بيار روباري
في هذه الدراسة التاريخية سوف نتناول هوية وتاريخ مدينة “رستن” الأثرية التي تقع في منتصف المسافة بين مدينتي حماه وحمص في #غرب كردستان#، والتي تعد واحدة من بين الجيل الثالث من المدن الخورية الهيتية – الكردية في غرب كردستان. وفي هذه الدراسة سنبحث تاريخ نشأتها وسبب إختيار الخوريين الكرد لهذا الموقع لبناء مدينتهم هذه، ودورها التاريخي في تلك الحقبة الزمنية نت التاريخ، وما تعرضت له من غزوات وإحتلالات عبر تاريخها الطويل.
إن الأسباب التي دفعتنا إلى كتابة هذه الدراسة التاريخية، حول هوية وتاريخ هذه المدينة الخورية -الهيتية وغيرها من مدن المدن الخورية – #السومرية# – الميتانية – الهيتية الكردية الأثرية والتاريخية والكتابة عنها عديدة منها:
1- إثبات أن هذه الأرض كردية منذ عشرات ألاف السنين، رغم تعرضها للغزو والعديد من الإحتلالات الهمجية، وأن الكرد كشعب وإمة متجذرين فيها، ويعيشون فيها منذ مئات ألاف السنين، وخير دليل عل ذلك حضاراتهم التي تعود إلى عشرات ألاف السنين قبل الميلاد وهذه المدن الأثرية. والإكتشافات الأثرية واللقى والنصوص المكتوبة، والمعابد، أدوات المعيشة، القصور، الأفران وغير ذلك أكدت هذه الحقيقة، هذا إلى جانب إنجزاتهم العلمية والأدبية والفنية واللغوية.
2- الرد على العربان والمستعربين العرب، محتلي كردستان وسراق التاريخ بالوثائق التاريخية والأثار بأن كل (سوريا) جزء من كردستان، وأن العرب لا يملكون متر واحدآ فيها، وأنهم غزاةٌ ومحتلين وقتلة متوحشين.
3- تعريف أبناء الشعب الكردي بتاريخ أسلافهم ومدنهم الأثرية التي تركوها لنا، وتحرير عقول الكرد من الأكاذيب التي زرعها المحتلين العرب في عقولهم على مدى مئات السنين.
3- قطع الطريق على سراق التاريخ من العربان والتتر (الأتراك) والفرس وغيرهم من اللصوص، الذين إحتلوا أرضنا، والأن يحاولون سرقة ذاكرتنا أي (تاريخنا) أيضآ.
4- تفنيد أكاذيب الكتاب العرب المستعربة، الذين يدعون أن (سوريا) بلد عربي، عبر هذه الدراسات التاريخية، التي نقدمها عن الحواضر الخورية، السومرية، الميتانية الكردية، الهيتية عبر عرض الحقائق التاريخية كما هي، وأثبات كل ذلك بالوثائق. وسوف نتناول في هذه الدراسة المحاور الرئيسية التالية:
1- مقدمة.
2- جغرافية مدينة رستن.
3- أثار مدينة رستن.
4- تاريخ مدينة رستن.
5- معتقدات سكان مدينة رستن الأصليين.
6- أصل تسمية مدينة رستن ومعناها.
7- الوجود الكردي في مدينة رستن والمنطقة المحيطة بها.
8- الحياة الإقتصادية في مدينة رستن.
9- الخلاصة.
10- المصادر والمراجع.
أولآ، مقدمة:
عندما كتبت دراسة تاريخية عن هوية الكيانين اللذان يطلق عليهما زورآ وكذبآ (سوريا والعراق)، تفاجئ الكثيرين من الكرد والعربان على حدٍ سواء. وشدة الصدمة عند الكرد كانت أكبر بكثير، لأنهم تعرضوا لغسيل دماغ كامل على مدى أعوام طويلة، وأكثريتهم كانوا يرددون رواية المحتلين العرباب والأتراك والفرس دون أي تفكير، وكانوا يؤمنون بعروبة هذين الكيانين اللقيطين، وحتى وصل الأمر ببعض التهجم عليّ بألفاظ نابية كالأوباش وقال البعض ما يلي حرفيآ:
“أنت جعلت من المنطقة برمتها أرضآ ووطنآ للكرد، وبعد قليل ستجعل من كل الكون كرديآ“. المنطقة بالفعل كردية ونقصد المنطقة الواقعة شرق البحر المتوسط التي بين البحر المتوسط وخليج إيلام، وكل الأناضول وإيران الحالية، جميعها أراضي خورية – كردية، ولا جدال في ذلك.
