إنّ المقارباتِ التي تَتَّخذُ الثقافةَ والحضارةَ أساساً لها محدودةُ النطاقِ في التاريخ. والموجودةُ منها هي ذاتُ وجهاتِ نظرٍ مختلفة. أما القضايا التي نسعى لتحليلها هنا، فلا نطرحها بالارتكاز إلى الأسسِ الثقافية والحضارية. ذلك أننا مرغَمون على تقييم مكانِ الثقافة والحضارة وزمانهما في سياقِ التطورِ الحضاري نسبةً إلى مساهماتِهما، مع أخذِ أهميتِهِما الحيويةِ بعينِ الاعتبار. وفي حال العكس، فالتاريخُ الذي بين أيدينا لن يتضمن معانٍ أَبعد من “أكداسِ أحداث” (وهذا ما يحصل غالباً). ماهيةُ عِلمِ التاريخ المُعيقةُ للمعرفة – بدلاً من أن تكون تعليمية – هي على صلةٍ وثيقة بهذه الخاصية. فسردُ التاريخِ على أنه محض انسكابٍ تعداديٍّ متوالٍ لظواهر مختلفةٍ كالدين، السلالة، المَلِك، الحربِ والقومِ وغيرها؛ وبدلاً من أنْ يفيدَ في تعليمِ التطور الاجتماعي، فإنه يعبرُّ عن المساعي الأيديولوجيةِ التي تهدف إلى إسدالٍ متَعَمَّدٍ للستارِ عليه بغيةَ إعاقةِ تَعَلُّمِه، وترمي إلى إعدادِ الذاكرةِ المجتمعية وفق مشيئةِ أصحابِ السلطة والاستغلال. وهذه الأنماط من السرود ليست سوى أدواتٍ دعائية متبقية من القديم الغابر، وتُستَخدَمُ بهدفِ تأمينِ الشرعية وتأسيسِها على ركائز أيديولوجيةٍ بنسبةٍ مُعَيِّنةٍ قصوى.
لنُوَسِّعْ من نطاقِ تحليلاتنا قليلاً، مع الالتزامِ برأينا بشأنِ الأسلوب ومنهجِ المعرفة. فإحدى الانتقاداتِ الأخرى الموجَّهةِ إليَّ حول تسميةِ “المجموعة اللغويةِ الثقافية الآرية”، هو الزعمُ باحتمالِ أنْ تفوحَ منها رائحةُ “العنصرية”، لأنّ هتلر أيضاً استخدم المصطلحَ نفسه على حدِّ زعمِهم. علينا القول لأمثالِ هؤلاء: إنَّ لفظَ “الاشتراكية” أيضاً موجودٌ في اسمِ حزبِ هتلر. فهل علينا إذن التخلي عن الاشتراكية بالزعم بأنه تفوح منها رائحةُ العنصرية؟ بَيْدَ أنَّ الفاشيةَ ضليعةٌ إلى أقصى الحدود في مساعيها “الديماغوجية”، باستخدامِها الكثيرَ من المصطلحاتِ العلمية والأيديولوجيةِ بنجاح باهر. على كلِّ حال، فنحن لسنا مرغَمين على التخلي عن العِلمِ والأيديولوجيا لأنها فعلت هكذا.
ومثلما أنَّ الجنوحَ للنزعةِ القوموية ذاتِ الأصول اللغويةِ والثقافية الآريةِ لم يَخطرْ ببالي ولو بمثقالِ ذَرَّة، فإني أبيِّن – وبكلِّ افتخارٍ واعتزاز- أني أحدُ الصائغين لأكثرِ الشروح معنى ووزناً في وجهِ القوموية. وإذا كنا نتطلع إلى فهمِ الفواجعِ المُعاشةِ في العراقِ اليوم، فعلينا أولاً الاعتراف بإفلاسِ علومنا التاريخية والاجتماعية المعمول بها حتى الآن. بعدَها فقط يحقُّ لنا الانتقادُ وتقديمُ الاقتراحات التاريخية والسوسيولوجية الجديدة. وما نسعَى لعمله هنا، ليس سوى تقديم مساهمةٍ متواضعة لفهمِ هذه المأساةِ البشريةِ وتجاوُزِها.
