور والفيديوهات الأخيرة أظهرت عناصر هذا الجيش وهم يقطعون ويقتلعون الأحراش والأشجار الحراجية في محيط بحيرة ميدانكي، يكشف عن بعض المسائل المتصلة؛ من ذلك: التعامل مع عفرين، رغم الاستيطان فيها، على أنها أرض نهبٍ عام، ونهبٍ رخيص يعتمد على التحطيب وبيع أخشاب الأشجار وتفكيك المنشآت وبيع الأسلاك وسرقة وابتزاز السكان الأصليين؛ وفرض الإتاوات وسرقة المحاصيل الزراعية، أو بتكثيفٍ أشد، هو عدم قدرة عصابات المستوطنين على تصوّر عفرين خارج النظر إليها بوصفها غنيمة حرب مستمرّة لا تنتهي، رغم انتهاء الحرب عليها فعلياً في آذار/مارس 2018.
إضافة إلى ذلك مشاعر تتحكم بعناصر المليشيات بالشكل الذي يسرّع عمليات السرقة والنهب، وهو الشعور بأن البقاء في عفرين مؤقّت ورهن سياسات تركيا ومساوماتها، رغم مساعي أنقرة الجدية إلى إحداث تغيير ديموغرافي مُستدام، والتضييق على من تبقّى من السكان الأصليين، وبذلك يمكن فهم عمليات قطع الأشجار الحراجية، وأشجار الزيتون التي يدرّ محصولها ريعاً أفضل من بيع أخشابها، على أنّه استعجال في جني الأموال قبل أن يلقى مرتزقة تركيا السوريين هؤلاء جزاء سنمار.
وقريباً من صورة قطع الأحراش والأشجار في محيط بحيرة ميدانكي، وما تسترعيه الصورة من استحضار عمليات مشابهة ومتواصلة حدثت منذ احتلال عفرين، برزت صورة أخرى لا تقلّ بشاعة حفلت بها منصّات المعارضة المحسوبة على تركيا، وهي صورة مجمّعات سكنية “استيطانية”؛ بالقرب من قرية كفر صفرة، التابعة لناحية جنديرس، واللافت في الخبر هو أن الجهة الراعية هي مؤسسة فلسطينية من عرب ال 48، تدعى “وفاء المُحسنين الخيرية”، ذلك أن هذا التصرّف من قِبل مؤسسة فلسطينية عانت من سياسة الاحتلال الاحلالي وفلسفة بناء المستوطنات الإسرائيلية، يُعيدنا إلى ما يسميه فرانتس “فانون” في كتابه “معذّبو الأرض” التماهي بالمستعمِر، ذلك أن الفلسطيني الداعم والمموّل لمشروعات إقامة المستوطنات لا يمكن النظر إليه على أنه مجرّد مُحسن يجهل طبيعة الجهات التي يموّلها أو أين ستقام المجمّعات السكنية؛ فالمعلوم أن أموال التبرّعات تذهب بقصد إسكان عائلات عناصر ميليشيات “الجيش الوطني” في أرض هُجّر سكانها، وهو ما يعني معرفة المتبرّع بطبيعة نشاطه، أو بكلمات أخرى؛ يتبرّع لمن يشبهونه لقهر من لا يشبهونه، وهو بالضبط ما حصل زمن إنشاء الكيبوتسات الإسرائيلية (المستوطنات الزراعية المسلّحة).
ثمة تكامل بين صورتي اقتلاع الأشجار من جهة، وبين بناء المستوطنات من جهة أخرى؛ فالأولى تعني اقتلاع السكان وأشجارهم وتحطيم بيئتهم المحيطة، فيما تعني الثانية إحلال آخرين مكانهم عبر بناء تجمّعات استيطانية، وفي كلتا الحالتين لا يمكن وصف هذه البربرية والتغيير الديموغرافي بأنه محض اعتباط، بل هو في جوهره جزء من سياسة تركية قائمة على هندسة المجتمعات المحيطة؛ مدفوعة في ذلك بما يمكن تسميته برُهاب الكرد، وأما المؤلم في شأن بناء المستوطنات هو أن المنخرطين في هذه المشروعات هم لفيفٌ من منظّمات “خيرية” كويتية وفلسطينية ممن لم يتسبّب لهم الكُرد بأي أذى.
شورش درويش
المصدر: نورث برس
[1]