ونفس الشيئ حدث عندما كتبت عن هوية وتاريخ مدينة “هلچ” أي حلب الحالية، ومدينة “دومشك” أي دمشق الحالية، ومدينة “أوگاريت” و”دلبين” إدلب الحالية. تفاجئ الكثيرين من دقة المعلومات التي قدمتها وبينت مدى كذب العربان والمستعربين وتدليسهم على مدى مئات الأعوام، وأنا واثق سيتفاجئ الكثيرين هذه المرة أيضآ، بعد أن يقرأوا هذه الدراسة التاريخة الموجزة، التي سنتاول فيها هوية وتاريخ مدينة “رستن” الخورية – الهيتية – الكردية.
عندما يجهل شعبٌ ما تاريخه، ذلك يعني أنه بلا ذاكرة وحتى ومن لا ذاكرة له لا مستقبل له، وهو أيضآ بلا هوية قومية، ولا يمكن أن يكون لك هوية قومية دون أن يكون لك ذاكرة تاريخية. من هنا تأتي أهمية التاريخ ومعرفته ودراسته دراسة عميقة، وقبل كل ذلك تدوينه وتوثيقه. حتى نتمكن من إستخلاص العبر
والدروس منه والتخطيط بشكل صحيح للمستبقل. فالتاريخ هو ذاكرة الشعوب، ومن هذه الذاكرة نستلهم العزيمة والهمة وبناء على ذلك الخطيط للمستقبل لأن هذه الذاكرة تكونت عبر تجارب ألاف السنين وألاف التجارب التي عاشها أسلاف شعبنا الكردي، والحديث هنا يدور عن: “الخوريين – السومريين – الإيلاميين – الكاشيين – الميتانيين الهيتيين – الميديين”، والتاريخ في حالة الشعب الكردي له أهمية مضاعفة، لأن أعداء الشعب الكردي سعوا ومازالوا يسعون وعلى مدى مئات الأعوام على محو وجوده جسديآ وتاريخيآ، أي إزالته من الذاكرة بشكل كامل، ولهذا رأينا المحتلين العرب، التتر، الفرس ينكرون وجود الشعب الكردي، ومن هنا هجمتهم الشرسة على تاريخه وتاريخ أسلافه، وسرقة تاريخهم القديم والحديث على حدٍ سواء.
من هنا يجب الحفاظ على هذا التاريخ، وقطع الطريق على لصوص التاريخ من العرب، التتر (الترك) والفرس من سرقة هذا التاريخ، لأن التاريخ هو حافز مهم ويدفع بالإنسان للتطور والتقدم وتحقيق مزيد من الإنجازات وعلى جميع الأصعدة. ولهذا مطلوب من الكرد الإهتمام بكتابة تاريخهم وقرأته ودراسته وإستيعابه وإستخلاص الدروس الصحيحة من هذا التاريخ الثري والمليئ بالإنجازات العلمية المختلفة والحضارية، والثقافية، والإنتقال من جديد إلى إنتاج الثقافة والإبداع العلمي والحضاري، بدلآ من حالة الإستهلال التي يعشها الكرد في الوقت الراهن.
وأكبر خطأ إرتكبته القيادة الكردية ومؤرخيه، برأي هو عدم قيامهم بتدوين تاريخ شعبهم ومدنه بأنفسهم، وبذلك هذا أعطوا المجال لأعداء شعبهم ومحتلي كردستان من الفرس، والعرب والأتراك، والمستمعرين الغربيين، من تدوين تاريخهم وفق أهوائهم الخبيثة ومصالحهم الذاتية، والقيام بتزوير الحقائق التاريخية، هذا إضافة إلى سرقة تاريخهم في وضح النهار.
وكما هو معلوم فالتاريخ علم مستقل كباقي العلوم، ويستند على حقائق علمية ثابتة من خلال الأدلة المادية المكتشفة في المدن والمواقع الأثرية المختلفة. وعلم التاريخ يقوم بتأصيل كل ذلك، ويدون الأحداث الهامة التي مرت على مسرح تلك المدن، وما عاشه سكانها من تجارب ومحن وأحداث تسبب بها الإنسان نفسه أو تلك التي تسببت بها الطبيعية كالزلازل على سبيل المثال. والتاريخ، يُعطينا تصوراً دقيقاً وواضحاً عن العالم القديم، والتجارب التي مرَّ بها الإنسان، صائبة أو عكس ذلك.
هذا إلى جانب أن دراسة التاريخ، يمنحنا فهمآ أفضل لعمل الإنسان وحياته في السابق، وعملية التطور الوعي البشري عبر ألاف السنين، وكيف وصلنا إلى هذه المرحلة من التطور، وكيف حققت البشرية هذه الحضارة العظيمة التي نعيشها اليوم، والتكاليف التي دفعتها ألاف الأجيال قبلنا إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، من علم ومعرفة، وفن وأدب ووعي، وإنجازات علمية هائلة وتنكنالوجية متطورة للغاية بكل معنى للكلمة. ودراسة هذا التاريخ بحلوه ومره يجعل الإنسان على تواصل مع أجداده وجذوره القومية والثقافية، ونحن الأجيال الحالية إمتداد طبيعي لأولئك الأسلاف سواء كان ذلك لغويآ أو ثقافيآ، فنيآ، قيميآ وروحيآ.