لذا، إني مضطرٌّ لتخصيصِ حيز، ولو بالخطوط العريضة، لهذا الموضوع الذي حاولتُ سردَه بإسهابٍ في مرافعتي “من دولةِ الكهنةِ السومريين نحو الحضارة الديمقراطية”:
آ إننا نقول أنّه للمجموعةِ اللغوية الثقافية الآرية دور في تكوينِ اللغةِ الرمزيةِ وفي تشكيل الركيزةِ الأوليةِ للبنيةِ التحتيةِ لثقافةٍ جذرية. هذا أمرٌ مرتبطٌ بالشروط التاريخية والجغرافية. وتُعبرِّ فترةُ ما بين أعوام 10000 ق.م– 4000 ق.م على وجه التقريب عن “الحقبةِ الطويلة” التي نَضَجَ فيها تمأسُسُ هذه اللغةِ والثقافة. حيث اخترُعت شتى أنواع الفخاريات، المحاريثِ الزراعية، طقومِ الحيوانات، العجلات، آلاتِ النسيج والحياكة، والمطاحنِ اليدوية؛ علاوةً على تمأسُسِ الفن والدين آنذاك. أما وفرةُ الغِلالِ النباتية والحيوانية، فكانت سبباً في الزيادة الملحوظة للتعدادِ السكاني. هذا ولا يَقتصرُ الأمر على صُنعِ الفؤوس، السكاكين، الطواحين، العجلات، والأبنيةِ المعماريةِ وغيرهِا من الآثار الفنية والدينية باستخدامِ الحجارةِ المنحوتةِ والمصقولة بشكلٍ حديث فحسب. بل وتُصنَع من المعادنِ أدوات أكثرَ نفعاً ويُسراً في المرحلة المسماة بالحقبةِ الكالكوليتية(1). ولا نبرح نصادف هذه الأمثلة الجمة في راهننا أيضاً. هذا وعُثرِ في مراكزِ حفرياتِ منطقةِ برادوست(2) الواقعةِ على حوافِّ جبالِ زاغروس، وفي الحفرياتِ الجاريةِ في جايونو(3) وتلك الجاريةُ مؤخراً في غوباكلي تبه(4) القريبة من أورفا؛ على أمثلةٍ معمارية دينيةٍ ومنازل مصنوعةٍ من الحجارة الضخمة المنحوتة بنحوٍ مذهل، وعلى العديد من الأدوات المصنوعة من الحجارة المعدنية؛ والتي ثَبُتَ رجوعُ جميعها إلى ما قبلِ أحدَ عشرَ ألفِ عام.
إنَّ هذه الأدواتِ الثقافيةَ ومجموعَ المفرداتِ المعبرِّةِ عنها، والتي لا ينفكُّ الشعبُ الآهل هناك يستخدمها اليوم، تُسَلِّطُ الضوءَ كفايةً على هويةِ منطقتها النواة. فالمفرداتُ: جَيو Ceo غيو Geo(مكان)، أرد Erd (أرض، تربة، حقل)، ژن Jin (امرأة، حياة)، روژ Roj (شمس)، برا Bra (أخ)، مُر Mur (موت)، صُول Sol )حذاء(، نَيو Neo (جديد)، غا Ga (ثور)، غران Gran (كبير، ثقيل)، مَش Meş (مشي)، خُودا Guda )رب)؛ وغيرهُا من عشراتِ المفردات التي يمكننا تعدادها، والتي لا تزال تُستَخدَم في العديد من اللغاتِ الأوروبية؛ إنما تُنير لنا موضوعَ النبعِ العين. هذه الألفاظ، التي ما تزال دارجةً كجذرٍ وطيدٍ في لغاتِ مجموعاتِ الشعوب الأصيلة العريقة (أقدمِ الشعوبِ الآهلة( الشهيرةِ كالكردِ والفُرسِ والأفغان والبَلُّوجيين(5)؛ تُبرهِن على أنَّ مَنبعَ المجموعة اللغوية والثقافية الآرية ليس في أوروبا والهند، بل أنّ العكسَ هو الصحيح. حيث كانت أوروبا تمُرُّ ب “العصر الحجري القديم”(6)، في حين كانت بلادُ الهند تشهدُ عصراً مشابهاً خلال حقبةِ هذه الثقافةِ التي بإمكاننا إرجاعُ أصولها التاريخيةِ إلى ما قبل اثني عشرَ ألف عام تقريباً، وذلك انطلاقاً مما يمكننا العثورُ عليه ضمن الوثائقِ والمخطوطاتِ السومرية المدوَّنة، واعتماداً على ما أَثبَتَته الحفرياتُ الأثريةُ الجاريةُ في مراكزِ العديد من المناطق. إننا في وضعٍ يُخوِّلنا للإشارة – وبكلِّ سهولة – إلى أنَّ تمأسُسَ اللغةِ و#الثقافة الآريةِ# قد ترَسَّخ، وأنه اخترُعَ طيلةَ هذه “الفترة الطويلة” ما لا يَقُلُّ عن نصفِ مُعِدّات وأدواتِ الحياة