أفين يوسف
تلوّح تركيا في كل فرصة بضرورة إنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري، وتهدد منذ أشهر بشن عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا، وخصوصاً المناطق التي تسيطر عليها #قوات سوريا الديمقراطية#، وتصرّ تركيا على التغلغل في الأراضي السورية الشمالية بعمق 35 كم، متذرّعة بحماية أمنها القومي من المخاطر التي تهددها من الجماعات الإرهابية على حدّ زعمها (مشيرة إلى قوات سوريا الديمقراطية). تحاول أنقرة منذ عام 2012 كسب التعاطف الدولي، وقد استخدمت اللاجئين السوريين كورقة ضغط على الدول الأوربية في عدة مناسبات، كما تعترض على أي وجود كردي على حدودها، وتعتبر مشروع الإدارة الذاتية مشروعاً انفصالياً يهدف إلى تقسيم سوريا وإنشاء #دولة كردية# على حدودها، وتعتبر ذلك تهديداً مباشراً وخطراً على أمنها القومي. ومع اقتراب موعد الانتخابات يحاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الوفاء بوعده بإنشاء مناطق آمنة على الحدود التركية-السورية لإعادة مليون لاجئ سوري، وتوطينهم في تلك المناطق في محاولة لإرضاء الشعب التركي وحصول حزبه “العدالة والتنمية” على الأصوات، خاصة وأن تركيا تعاني من أزمة اقتصادية وسياسية داخلية.
اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية قوات سوريا الديمقراطية كشريك وحليف سوري لها في القضاء على تنظيم داعش،
وأنشأت قواعد عسكرية للقوات الأمريكية على الأراضي التي تسيطر عليها قسد، وبالتالي اعتمدت الأخيرة على التواجد الأمريكي في منع #الهجوم التركي# على مناطق سيطرتها، وشهدت العلاقات بين أمريكا وتركيا توتراً شديداً خاصة بعد محاولة الانقلاب التركي عام 2016 ورفض أمريكا تسليم فتح الله كولن المنشق التركي المتهم بتدبير الانقلاب، إضافة إلى اعتراض أمريكا على شراء تركيا لمنظومة الصواريخ S400 من روسيا، باعتبار تركيا عضواً رئيسياً في حلف الناتو. واستمر التوتر بين الجانبين حول مدينة منبج التي تسيطر عليها قسد، ورغبة تركيا حينذاك بتطهير المدينة من “وحدات حماية الشعب” التي تعتبرها تركيا امتداداً “لحزب العمال الكردستاني”. وحرصاً على إعادة توطيد العلاقات بينهما خرج الطرفان بنتيجة “خارطة طريق منبج” وافق عليها الجانبان التركي والأمريكي، وتتضمن انسحاب وحدات حماية الشعب من منبج، لكنها لم تنفذ بشكل كامل بحسب تركيا، ما أثار غضب الجانب التركي الذي أعلن عدم دخوله صفقة مشابهة مع أمريكا في المستقبل. وبادر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالإعلان عن عدم تسامحه مع استمرار تواجد قسد على الحدود التركية السورية، وطالب الولايات المتحدة بالموافقة على عقد صفقة من شأنها إزالة تلك القوات من تلك المناطق، مهدداً بأن عدم القبول يعني شن تركيا غزواً واسع النطاق ضد الأراضي التي تحت سيطرة قسد شرق الفرات، وأن تركيا عازمة على إنشاء منطقة آمنة تحتلها على طول الحدود، الأمر الذي اعتبرته أمريكا غير مقبول، لذلك دخلت أمريكا في مرحلة مفاوضات جديدة مع تركيا بشأن المنطقة الآمنة ومحاولة الوصول لاتفاق حول تواجد قسد في شمال سوريا، إلا أن المحاولة باءت بالفشل بسبب إصرار تركيا على المطالبة بمنطقة عازلة عمقها من 30-50كم، بينما اقترحت أمريكا مسافة 5-15كم بحيث تخضع لسيطرة أمريكية تركية مشتركة.