علم التاريخ يمكن أن يُنصف الأمم، إذا كان القائمين عليه أناسٌ محايدين، ويمكن أن يحفظ تراث الأمم والشعوب المختلفة ومنهم تاريخ أسلاف الشعب الكردي: “الخوريين، الإيلاميين، السومريين، الهكسوس، الكاشيين، الميتانيين، الهيتيين، الميديين، الساسانيين”، وتراث العديد من الأمم والشعوب حفظ بفضل جهود علماء الأثار والباحثين الجادين، وتمكننا من الإطلاع عليه ومنهم تراث أسلاف الشعب الكردي صاحب أقدم حضارة في تاريخ الإنسانية، والتي إنطلقت من مدينة “گوزانه، هموكاران” التي تقعان في منطقة الجزيره العليا، ومنهما إنتقلت إلى جنوب الرافدين، أي بلاد إيلام وسومر والكاش، وإلى مدينة:
ألالاخ، مبوگ، الباب، گرگاميش، أرپاد، شمأل، پاتين، دلبين، دارازه، هلچ، دمشق، قطنه، أوگاريت، رستن، خوران، وهتوسا في الغرب والشمال.
وإلى جانب كل ذلك فإن التاريخ يطلعنا أيضآ، على تطورالعلوم والفلسفة، الأدب الشعبي الملحمي، الأدب الروحي، أساليب التجارة، إكتشاف المعادن، تطور أساليب الزراعة، وأساليب القتال وشكل الحروب، وتطور صناعة الأسلحة، وطرق معالجة الأمراض والأوبئة، وسن القوانين وغير ذلك من الإمور مثل
تنظيم الأسرة. من هنا تشاهدون معي مدى أهمية دراسة التاريخي الإنساني من بداياته وإلى يومنا هذا، وفهمه والحفاظ عليه للأجيال القادمة، كما قلت في الأول فالتاريخ ذاكرتنا وشعب بلا ذاكرة لا مستقبل له.
ثانيآ، جغرافية مدينة رستن:
Erdnîgeriya bajarê Resten
تقع مدينة “رستن” جنوب نهر العاصي وبحيرة الرستن، في منتصف المسافة بين مدينة حماه وحمص، وتبعد حوالي 180 كيلومترآ إلى الشمال من دمشق على الطريق السريع المؤدي إلى حلب، وتطل على نهر العاصي، وترتفع نحو (800) ثمانمائة متر عن سطح البحر. المدينة الأثرية عبارة عن قلعة بُنيت فوق تلة صخرية تطل على السهول التي تحيط بها من الشرق المتصلة مع البادية، والسهول المحيطة بها من الجنوب والغرب الزراعية الخصبة، واليوم تنقسم المدينة إلى قسمين: “رستن فوقاني، ورستن تحتاني”.
الطريق الدولي المتجه شمالاً نحو شمال كردستان (تركيا) عبر المدينة الحالية، يشقها إلى قسمين ويمر فوق نهر العاصي من خلال ما يُعرف بجسر “الرستن”، الذي بني في عهد الرئيس ” جمال عبد الناصر” وذلك في عام (1958) ميلادي. وتتربع المدينة بمبانيها الحجرية القائمة فوق الهضبة والمشرفة على نهر العاصي. الجزء الشرقي من أراضيها السهلية تعتبر جزء من البادية (السورية)، في حين أن أراضيها الغربية والجنوبية تعد من أكثر الأراضي الزراعية خصوبة في محافظة حمص. في الصيف يكون مناخ مدينة “رستن” معتدل إذا ما قورن بالمناطق المحيطة بها، وهذا يعود لوجود فتحة جبلية مقابلة لها توصلها مباشرة بأجواء البحر المتوسط، وهذا يفسح المجال أمام الرياح البحرية للوصول إليها بشكل مباشر دون أن يعتريها عقبات جغرافية. أما شتاء المدينة فهو قاري وشديد الحدة، وأحيانآ تصل درجات الحرارة فيها إلى ما دون (0) الصفر في الليل وساعات النهار الأولى.