الأساسيةِ التي تقتات عليها البشريةُ اليوم. وفيما خلا هذه الأمثلةِ التي ذكرناها سابقاً مما يتواجدُ في بعضِ المراكز، لا تفتأ الآلافُ منها مطمورةً تَنتَظِرُ التنقيبَ والحفر. علاوةً على أنّ مجموعاتِ الشعوب المنحدرةِ من العهودِ الغابرة، والتي لا تَبرَحُ تصونُ وجودَها في راهننا، إنما هي مراكز أثريةٌ حية؛ حيث نَلمَسُ وجودَ هذه الشعوبِ (اختلافَها الأثنيَّ( كهويةٍ تعود إلى ستةِ آلافِ عام قبل الآن بأقلِّ تقدير. مرةً أخرى عليَّ التنويهُ إلى أنَّ عِلمَ التاريخ سيبقى يعاني القصورَ والنواقص الجديَّة، ما لم يُعبرِّ عن معاني المجرياتِ والوقائع القائمة في مركزِ هذه النواةِ الثقافية (الهلالِ الخصيب) بكافةِ أبعادِها.
ب لا يمكننا التغاضي عن منزلةِ اللغةِ والثقافة الساميّة كفرعٍ جانبيٍّ مهم. ما من شكٍّ في غنى هذه البنيةِ اللغوية – الثقافية التي كوّنت فروقاتها المميّزة في نفسِ المرحلة من وجهةِ النظر التاريخية. وربما كانت أغنى وأرقى من المجموعة اللغوية – الثقافية الآرية من جهةِ كونها ثقافةً رعويةً وقَبَليّة. حيث نلمَسُ آثار ذلك في المخطوطات السومرية، التي تَتحدث بلغة ملحمِية عن الصراعات والمنافسات الجارية بين أصولِ الرعيِ والزراعة على نحوِ فرعَين أساسيَّ ين. لَكَمْ هي شبيهةٌ بعراقِ اليوم! إنَّ البنيةَ المَلحَمِيَّةَ في لغتها وثقافتِها راقية. وانطلاقاً من مزايا الصحراء الرتيبة، فقد يتزامن نشوءُ إلهِ السموات “ألEl ، الله Allah مع هذه المراحل. ومن المحتمل أنه جرى تبجيلُ الهويةِ الأولى المتمايِزة والخارقة للمجتمعِ القَبَلِيّ، ورفعُ شأنِها عالياً؛ والوصولُ ب ذلك إلى اصطلاحٍ مقدَّسٍ متجسدٍ في “أل، الله”. لذا، باستطاعتنا دعمُ تفسيرِ دوركايم لمصطلحِ الإله بكونه “هويةً مجتمعية”، وتأييده بمثالِ “أل، الله” كحجةٍ قوية. من المُعتَقَدِ أنَّ اصطلاحاتِ ومؤسساتِ “الشيخ، السيد” قد تكوَّنَت مبكراً في الثقافة الساميّة، لتتحول في عصر المدنية إلى مؤسساتِ “النبي، الأمير”.
لا نَلحَظُ أيَّةَ مساهَمَةٍ للثقافةِ الساميّة في الحضارةِ المصرية الفرعونية، رغمَ احتلالِ هذه الحضارةِ مكانَها في حقلِ الثقافةِ الساميّة. إذ لا نعثر على أيةِ إشارةٍ ملموسةٍ في أيةِ مادةٍ أو مصطلحٍ أو مؤسسةٍ تدل على فتحِ الثقافةِ الرعويةِ الطريقَ لثقافةٍ حضاريةٍ مدينيةٍ كهذه في أعوام 4000 ق.م. وبالأصل، فالوثائقُ التاريخيةُ أيضاً تشيرُ إلى أنّ مصرَ اعتَبرتَ هذه الثقافة دخيلةً عليها. كما أنه ما من شَبَهٍ بينهما في البنية اللغوية أيضاً. فالثقافةُ الساميّة تحتلُّ مكانَها في التاريخِ المكتوب حوالي أعوام 2500 ق.م ضمن المستوِيّاتِ الأولى عبرَ الهوياتِ الأكادية، البابليةِ، الآشورية، الكنعانية، والإسرائيلية. في حين تظهر الهويةُ العربية بوضوح بعد ذلك بكثير، أي حوالي أعوام 500 ق.م. أما “الآراميون” و”العابيرو”، فهما اصطلاحان سومريان ومصريان على الأرجح. يمكنُ النظرُ بعين الاحتمالِ الراجحِ إلى انصهارِ المجموعاتِ القاطنةِ في فينيقيا(7) وفلسطين، بل وحتى في إسرائيل، داخل بوتقةِ اللغة والثقافة الساميّة فيما بعد (كالثقافة المصرية الفرعونية). كانت ثقافةُ شعوبِ البحرِ تلك والثقافةُ الآريةُ متداخلتَين في البداية. هذا وثمة دلائل تشير إلى زوالِ الحالاتِ الطبيعية الأولى لتلك الأقوامِ في خضمِّ موجاتِ الهجرةِ الساميّة.