بعد شدّ وجذب بين الطرفين التركي والأمريكي توصل الجانبان في السابع من أغسطس عام 2019 إلى اتفاق مبدئي، من شأنه منع أي عملية عسكرية تركية جديدة في شمال سوريا، وتضمن الاتفاق إنشاء مركز عمليات مشترك من شأنه إنشاء ممرّ سلام على الجانب السوري من الحدود السورية التركية دون البوح بالتفاصيل حول حجم ونطاق الممر. وترفض أمريكا حتى الآن أي توسع تركي في مناطق شرق الفرات، بينما موقفها في غرب الفرات (منبج وتل رفعت) بريف حلب مازال متردداً بين رافض ومحايد، بسبب الوجود الروسي هناك. من جهةٍ أخرى ما تزال تركيا تحاول الحصول على صفقة طائرات F16 ، وهو أمر متوقف على موافقة الكونغرس الأمريكي، وتركيا لا تريد خسارة الصفقة وإغضاب واشنطن في الوقت الحالي، لذلك من المستبعد قيام تركيا بعملية عسكرية شرق الفرات في الوقت الحالي، بينما يبقى التهديد مستمراً على مناطق منبج وتل رفعت بدرجة أكبر، ويعتمد ذلك على التوافق الروسي-التركي أو التركي-الإيراني، وما جرى خلال القمة الثلاثية في يوليو المنصرم، وتجلي موقف إيران من خلال رفضها للعملية العسكرية في تل رفعت، التي تجاور بلدتي النبل والزهراء الشيعيتين، واللتين تهمّان طهران التي دعت تركيا إلى احترام التفاهمات التي توصلتا إليها خلال مفاوضات مسار أستانة. في ظل الأحداث والتوترات التي طالت العلاقات التركية الأمريكية، سرعان ما اتجهت أنقرة لتصفية الأجواء بينها وبين موسكو وكسب ثقتها مجدداً، خاصة بعد إسقاط المقاتلة الروسية عام 2015، ومن ثم تم تشكيل مسار أستانة برفقة إيران عام 2017، والذي نتج عنه اتفاق خفض التصعيد والمصالحة وانسحاب المعارضة من بعض المناطق، وحققت مكاسب للطرفين تدريجياً.
ولعبت روسيا دوراً في تهجين الفصائل السورية المسلحة التابعة لتركيا، والتي أتاحت للأخيرة السيطرة على مناطق ومدن غرب الفرات وشرقه، عبر عملياتها العسكرية المتكررة على المدن الحدودية الجنوبية والتي تقطنها الغالبية الكردية التي يعاديها أردوغان واحتلالها. من جهتها تستغل روسيا عداء تركيا لقوات سوريا الديمقراطية للضغط عليها وجرّها لتقديم تنازلات للنظام، دون حدوث تصادم بين النظام والميليشيات الداعمة له من جهة مع الجيش التركي والفصائل التابعة له من جهة أخرى، وعلى ما يبدو أن قمة طهران الثلاثية خرجت بعملية توافقية مفادها الضغط على قوات سوريا الديمقراطية وإضعافها من خلال استهداف قيادات بارزة بالمسيّرات التركية من جهة، والقصف المدفعي على المناطق السكانية الحدودية لإحداث حالة عدم استقرار في المنطقة وتشتيت القوات العسكرية بين تلك المناطق. سعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإقامة توافق جديد مع بوتين ضمن قمة سوتشي مؤخراً، خاصة بعد الرفض الإيراني للعملية العسكرية التركية بشدة في تل رفعت، بينما الموقف الروسي يؤكد على دعمه للنظام السوري ومحاولته إعادة سيطرة الأخير على الحدود التركية-السورية، وإجبار تركيا على تقديم تنازلات للنظام والاتفاق على إبعاد قسد عن الحدود التركية، لذلك تتمسك روسيا ببنود اتفاقية أضنة بين تركيا والنظام عام 1998 والتي تسمح لتركيا التوغل مسافة خمس كيلومترات فقط داخل الأراضي السورية، بينما تركيا تطالب بما لا يقل عن عمق 30 كم، وقد أيّد ذلك الفصائل السورية المدعومة من تركيا.