تبلغ مساحة منطقة “الرستن” نحو (291) كيلومتر مربع، وبلغ عدد المنطقة ما يقارب نحو (128) الف
نسمة، وبلغ عدد سكان المدينة نفسها في العام (2011) حوالي (85.176) ألف نسمة، بحسب تقديرات المكتب السوري المركزي للإحصاء. وتضم مدينة “الرستن” سدآ مائيآ يعتبر الثاني من حيث الحجم في المنطقة الوسطى، ويصل إرتفاع سد الرستن نحو (206) قدم، أي ما يعادل (63) متر، وبطاقة تخزينية تصل نحو (250) مليون يارد مربع، أي ما يعادل (192) مليون متر مربع. كما وتضم جسرآ كبيرآ، يعتبر من أكبر وأعلى الجسور في البلد، بعد جسر “الهامة”. وهو عبارة عن أكبر منشأة من نوعه على الطريق الرئيسي، الذي يربط دمشق بحلب واللاذقية. وقد بني في عهد الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958، وإكتسب أهمية كبيرة، كونه أخرج الاوتستراد من داخل المدينة إلى سمائها، هذا إضافة إلى إختصاره للمسافة بنحو (7) كم داخل المدينة. ويبلغ أعلى نقطة إرتفاع في الجسر نحو (100) متر عن مجرى نهر العاصي، وطوله يصل لحوالي (600) متر، وعرضه نحو (16) متر. والمسافة الاجمالية بين دعامات الجسر وصلت إلى (595) متر، وتوجد على إمتداده (14) فتحة، ويبلغ معدل إرتفاع الجسر نهو (72) متر. مدينة “رستن” هي مركز لمنطقة الرستن وتتبع إداريآ لمحافظة حمص، ويتبع المدينة عدة بلدات ونواحي ومنها: ناحية تلبيسة وقرى أبو همامة، عسيلة، البلان، دلفين، عز الدين، الغاصبية، غرناطة (الغجر)، الحميس، كفرنان، كيسين، المنارة، مرج الدر، القنيطرات، سليم، تسنين، الوازعية، زميمير، الضاهرية، ظهر الكن.
إن سر إختيار الخوريين – الكرد لهذا الموقع لبناء مدينتهم هذه إضافة لإرتفاعه على سطح البحر بحوالي
(500) متر، هو إحاطته بوديان سحيقة من الجهات الثلاثة (الشمالية، الغربية، الشرقية)، وفقط الجهة الجنوبية هي المتصلة بالسهول الفسيحة والمترامية الأطراف، والتي كانت ذات يوم مزروعة بالكروم وأشجار الزيتون، وخير دليل على ذلك الجرار الفخارية، والمعاصر الحجرية لعصر العنب والزيتون،
والأجران.
ثالثآ، أثار مدينة رستن:
Kevneşopên bajarê Resten
مأساة أثار مدينة “رستن” الأثرية، تكمن في أن المدينة تعرضت للهدم والنهب، ومن ثم البناء فوق أثارها وذلك طمرت تحت التراب، ولم تخضع المدينة الأثرية لعلمية تنقيب أثرية جدية وشاملة، من قبل أي بعثة أثرية مشتركة كانت أو مستقلة ذو خبرة في هذا المجال، ولها إمكانيات على القيام بأعمال التنقيب بشكل محترف وتملك مختبرات حديثة، ويساعدها خبراء في اللغات القديمة قبل أن تضيع تلك الأثار تحت البناء العشوائي كما هو الحال الأن.
السؤال: كيف سمحت الدولة بالأساس للمواطنين البناء في موقع المدينة الأثرية؟؟ وكيف لم تكلف بعثة أثرية أجنبية محترفة بالإشتراك مع خبراء محليين إن أمكن للتنقيب في موقعها التاريخي الهام؟؟
هذا الإهمال قطعآ كان متعمدآ ويدل على مدى إستهتار الدولة (السورية) من خلال مؤسساتها المختصة بالأثار وقيمتها التاريخية، الذي لا يقدر بثمن. ثانيآ عدم وعي القائمين عليها بأهمية هذه الأثار وتاريخها كونها تمثل ذاكرة الشعب الخوري. وبقناعتي الشخصية، إن هذا الإهمال كان مقصودآ من قبل المحتلين العرب لغرب كردستان. لأن كشف التاريخ المادي بأشكاله المتنوعة مثل الألواح الطينية، اللقى، الفخار، الأفران، المعابد، القصور، يشكف عورتهم ويفضح كذبهم، بخصوص عروبة هذه المنطقة والبلد. ومن هنا رأينا وعلى مدى (80) ثمانين عامآ، كيف أن كبار المسؤولين الأمنيين والعسكريين والسياسيين في هذه الكيان اللقيط، يهربون الأثار ومازلوا، لخارج البلاد وبيعها في السوق السوداء!!!
