*محمد فوزي
مثَّلت الأقليات التركمانية في عدد من الدول، إحدى الأدوات الرئيسية للسياسة الخارجية #التركية# في السنوات الأخيرة؛ حيث أعادت أنقرة إحياء روابطها مع تلك الأقليات وتوطيدها بهدف تعزيز نفوذها في المنطقة بشكل كبير، ويمكن تناول بعض مظاهر وأبعاد توظيف تركيا للأقليات التركمانية من أجل تعزيز الحضور في منطقة الشرق الأوسط؛ وذلك على النحو التالي:
1– انفتاح واسع على الجاليات التركمانية بالدول المختلفة:
سعت أنقرة قبل حكم العدالة والتنمية إلى الانفتاح على المواطنين التركمان أو ذوي الأصول التركية في الدول المختلفة لتحقيق هدف إقامة ما يُعرف ب”رابطة العالم التركي” أو “الكومنولث التركي”، لكنها لم تفلح في ذلك. وبوصول العدالة والتنمية إلى الحكم، تم البدء في ترجمة هذا الحلم إلى واقع عملي، حتى إن حكومة العدالة والتنمية طلبت من بعض مراكز الأبحاث التركية إجراء دراسات بهذا الخصوص. وعلى سبيل المثال، قام مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية (ORSAM) في عام 2009 بإجراء دراسة عن الجاليات التركمانية في لبنان تحت اسم “الأتراك المنسيون: الوجود التركماني في لبنان”.
وقد قامت حكومة العدالة والتنمية بعد ذلك في عام 2010 باستحداث قسم خاص ملحق بمكتب وزير الخارجية أسمته “شؤون العالم التركي” يستهدف الانفتاح الاقتصادي والثقافي والتعليمي والديني على الجماعات من أصول تركية في مختلف الدول، وإيقاظ “الوعي الجماعي” لدى التركمان بانتماءاتهم الإثنية، وسحب الانتماءات الوطنية لهم في المقابل، وهو ما عكس تطلع “العدالة والتنمية” إلى الاستفادة من الدور الذي يمكن أن يقوم به التركمان لخدمة مساعي الهيمنة والأطماع التركية، فضلاً عن إمكانية الضغط بهذه الورقة على الدول المنافسة.
2– اختراق تركي للبنان من بوابة الأقليات التركمانية:
برزت تحركات تركية في السنوات الأخيرة لخلق ولاء لدى الأقليات التركمانية في لبنان إلى الدولة التركية على حساب ولائهم إلى الدولة اللبنانية. ويعتمد “أردوغان” في مساعيه لاختراق الساحة اللبنانية على ثلاثة مداخل؛ هي: المدخل التنموي والإغاثي، والمدخل الديني والأيديولوجي، والمدخل الإثني الذي يقوم بدرجة رئيسية على الأقليات التركمانية في لبنان، وهي الأقليات التي تشير تقارير إلى أن عددها يبلغ نحو 19 ألف نسمة، فيما تشير تقارير أخرى إلى أن عددها يصل إلى 40 ألف نسمة.
وبرز الاهتمام التركي الكبير بهذه الأقليات في أكثر من مناسبة؛ ففي نوفمبر 2010 زار “أردوغان”، حينما كان رئيساً للوزراء، قرية “الكواشرة”، وانتشر حينها مستشاروه في كافة أنحاء لبنان من أجل حشد الأقليات التركمانية اللبنانية، وتبشيرهم بهذه الزيارة. وفي 8 أغسطس 2020 أوفد الرئيس التركي نائبه “فؤاد أقطاي” مع وزير الخارجية “جاويش أوغلو” إلى بيروت. وأعلن أوغلو أن أنقرة على استعداد لتجنيس تركمان، فضلاً عن استحداث مكاتب تابعة للوكالة التركية للتنسيق والتعاون “تيكا” في العديد من المناطق التي توجد بها الأقليات من أصول تركمانية.
3– توظيف التركمان لضمان المصالح التركية بالعراق:
تلعب الأقليات التركمانية دوراً رئيسياً في تعزيز الحضور التركي في العراق. ويتوزع التركمان في المناطق الشمالية والوسطى من العراق، ويعدون ثالث أكبر مجموعة عرقية في العراق بعد العرب والأكراد. وقد سجلت السنوات الأخيرة العديد من الشواهد التي تؤكد حرص النظام التركي على توظيف تركمان العراق؛ ففي 2017 عندما بادر أكراد العراق إلى تنظيم استفتاء للانفصال، هدد زعيم حزب الحركة القومية التركي دولت بهجلي باستخدام القوة لدعم المكون التركماني العراقي. كما التقى “أردوغان” في أكتوبر 2017 تركمان العراق في لقاء خيَّم عليه السرية.