فيما لم يُفهم بعدُ أبعاد التصريح الذي أدلى به وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو مؤخراً، والذي أعرب فيه عن جاهزية بلاده لتقديم الدعم السياسي للنظام السوري ومحاربة الإرهابيين ويقصد (قوات سوريا الديمقراطية). ما يمكن تخمينه من هذه التصريحات بأن نقاشاً ثنائياً قد جرى بين أنقرة وموسكو أفضى إلى نتائج وتوافقات جديدة، وقد تنتهي بالعودة إلى اتفاقية أضنة، وربما تكون موسكو قد نجحت في إيقاف العملية العسكرية التركية المرتقبة أو تجميدها لفترة معينة، لحين تتم التنازلات المرتقبة من تركيا والاتفاق على بعض المقايضات التي من المحتمل حصولها، كما حدث في العملية العسكرية على عفرين (عملية غصن الزيتون) التي تم خلالها مقايضة عفرين مقابل انسحاب الفصائل المعارضة الموالية لتركيا من مناطق في الداخل السوري المجاورة للعاصمة دمشق. وتتجه آراء أخرى إلى أن التصعيد العسكري الذي قامت به القوات الحكومية السورية في جبل الزاوية بريف إدلب خلال الأيام الأخيرة، وقصف المنطقة بعدد كبير من القذائف، يرجّح إمكانية إجراء مقايضة روسية تركية، تقضي بسيطرة تركيا على مناطق تل رفعت ومنبج ومنّغ، مقابل سيطرة روسيا على جبل الزاوية. إضافة إلى العديد من التوافقات الأكثر أهميةً للطرفين التي كانت محور تركيز القمة الثنائية. ويتمركز التقارب الروسي التركي حول مصالح اقتصادية وسياسية بين البلدين، واستغلال الرئيس التركي الظروف الحالية والحرب الأوكرانية لمصلحة بلاده، فهناك تقاطع للمصالح بين البلدين منذ بداية الأزمة في سوريا، وصلت لحد المواجهة بعض الأحيان خاصة بعد إسقاط الطائرة الروسية في سوريا، فهناك مواقف متباينة لتركيا مع روسيا، لكن أيضاً هناك علاقات اضطرارية تفرضها التطورات التي حدثت مؤخراً، خاصة فيما يتعلق برغبة روسيا الاستثمار في تركيا، والمواجهات التركية في محور حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة والتصعيد السياسي مع أوروبا فيما يتعلق بملف اللاجئين السوريين، واستثمرت روسيا تلك الأمور لبناء علاقات اقتصادية منها تحويل خط الغاز والاستثمار في تركيا، ودخول تركيا إلى اتفاقية تصدير الحبوب الأوكرانية العالقة في البحر الأسود، إضافة إلى مسألة المفاعل النووي جنوبي تركيا الذي سيلبي 10% من حاجة تركيا للطاقة، وتُعدّ الرغبة بتفاهم اقتصادي مع تركيا نقطة مهمة لروسيا في حديثها مع حلف شمال الأطلسي، وعدم انخراط تركيا بالعقوبات الاقتصادية على روسيا.
تَعتبر روسيا العملية التركية عملية تبادل مصالح، فروسيا تحتاج إلى إعادة فتح المضائق أمام السفن الروسية المتجهة من وإلى البحر الأسود، بالإضافة لفتح ممرات تجارية مع تركيا، والتسهيلات من المنافذ البحرية التركية، لذلك يُستبعد أن يكون التوافق الروسي التركي غالباً على أساس تبادل مناطق النفوذ في سوريا، نظراً لانسحابها من عدة مناطق كانت تتواجد فيها وتسليمها للميليشيات الإيرانية، بينما روسيا لها أطماع أخرى تتجلى في تثبيت نفوذها في الساحل السوري وقاعدة حميميم ومناطق حيوية أخرى.
تُغير السياسات والمصالح الإقليمية والدولية مجريات الأحداث الميدانية على الأرض السورية، واستمرار التهديدات التركية بضرورة القيام بعملية عسكرية تركية جديدة في الآونة الأخيرة، يوحي بوجود توافقات جديدة بين الأطراف الفاعلة في سوريا، ومن الواضح أن تركيا تستغل الظروف الدولية الحالية لصالحها ولتحقيق مصالحها، وقد تكون العملية العسكرية في طريقها للبدء حسب المعطيات والتحركات على الأرض، بالإضافة لمواقف تلك الأطراف على الأرض السورية لا سيما روسيا التي تواجه ضغوطاً قد تدفعها للقبول أكثر بمقايضة مع تركيا، مع احتمالية قبولها بعملية عسكرية في الشمال السوري في غربي الفرات تحديداً (منبج وتل رفعت)، بمقابل الاستحواذ على مناطق جديدة في ريف إدلب الجنوبي وبالتحديد في منطقة جبل الزاوية، وتبقى بذلك سوريا مشاعاً للتوافقات والمقايضات الدولية والإقليمية.[1]