في هذه الدراسة، سنتوقف عند أهم الأثار التي عثر عليها في موقع المدينة ومن حقب تاريخية مختلفة، في الحقيقة بالصدفة عثر الأهالي عل بعض الأثار المدفونة تحت البيوت السكنية التي بني القسم الأعظم منها فوق تلك الأثار المدفونة تحت التراب، كما كان الحال مع العديد من أثار المدن الأثرية الأخرى مثل أثار مدينة أوگاريت، التي كانت مطمورة تحت التراب هي الأخرى، والصدفة أدت إلى إكتشاف أثارها مما مكن العلماء التنقيب في الموقع، وإستخراج أثارها ونشر التقارير عنها، وبتنا نعرف تاريخها بعدما كنا نجهل مكانها فيما مضى.
وواحدة من أهم الأثار التي إكتشفت في المدينة بالصدفة في عام (1977) ميلادية، كان تابوبآ فريدآ من نوعه، وهذا ما لفت إنتباه علماء الأثار والباحثين إلى المدينة كموقع أثري. وقد تم العثورعلى التابوت مدفونآ على عمق حوالي (70) سنتيمتر أمام أحد المنازل المملوكة لأحد المواطنين من سكان المدينة. ويحتوي التابوت على رفات رجل وزوجته، حسب العلماء الذين فحصوا التابوت، وإندهش الخبراء من شكل التابوت والرخام المصنوع منه، والتماثيل التي ترصعه من الخارج وغطائه المميز، ولم يكن تابوتآ عاديآ، ولم يكن قد شاهد الباحثين مثله من قبل. وقد عثر على هذا التابوت خارج سور المدينة الأثرية من الناحية الجنوبية للمدينة القديمة بنحو (190) متر، وبحوالي (30) مترآ غرب خزان الماء. ومن شكل التابوت وما عليه من تماثيل واضح أنه يعود للحقبة الإستعمارية الرومانية- البيزنطية. وجد التابوت فوق مصطبة عملت خصيصآ للتابوت ودفن في غرفة أبعادها (11.25×8.25) متر.
يبلغ طول التابوت الرخامي (220سم)، وإرتفاعه (140سم)، وعرضه (100سم)، ومؤلف من قطعتين: 1- غطاء التابوت. 2- صندوق التابوت. ولم يتمكن علماء الأثار الذين قدموا من مديرية الأثار من مدينة حمص وفحصوا التابوت، من التعرف على أصاحب التابوت من خلال فحص رفاتهم، ولليوم لا يعرف من هي الشخصية التي دفنت في هذا التابوت، ولكن العلماء يعتقدون أنه يعود لشخصية مهمة ولربما كان لقائد عسكري كبير أو أمير ما، من أمراء المدينة من عهد الحكم البيزنطي.
يشغل جوانب التابوت مشهد معركة بحرية وبرية ويعتقد أنها معركة “طروادة” المستمدة من الأسطورة الإغريقية. وعليها مجموعة من التماثيل الرخامية الجميلة، التي تحيط بصندوق التابوت تبدوا أنها ملصقة
به لصق، وواضح أنها عملت على الطراز البيزنطي، ويعود التابوت إلى فترة الإحتلال الروماني – البيزنطي لبلاد الخوريين والتي حكموها حوالي (700) عام.
التماثيل الموجودة على جسد التابوت، تجسد شخصيات الأسطورة الإغريقية، ونحت بشكل متقن ورائع وهذا يدل على مدى إحترافية النحاتين حينذاك وموهبتهم المميزة، وتمثل اللوحة حرب “طروادة” كما وصفت في “إلياذة هوميروس”. فترى “أخيل” كيف يسعى للقيام بواجب الدفاع عن وطنه، وتعلقت به عشيقته، وفي الركن الأيمن من اللوحة، تبدو في المشهد “ارتميس” وهي ربة النصر، أما بشمال اللوحة يوجد “بوسيدون” وهو إله البحر. ويتوسط الجبهة القائد “آغاممنون”، وثمة قادة أخرين مثل “أوليس، إديوميد وهكتور وفينيكس”، ومحاربين آخرين توضحت معالمهم بتعبير رائع. أما على الوجه الأخر للتابوت يوجد حيونان مجنحان متقابلان، يتوسطهما شمعة مطابقة للمشهد الرمزي لحرب طروادة.
أما غطاء التابوت فيعلوه تمثالان لرجل وامرأة ضاع رأساهما، ولعل رأس الرجل يمثل أمير من أمراء أسرة “شمسيغرام” التي حكمت الرستن، ولقد عثر عليه منفرداً، وهذه الإسرة حكمت حمص، في عهد الدولة الرومانية، والفيلسوف الأفلاطوني الشهير “يامبليخوس”، كان واحدا من أحفاد هذه السلالة.
ووفق تقدير علماء الآثار يعود تاريخ هذا التابوت إلى (200م) القرن الثاني للميلاد، حيث كانت حركة التجارة مزدهرة، وكان الرخام يستورد جاهزاً من اليونان، يأتي قطعاً كبيرة ثم يصقلها النحاتين المحلين، ويعد هذا التابوت من روائع الآثار المحفوظة في المتحف الوطني بمدينة دمشق.
