هذه الملحمة تؤرخ معركة دارت عام ( 1791 ) بين القوات العثمانية وقوات إبراهيم باشا المللي، الذي كان قد شكل قوة عسكرية قوامها ( 70 ) ألف مقاتل، وأصبح زعيماً للتحالف المللي، الذي كان يتكون من ( 47 ) عشيرة، واتخذ من ويران شهر ( رأس العين ) عاصمة له، وامتد نفوذه من أرضروم إلى بيراجيك جنوباً، وشرقاً من جبل عبدالعزيز (هَرَگول )، إلى جبل سنجار في الجنوب الشرقي، وشمالاَ إلى جزيرة بوتان. وسيطر على الطرق المؤدية إلى حلب وديار بكر والموصل، وامتنع عن دفع الضرائب للدولة العثمانية، ورفض أن يخدم أبناء عشائر التحالف المللي في الجيش العثماني، ما أدى إلى أن يذاع صيته في الأرجاء حاكماً قوياً يهابه الولاة والمتصرفون العثمانيون في الجوار، وأوشك أن يعلن استقلال إمارته الكردية عن السلطنة العثمانية.
انتبه السلطان العثماني سليم الثالث الذي حكم بين عامي ( 1787 و 1807 ) إلى خطر هذا الرجل، فقرر توجيه قوة كبيرة إليه مكوّنة من آلاف الجند، مضافاً إليهم آلاف الفرسان غير النظاميين من عشيرة الجيس العربية والتركمان وقوات والي حلب ووالي الرقة ومتصرف مَلَطية، وجعل هذه القوة الكبيرة تحت قيادة سليمان باشا آل شاوي والي بغداد، زعيم عشيرة العُبيد العربية.
لم تستطع القوات المللية الصمود أمام تلك القوة الجرارة، فتراجعت مما دفع قائد القوات العثمانية سليمان باشا آل شاوي إلى التنكيل بالعشائر المللية، فأنهك قواتها، أعدم بعض رؤساء العشائر منهم سعدون باشا أخو إبراهيم باشا.
لجأ تمر باشا، أخو إبراهيم باشا، إلى درويش عڤدي ليقود قواته ضد قوات السلطان العثماني. ومن المهم جداً أن نعرف أن ثمة علاقة حب بين درويش وعدُّولة ابنة تمر باشا، فكان ذلك دافعاً قوياً يشد من عزيمة درويش المعروف كأشجع رجال عشيرته وأقواهم.
تتحدث الملحمة في بداياتها عن كيفية قبول درويش قيادة القوات المللية، فتذهب إلى أن تمر باشا أعلن في جمع كبير من أبناء العشائر أن ابنته عدولة، وهي معروفة بجمالها، ستأخذ فنجان قهوة بيدها وتدور به بينهم، فمن تناول الفنجان من يدها، يستحق أن يقود قواته، وأن يتزوجها. لم يتناول أحدهم الفنجان من يدها. ربما وجد درويش الأمر فرصة مناسبة لأن يحظى بمحبوبته، فاندفع إليها وتناول الفنجان، رغم أن عدولة لم تكن تريد ذلك خشية أن يلقى درويش مصرعه في هذه المعركة غير المتكافئة.
ثم تستمر الملحمة في الحديث عن حنكة درويش في قيادته ومعرفته إدارة المعركة وبطولته، فقد استطاع أن يلحق هزيمة نكراء بالجيش العثماني وحلفائه، في أكثر من موقع، مما جعل قادته يلجؤون إلى الحيلة والخدعة، فتراجعوا متظاهرين بالانسحاب، وساروا نحو أرض تكثر فيها جحور الفئران، ولم يكن درويش يعلم ذلك، فلاحقهم ولكن فرسه المسمى ( هدبان ) تعثًّرت قوائمها في بعض تلك الجحور، فتكسَّرت، وكان ذلك سبباً لأن يعود إليه جمع غفير من قوات السلطان، فيقاتلهم إلى أن يُقتل في أرض المعركة.
يمكننا أن نقسِّم هذه الملحمة إلى قسمين، أونعتبر الجزء الذي يتحدَّث عما سلف مقدمةً لها، نقف من خلالها على الأسباب التي أدّت إلى وقوع هذه المعركة، ونتعرَّف على درويش وبطولته وقصة الحب بينه وبين عدُّولة. وبناء على ذلك، يمكن تصنيفها بين الملاحم البطولية.