إنَّ المصادر السومريةَ والسجلاتِ الأركولوجية، وكذلك بعضَ البقايا الأثريةِ العريقة التي لا تزال تحافظُ على وجودِها، تُزَوِّدُنا بالدلائل الجمةِ المشيرةِ إلى هجومِ الساميّين على ساحةِ اللغة والثقافة الآرية، أو هجرتِهِم إليها على موجاتٍ متوالية. حيث بالإمكانِ إرجاعُ حملاتِ الغزوِ والاستيطانِ تلك إلى أعوام 5000 ق.م. نخص بالذكر في هذا المضمار بالتسلسل: المستوطناتِ الأكاديةَ والبابليةَ والآشوريةَ والآراميةَ والعربية، والتي تَرَكَت بصماتِها في ميزوبوتاميا العليا على شكلِ طبقاتٍ واضحة. إلا أنَّ التأثيراتِ الآشوريةَ والعربيةَ هي الأكثر قوةً وبروزاً من غيرها. في حينِ أنَّ العربَ شرعوا بإطلاقِ حملةِ صهرٍ مُرَكَّزَةٍ تزامناً مع ظهورِ الدين الإسلاميّ ، بحيث تشابكَت ظاهرتا الأسلمةِ والتعريب. وقد أبدَت الثقافةُ واللغةُ الآرية مقاوماتٍ باسلة، بالإضافة إلى أنها سَجَّلَت نجاحاً مظفَّراً بين الحين والآخر إزاءَ حملاتِ الغزوِ والاستيطان والصهر تلك. يمكننا ذكر مؤسِّسي الحضارةِ السومرية، ورُوَّادِ الحضارة المصرية، والهكسوس(8)، والعبريين كأمثلةٍ مشهورةٍ في هذا الشأن على طولِ التاريخ. إنّ التفسير الأقرب إلى القبول، هو أنَّ الرُّوَّادَ السومريين الأوائل هاجروا إلى ميزوبوتاميا السفلى في عهدِ تل حلف(9)(6000 ق.م– 4000 ق.م) – الذي يُعَدُّ العصرَ الذهبيَّ للثقافةِ الآريةِ النواة في ميزوبوتاميا العليا – لينقلوا معهم هذه الثقافةَ إلى هناك، ويطبّقوا عليها التعديلَ لبلوغِ مستوى أرقى. من المعلوم تماماً أنّ التأثيراتِ الأكاديةَ والبابليةَ والآشوريةَ أُدرِجَت لاحقاً في تكوينةِ البنيةِ اللغوية والثقافيةِ السومرية.