من جهة أخرى، إكتشف العلماء تابوت أخر في الجهة الغربية من المدينة حيث البيوت الشعبية، بلغ وزنه إلى ما يقارب (4.5) طن ومصنوع من الرخام. لكن لصوص النظام السوري المجرم، قاموا بتهريب هذا التابوت الأثري الذي لا يقدر بثمن، إلى خارج البلد بعد تقطيعه لتسهيل حمله وتهريبه، وتم بيع التابوت في السوق السوداء. هذا هو النظام البعثي – الأسدي الإجرامي، باع كل ما إستطاع بيعه من أثار الشعب الخوري وغيره من الحضارات التي مرت على البلد، ومسلسل سرقات النظام الأسدي الطائفي والقاتل، الذي حول البلد إلى خرابة إستمرت حتى أثناء الحرب.
بخلاف هذه التوابيت عثر الباحثين على ثلاثة مدافن أخرى، إلا أنه تبين أن هذه المقابر نقبت من قبل من قبل لصوص وتجار الأثار ونهبوا محتوياتها، وهناك شبكات تهريب منظمة تقوم بهذه الأعمال الإجرامية وهي محمية من قبل شخصيات نافذة في الدولة، وعلى صلة بعصابة الأسد الإجرامية التي تحكم البلد منذ 60 عامآ.
الملفت للنظر خلو هذه التوابيت من أي نوع من النصوص والكتابات للأسف الشديد، إلى جانب التوابيت التي إكتشفت في موقع المدينة، عثر العلماء أيضآ على بقايا برج دفاعي تتمثل في حجارته الضخمة، وذلك في عام (1977)، مقابل الفرن الألي. ماذا حدث لهذه الأثار وغيرها بعد الثورة وأين هي الأن، لا نعرف بالضبط، حالها حال الكثير من أثار البلد التي طالها يد العابثين ولصوص الأثار.
هذا إلى جانب إكتشاف بقايا أعمدة مزينة بالتيجان وبقايا الجسر الحجري، الذي كان يمر عليه المركبات الحربية والفرسان وقوافل التجار المتجهين من جنوب نهر العاصي أي من حمص إلى مناطق شمال النهر أي نحو مدينة حماه، حلب، أنطاكيا، ألالاخ واللاذقية، وبالعكس تلك القادمة من تلك المناطق بإتجاه حمص ودمشق، ويعود تاريخ هذا الجسر إلى الفترة الرومانية. هذا إلى جانب بقايا السور الذي كان يحيط بالمدينة وأبراج الحماية التي كانت تضمه. ويضاف إليه بقايا قناه لمياه الشرب، التي كانت توصل مياه الشرب لسكان المدينة، من خزان ماء مخصص لذلك، وبقايا هذا القناة موجودة لليوم وكانت المياه تجلب من حوض قطينة إليه.
إن أهم إكتشاف أثري في مدينة “رستن” الأثرية، كانت تلك اللوحة الفسيفسائية والتي شغلت حيز أرضية غرفة بكاملها تقريبآ. وقبل الحديث عن هذه اللوحة الفسيفسائية وأبعادها، ومضمونها والحقبة الزمنية التي يعود إليها. دعونا نتوقف سريعآ عند تعريف مصطلح “الفسيفساء” ذاته، كي نكون على علم بموضوع وخلفيات هذا المصطلح.
الفسيفساء حسب إجماع أكثرية أراء الخبراء المختصين: هي بناء العمل الفني بقطعٍ صغيرة متجاورة من خامةٍ أو عدة خاماتٍ طبيعيةٍ بجوار البعض، مثل الأحجار والحصى والأصداف، أو مثل الفخار والزجاج الملون والخزف وغيرها. تُثبت هذه القطع على السطح الحامل بوسيلة مناسبة من وسائل التثبيت وتندمج هذه العناصر الواحدة بجوار الأخرى، لتشكل مواضيع زخرفية مختلفة.
لكن ما هو جدير بالاهتمام في تعريف الفسيفساء من الناحية الجمالية هو: أن الفسيفساء ليست حشواً للمساحات أو عناصر العمل الفني بهذه القطع الصغيرة من خامات التنفيذ، بل الأهم هو كيفية تجاور هذه القطع بإيقاعٍ رصينٍ وضمن نسقٍ معين يضع في الاعتبار التنويع في أحجام القطع وألوانها وملامستها واتجاهاتها وترك الفواصل المناسبة بين القطعة والأخرى لتأكيد قيمة الجزء الذي هو من أهم سمات هذه التقنية. فهي كثيرآ ما تشبه حروف اللغة، فالحرف لوحده لا يمكن فهم شيئاً منه، ولكن برصف الحروف إلى جانب بعضها، تستنهض الكلمات المفعمة بروح المعنى والفسيفساء تماثلها تماماً.