إلّا أن الجزء الغالب منها يُصَنَّفها ضمن ملاحم الحب والعشق، ذلك أن هذا الجزء، هو كما يُقال، من إنشاد عدُّولة وغنائها، فهي تغني وتصف حبها ومشاعرها وبطولة حبيبها، وترثيه رثاء حارّاً. تبدو أحياناً من خلال كل ذلك نزعة إيروتيكية، سنتحدث عنها في غير هذا الموضع.
لهذه الملحمة قيمة فكرية كبرى، تبدو من خلال تحالف الكرد، مسلمين وأيزيديين، في مواجهة تحالف العثمانيين وبعض العشائر العربية والتركمانية، مما يعني أن المخيال الشعبي أدرك قيمة اتحاد #العشائر الكردية#، فراح يدعو إلى هذا الاتحاد، وكذلك تبدو هذه القيمة من خلال الحب الذي جمع بين فتاة مسلمة وفتى أيزيدي كلاهما كردي، سمَوَا على النزعة الدينية.
ملحمة كَرّ وكُلُكْ.
ثمةملاحم بطولية أخرى كثيرة، تُروى على ألسنة الناس، منها تلك المسماة ملحمة كَرُّ و كُلُكْ ، التي جمعها أحمد آراس، و نشرتها دار النشر نو بهار في استانبول عام ( 2016 ). تدور أحداث هذه الملحمة حول بطولة أخوين توأمين لأبوين كانا معروفين بقوتهما بين العشائر الكردية. فالأم رغم كونها امرأة، كانت تصارع أقوى الرجال وتصرعهم، وقد اشترطت لزواجها شرطاً واحداً، هو أنها ستتزوج من يغلبها في المصارعة، وقد جرَّب كثيرون حظوظهم، إلا أنهم فشلوا، حتى ساقت لها الأقدار شخصاً يُسمَّى سليمان، كان قد هجر عشيرته رغم أنه ابن عم زعيمها، لأنه لم يعد يتحمَّل ما يمارسه ابن عمه من ظلم على أفرادها.
ينتهي المطاف بسليمان عند عشيرة عربية، فيعمل لدى شيخها راعياً، تراه ابنته، واسمها وردة ذات يوم، وهو يقتلع الأشجار بيديه، فتدعوه إلى مصارعتها، فإن غلبها ستتزوجه. وهذا ما حدث.
بعد فترة تلد وردة طفلين ذكرين توأمين، يسميان أحدهما كَرّ، (بفتح الكاف و لفظها من أعلى و آخر الفك العلوي و تشديد (الراء)، و الآخر كُلُك ، ( بضمّ الكاف و اللام ). يكبر الطفلان، ويشتد عودهما، ويتجاوزان في قوتهما وبطولتهما أبويهما، وينتشر صيتهما بين العشائر والقبائل.
ثم تحدث معركة بينهما وبين عشيرة أمهما ( دون معرفتهما أنها عشيرتها ) بسبب خطفهما فرس شيخ العشيرة، وهو فرس أصيل، ليقدمها الأخ المسمَّى كُلُك مهراً لأبنة شيخ عشيرته، فيقابلان بمفردهما جمعاً كبيراً من فرسان عشيرة أمهما، ويبديان بطولة خارقة، إلا أن كُلُك يُصاب بجروح بليغة، ويسقط عن فرسه، وإذ يراه أخوه كَرّ في تلك الحالة، يندفع نحو جموع الفرسان، فيقتل منهم خلقاً كثيراً، بينهم ستة أخوال له، ويأسر الخال السابع، ويلوذ الآخرون بالفرار.
إن هذه الملحمة، بالإضافة إلى تصوير الشجاعة والبطولة، فإن بعض أحداثها تعبِّر عن خصال اجتماعية عُرِفَتْ بها العشائر الكردية، وهي إن الفرسان حين يغزون قبيلة ما، فإنهم لا يهربون، حتى وإن حصلوا دون قتال على ما يريدون، بل ينتظرون ملاقاة رجال تلك القبيلة، وذلك حسب عُرفٍ متعارف عليه، وهو إن الهروب في هذه الحالة يعني لصوصية، بينما ملاقاة الرجال والأبطال وجهاً لوجه، واشتباكهم معهم في القتال، يعني أن ما أتوا به كان ثمرة شجاعتهم وبطولتهم، فلا يُعابون عليه. ولهذا انتظر الأخوان، بعد أن وصل كُلُك إلى الفَرَس، وأخذه عنوة من يد فتى كان يَرِدُها الماء، انتظرا إلى أن لاحقهم فرسان العشيرة، واشتبكوا معهما في قتال مرير، أدى إلى أصابة كُلُك بجروح بليغة، وموته على أثرها.[1]