إن اقترانَ السومريين بتسميةِ التوسع الثقافيِّ لعهدِ تل حلف، عوضاً عن تسميتهم بالمجموعاتِ المهاجرة، سيساهم في فهمِ التاريخ بنحوٍ أقربَ إلى الصواب. قد تَكون بعض المجموعات هاجرَت من الساحةِ الثقافية الآرية، إلا أنَّ العامِلَ الأصليَّ المؤثِّرَ بالأغلب هو انتشارُ الثقافة التي كانت تعيش عصرَها الذهبيَّ في تلك الأزمنة (على الصعيد الكوني). أما البحثُ عن تأثيراتِ آسيا الوسطى أو القفقاس هنا مثلما يُزعَم أحياناً فهو ضرب من الهذيان. لأن تلك المناطق كانت ما تزال تعيش العصرَ الحجري القديمَ أثناء عهدِ النشوء السومري (أعوام 5000 ق.م)، وتتعرَّف لتَوِّها على الثقافة الآرية. كما أنها لا تتضمن أيةَ عوامل ثقافية سواءٌ من حيث المضمون أو الشكل تمُكِّنها من تغذيةِ ثقافةٍ غنيةٍ وراقيةٍ جداً كالثقافة السومرية. في حين أنَّ قوتهم الهجومية ما تزال بعيدةً عن إحرازِ التقدم الذي يُخَوِّلُهم لتجاوز الحزام اللغوي والثقافي الآري. ونظراً لعدمِ صحةِ التفكير بصفاءِ ونقاوةِ ثقافتهم، بسببِ احتمالِ التداخل المستمر في هذا الشأن؛ فبالإمكانِ التفكيرُ باحتمالِ أنْ تَكُونَ بعضُ العناصرِ المنتميةِ إلى بلادِ القوقازِ وآسيا الوسطى قد نزحَت إلى الشريطِ السومري والهلال الخصيب، الذي كان شبيهاً بأوروبا زمانِه أو بأمريكا اليوم. وبطبيعةِ الحال، فالكثيرُ من المجموعات الثقافية المتباينة، وأغلبها من الفقراءِ البؤساء، تَتَّجِهُ اليومَ من جهاتِ المعمورة الأربع صوبَ أوروبا لتستقرَّ فيها. فكيفما أنَّ الثقافةَ الأوروبيةَ الراهنة تنتشر اليوم في كافةِ أرجاءِ العالم، فإنّ اللغة والثقافة الآرية أيضاً مَنَحَت فُرَصاً شبيهة بالانتشار، وبالأخص بعد مرورها بالمرحلةِ المؤسساتيةِ والانفجار السكاني (في عهد تل حلف على وجهِ التخصيص6000 ق.م– 4000 ق.م). أما الهجراتُ المتجهة إلى أعماقها، فيمكن تشبيهُها بهجراتِ الكادحين البؤساءِ صوبَ أوروبا اليوم.
ج مِن الأهميةِ بمكان صياغةُ تفسير سليمٍ للتطوراتِ الحاصلةِ في وادي النيل كساحةٍ ثقافية مهمة. فالرقيُّ بالثقافةِ الزراعية في هذا الوادي، ونَقْل ها إلى الحضارة المصرية الفرعونية، أمرٌ لا ينسجمُ مع البنيةِ اللغويةِ والبنيويةِ للثقافة الساميّة، نظراً لافتقارها لهذه المهارةِ مِن حيث المضمونِ والمحتوى. بل إنَّ البنيةَ اللغوية المصريةَ تُقَدِّمُ اختلافَها بعدمِ احتوائها لأيةِ عناصرَ ساميّةٍ بتاتاً. أما الثقافات المتواجدة في السودان وإثيوبيا وغيرهما من الأصقاع الأفريقية الجنوبية؛ فلا تزال بعيدةً آنذاك عن تَخَطِّي العصرِ الحجري القديم. بالتالي، فمِن غيرِ الواردِ نظرياً أنْ تمُهِّدَ الطريقَ للثقافة المصرية. أو بالأحرى، لا يتم التفكير بذلك إطلاقاً. كما لا يمكن التصور ولو نظرياً بأنَّ المجموعاتِ المهاجرة، التي تُعَدُّ امتداداً للقبائل الأفريقية، قد أنجزَت أيَّ تقدمٍ ملحوظٍ في وادي النيل خلال مدةٍ طويلةٍ من الزمن. من هنا، فهي بحاجةٍ ماسة لغِلالِ الثورة الزراعية ونتاجاتِها وأدواتِها. هذا ولا نَعثر على أيِّ أثرٍ يدل على أنَّ أيَّ نباتٍ زراعيٍّ ناشئٍ في الهلال الخصيب ينمو تلقائياً ضمن أراضي وادي النيل. كما لا نعثر فيه على أيةِ أمثلةٍ من الكائنات الحيوانية، فيما خلا الحِمارِ المصري.