وبحسب الفنانة الإنكليزية “أيلين جودوين”: “فإن الفسيفساء وسيط مدهش يمكن من خلاله إستخدام أبسط الخامات أو أكثرها فخامةً وطبيعته المتنوعة تكمن في تطويعه لاستخدامات عدة جمالية أو عملية لها صفة الدوام والثبات، ويمكن أن تكون كل هذه الصفات مجتمعة”، فيمكن القول أن الفسيفساء فن مرتبط أساساً بالعمارة، لتزيين الجدارن والأرضيات فقد كانت الفسيفساء في البداية فناً وظيفياً بحتاً غرضه ضمان كتامة الأرضيات وصلابة تلبيس الجدارن، ومع الزمن تطور هذا الفن اذ أصبح فيما بعد إضافة إلى جانبه الوظيفي فناً غرضه التزيين بزخرفة أرضيات البنايات العمومية والفيلات، حيث زينت بها أرضيات الحمامات، وإنتشرت بعد ذلك في العصر المسيحي المبكر، ثم إزدهرت إزدهارآ كبيرآ في العصر البيزنطي الذي أصبح التصوير الجداري فيه يعتمد إعتماداً أساسياً عليها، فقد كانت طبيعة هذه الخامات تلائم المساحات الداخلية الكبيرة في الكنائس ذات الإضاءة القليلة الخافتة، سواء كانت هذه المساحات مسطحة كالجدارن الرأسية أو منحنية كالقباب والحنيات فتعكس الإضاءة الطبيعية بسطحها
اللامع. منحنية كالقباب والحنيات فتعكس الإضاءة الطبيعية بسطحها اللامع. أما بالنسبة للتعريف اللغوي لفن الفسيفساء فإن كلمة (موازييك) كلمة أعجمية تقابلها في اللغة العربية كلمة فسيفساء، وكلا الكلمتين تتداولان للإشارة إلى فن الفسيفساء.
وللمعلومات فإن مصطلح فسيفساء مشتقة من الكلمة الإغريقية “فصيفوص” والتي تعني الحجر الصغير، أو الحصى، ويستخدم العرب مصطلح (الفص) بصيغة الجمع فصوص للدلالة على الفسيفساء فقد صنعت الفسيفساء المبكرة من هذه المادة. والفسيفساء هي عبارة عن قطع صغيرة ملونة من الرخام أو الحصباء أو الخرز أو نحوها، يُضم بعضها إلى بعض فيكون منها صور ورسوم تزين أرضية البيوت أو جدارنها.
++++++++
أيلين جودوين:
فنانة انكليزية تمارس وتدرس الفسيفساء، ومؤلفة لعدة كتب في هذا المجال، وأحد أعمالها معروض بمكتبة الاسكندرية، أهدته أثناء مشاركتها في مؤتمر ومعرض الفسيفساء الذي أقيم بالاسكندرية عام 1996.
أنواع الفسيفساء:
بشكل عام هناك نوعين من الفسيفساء:
1- فسيفساء الأرضيات.
فسيفساء الأرضيات تتألف من قطع رخامية صغيرة ودقيقة تسمى (التسرات)، توضع بجوار بعضها البعض، ويجب أن يكون السطح ناعماً مصقولاً لأنه سوف تتم رؤيته عن قرب أثناء المشي عليه، لذلك يجب إتقان توزيع تفاصيل العناصر الممثلة بشكل دقيق.
2- فسيفساء الحيطان.
فسيفساء الحيطان والأسقف لا تتطلب تلك الدرجة من النعومة والصقل، لأنها تُرى من بعد ولاحاجة للتفاصيل الدقيقة، بل ينبغي أن تكون العناصر بسيطة واضحة لتستحوذ انتباه المشاهد. وهناك أيضاً ما يسمى بالفسيفساء المنقولة، فقد أنتجت العديد من القطع الفسيفسائية بمقاييس صغيرة على دعامات متنقلة لكي تسهل عملية نقلها من مكان لآخر.
عُرف فن الفسيفساء لأول مرة بالتاريخ البشري من قبل السومريين أسلاف الكرد، حيث عُثر على أقدم لوحة فسيفساء جدارية تغطي واجهة معبد “أنين” المزينة على شكل مخروطات طينية محروقة في مدينة “أوروك” السومرية. عثر الباحثين في موقع المدينة الأثرية على ثلاث لوحات فسيفسائية، الأولى مرسوم عليها طائر حجل وترجع للفترة البيزنطية في القرن الخامس الميلادي، والثانية يعتقد أنها إمتداد للوحة الأولى وتحتوي على رسومآ هندسية، والثالثة هي أكثر عمقآ وتعود للحقبة الهيتية، أي (2000) للألف الثاني قبل الميلاد.