وكانت تركيا قد اعتبرت –مطلع عام 2019، على لسان نائب رئيس الوزراء التركي حينها هاكان جاوش– أن “كركوك تاريخياً مدينة تركمانية، وأشقاء تركيا التركمان خط أحمر”. ومؤخراً أشارت تقارير إلى أن جهوداً تركية كبيرة قد بُذلت بهدف تشجيع التركمان على توحيد صفوفهم بهدف الحفاظ على مستوى تمثيل المكون التركماني في البرلمان العراقي في الانتخابات المقبلة المقرر عقدها في أكتوبر المقبل. وتستهدف تركيا الحفاظ على قوة المكون التركماني في العراق لمواجهة الأكراد الذين يناصبون أنقرة العداء، فضلاً عن ضمان مصالح تركيا في المناطق الحيوية بالنسبة إلى أنقرة، مثل محافظة كركوك الغنية بالنفط.
4– اهتمام تركي بتركمان سوريا منذ الحرب الأهلية:
تشير تقارير إلى أن تعداد الأقلية التركمانية بسوريا 100 إلى 200 ألف نسمة، يوجدون في غالبية أنحاء سوريا، لكنهم يوجدون بكثافة في منطقة الشمال؛ ففي محافظة حلب يرتكزون في مناطق منبج والباب وجرابلس والراعي (جوبان باي) وأعزاز، كما يوجد في محافظة حلب 145 قرية تركمانية شمال المحافظة، وفي محافظة الرقة وتل أبيض نحو 20 قرية تركمانية، وفي محافظة حمص وريفها يوجد نحو 57 قرية تركمانية، وفي اللاذقية توجد 70 قرية، وفي محافظة حماة نحو 30 قرية تركمانية، بجانب وجودهم في طرطوس والجولان وإدلب ودمشق.
ويجد المتابع للسياسة الخارجية التركية أن أنقرة بدأت منذ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا تتحرك بقوة من أجل استخدام التركمان؛ حيث بدأت تركيا تتحدث عن “مظالم” و”حقوق” الأقلية التركمانية في سوريا، بل إن هنالك اتجاهات قومية تركية دعت إلى مراجعة وضع مناطق تركمان سوريا “على اعتبار أن هذه المناطق تابعة لتركيا”. وتأسيساً على ذلك، تم إنشاء المجلس التركماني السوري في عام 2013، فضلاً عن تأسيس كتائب تركمانية عسكرية تحت اسم “كتائب السلطان مراد”. وقد جاء استخدام تركيا لورقة التركمان في سوريا لمواجهة الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وهو حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي.
5– مغالطات تركية بخصوص “تركمان” ليبيا:
بعد مطالبة حكومة الوفاق الليبية المنحلة حليفها التركي بالتدخل العسكري في ليبيا، تحدَّث الرئيس التركي عن أن ليبيا هي من “إرث الأتراك” وأنها كانت جزءاً مهماً من الدولة العثمانية، وزعم أن هناك مليون ليبي من أصول تركية يستحقون دعمه والتدخل لنجدتهم والوقوف بجانبهم؛ إذ أن حديث “أردوغان” يعني أن 18% من الشعب الليبي ينحدرون من أصول طورانية، وهو الأمر الذي مثَّل مغالطة كبيرة حسب إحصاءات رسمية؛ حيث أشارت تقديرات ليبية إلى أن عدد الليبيين من أصول تركية لا يتجاوز 300 ألف نسمة، منهم نحو 160 ألفًا في مصراتة.
ويتوزع الباقي بين مدن أخرى كالعاصمة طرابلس وزليتن والزاوية والخمس وتاجوراء ومسلاتة وغريان (مدن في غرب البلاد)، والمرج ودرنة (شرق البلاد). ويُطلق على هذه القبائل اسم “الكراغلة أو الكراغلية”، وهي القبائل التي أصدر “مجلس مشايخها وأعيانها” مقطعاً مصوراً وبياناً مكتوباً في يناير 2020، وصف فيه تصريحات أردوغان ب”الباطلة” و”غير المسؤولة”، وأكد المجلس حينها رفضه كافة أشكال التدخل التركي في ليبيا.
إجمالاً يمكن القول إن “الأقليات التركمانية” في دول العالم المختلفة باتت تمثل أداة رئيسية تعتمد عليها السياسة الخارجية التركية؛ إذ تسعى أنقرة عبر المداخل التنموية والاقتصادية والدينية والثقافية، إلى “تتريك” هؤلاء وجعل انتمائهم الحقيقي لها، على حساب انتماءاتهم الوطنية، وهو الأمر الذي يضمن تشكيل جماعات تنتمي ظاهرياً إلى دولها التي تقطنها، لكنها عملياً تعبر عن المصالح التركية.
*انتر ريجيونال للتحليلات السياسية[1]