اللوحة التي تعود إلى فترة الدولة الهيتية وجدت داخل أحد أحياء مدينة الرستن الأثرية، في أرضية أحد المنازل بحي “القلعة” بمدينة الرستن. وقدرت مساحتها بنحو 8 أمتار مربعة من اللوحة بواقع (2 ×4).
يعود عُمر هذا الفن بحسب العلماء إلى (3000) الألف الثالث قبل الميلاد. ومن مدينة “أورك” إنتقل هذا الفن الجميل إلى مدن غرب كردستان، وعبرها إنتقل إلى اليونان وعبرها إنتقل فن الفسيفساء إلى الدولة الرومانية، ومن بعدها إنتشرت في أرجاء الدولة البيزنطية غدات قيامها التي حكمت كردستان على مدى مئات السنين، وبعد ذلك شاع هذا الفن في جميع أنحاء العالم.
بعد الكشف الأولي للموقع تبين أن إحدى غرف المنزل تحتوي على حفرة بأبعاد (170×180) سنتميتر ولوحظ وجود أرضية فسيفسائية أسفل الحفرة على عمق نحو (230) سمنتيمتر. بعد ذلك بدأت عملية التوسع في السبر والتنقيب ثم تم فتح سبر بأبعاد (3×4) متر. ومع تقدم العمل والنزول طبقة تلو الطبقة، تم الكشف عن جدران أثرية على الغالب تعود إلى نفس فترة اللوحة المكتشفة، وكانت مطمورة تحت المنزل، وقام الباحثين بتوثيق تلك الجدران والحفاظ عليها، وتابعوا العمل والحفر إلىى عمق (230سم) حتى وصلوا إلى سطح اللوحة المذكورة. واللوحة نفذت بمكعبات حجرية ذات ألوان متعددة رصفت بأسلوب هندسي لتشكل رسوماً هندسية من معينات ومربعات ثلاثية البعد وأمواج بحرية.
الموقع الذي عثر فيه الباحثين اللوحات الفسيفسائية يسميها السكان المحليين “الرستن الفوقاني” حيث تقع المدينة القديمة المسجلة في عداد المواقع الأثرية. وبسبب ضخامة هذه اللوحات ووقوعها تحت المباني السكنية جعل عملية رفعها من مكانها بحاجة إلى خطط عمل دقيقة، فقد بلغت أبعاد جزء الواحد فقط من إحدى اللوحات المكتشفة (7) أمتار طولاً، و(5) خمسة أمتار عرضاً.
ووفق إحصائية المديرية العامة للآثار حتى منتصف عام (2015)، بلغ حجم الخسائر والأضرار التي طالت الآثار في البلد، شملت حوالي (750) مبنآ وموقعآ، منها (140) مبنآ تاريخيآ على الأقل، إضافة إلى أكثر من (1000) محل في سوق حلب القديم. وهناك (48) متحفآ وموقعآ معدآ للزيارة تعرض القسم الكبير منها للضرر جراء حرب النظام الأسدي على الشعب السوري، وفي مقدمة تلك المتحاف يأتي متحف الرقة، إذ تمت سرقة حوالي ألف قطعة أثرية منه، إضافة إلى سرقة مستودعات “هرقلة” الموجودة بجانب المدينة، وهي مستودعات كانت تحفظ فيها نتائج تنقيبات البعثات الأثرية التي تعمل في المحافظة.
من جهة أخرى ونتيجة لتراجع كمية الماء في مخزون سد “الرستن” بشكل كبير، والذي يعد أكبر سدود المنطقة الوسطى في سوريا، حيث سعته حوالي (250) مليون متر مكعب، إلى ظهور مبنى أثري، يعود لفترة الاحتلال الفرنسي. وحسب الباحثين فإن البناء كان مخصصا لتوليد الطاقة الكهربائية من نهر العاصي، بناه الفرنسيون قبل نحو قرن من الزمن، وعندما تم بناء السد، في خمسينيات القرن الماضي غمرته مياه السد، ليعود ويظهر البناء من جديد، لأول مرة بعد عشرات السنين من إختفائه، نتيجة إنخفاض مستوى مياه السد إلى ما دون الحد الأدنى. وحدث ذلك نتيجة قيام النظام الأسدي المجرم، بفتح فتحات سد الرستن الواقع تحت سيطرته بريف حمص الشمالي، إلى انحسار كبير في مستوى السد عن عمد، مما حرم الفلاحين في مدينة الرستن الخاضعة للمعارضة من الاستفادة من مياه البحيرة، في ري الأراض الزراعية وصيد الأسماك.
يتبع ….[1]