إنَّ الفرضياتِ النظريةَ تدعونا إلى التفكير بأنَّ أحد فروع الثقافةِ الآرية المنتشرةِ في عمومِ العالمِ قد وصلَ هذه المنطقة في نفسِ المرحلة. هذا وعلينا عدم النسيان بأنَّ “الأخدودَ الكبير” بأفريقيا الشرقية قريبٌ إلى النيل، وأنَّ تدفق البشر من الشمال صوب الجنوب أمرٌ ممكن، بل ووارد، بقدرِ التدفق من الجنوب نحو الشمال. والثقافاتُ المتفوقة قد حَمَلَت تأثيراتِها المتبادَلة على الدوام عبر هذه الطرق القديمة. فمثلما أدى الانفجارُ الثقافي في الهلال الخصيب إلى نشوءِ الثقافة السومرية، فإنَّ تزامنَ الحضارة المصرية مع أعوام 4000 ق.م قد يَكُونُ دليلاً على ارتكازِها إلى موجةِ الانتشار التي شهدَتها الثقافةُ الآريةُ مع التوجهِ صوب أعوام 5000 ق.م. فمزاياها من حيث المضمون والشكل، وفرصُ التنقلِ والتواصلِ مساعِدةٌ على ذلك. وبطبيعةِ الحال، فإنَّ تأسيسَ المستوطناتِ في مصر من قِبَلِ الهكسوس في بداياتِ أعوام 2000 ق.م ثم على يد العبريين في أعوام 1700 ق.م (حسبما يُسَجِّلُ التاريخُ المدوَّن)، بل وَرُقِيَّهم إلى المراتبِ الإدارية فيها؛ تُعَدُّ أمثلةً تؤكِّد صحة فكرتنا هذه. ورغمَ تناقُصِ قوةِ انتشارِ الثقافة في الساحة الآرية مع مرورِ الزمن، إلا أنها ستواصلُ تدفقها فيما بعد بنحو مشابِهٍ نحو الساحات الساميّة.
د بعدما أَثبَتَت الثقافةُ الآرية جدارتَها وأنجزَت تمأسُسَها الوطيدَ في الهلال الخصيب، غدا انتشارُها صوبَ الشرق أكثرَ تأثيراً، وبالأخصِّ نحو ما يسمى اليوم ببلادِ إيران، أفغانستان، باكستان، والهند. أُشَدِّدُ تكراراً على أنَّ ما يَنتَقِلُ هنا هو الثقافةُ أكثرَ من أنْ يكونَ مجموعاتٍ بشرية. إنه انتقالٌ للتأثيراتِ الثقافية، لا الجسدية. والانتقالُ الثقافي، الذي نَتَلَمَّسُ أولى مَعالِمه في الهضاب الإيرانية خلال أعوام 7000 ق.م، يُشرِعُ بالانتعاش في بلادِ الهند حوالي أعوام 4000 ق.م. في حين أنَّ هذه التأثيراتِ تَعودُ إلى أعوامِ 5000 ق.م ضمن الهضاب التركمانية. يُعتَقَد أنَّ التراكماتِ الثقافيةَ السابقةَ لها ليست سوى عناصر منحدرة من الأصول الأفريقية القديمة، ولا تزال مُتَسَمِّرَةً في العصر الحجري القديم. ذلك أنَّ البقايا الثقافيةَ والبنى الجسديةَ لبعضِ المجموعات )وبالأخص في الهند) تُعَزِّزُ صحة هذا الطرح. كما أنه ما مِن براهين نظرية أو عملية تدل على التطور الثقافي كثمرةٍ للتطورات المحلية هناك، تماماً مثلما الحال في مصر وسومر.
حتى ولو أنَّ بعضَ النُّقَّادِ يعتَبرون هذا النمطَ مِن الفكرِ اختزالياً مفرطاً، إلا أنه من الضروري والمهمِّ بمكان التذكيرُ بأنَّ الثوراتِ الثقافيةَ في التاريخِ محدودة، وأنها تَتَحَقَّقُ بصعوبةٍ بالغة. لنتأمل الثقافةَ الأوروبية مثلاً، حيث لا مثيل لها في أيِّ مكانٍ آخر. من هنا، فإنَّ طَرحَ فكرةٍ مشابهة بشأنِ الثقافة في الهلال الخصيب نسبَةً لتلك الأزمنة، أمرٌ صائبٌ إلى أقصى درجة. ذلك أنَّ انتظارَ ثورةٍ ثقافيةٍ عظمى من المجموعاتِ المتسمرةِ في العادات والتقاليد العائدةِ إلى ما قبل مئاتِ الآلاف من السنين، والتي بَلَغَت حافة الزوال، واعتبارَ ذلك استحقاقاً لها؛ لا يمكن تأييدُه البتة، سواء نظرياً أو من حيث البقايا الثقافيةِ الموجودة. أما الانتشارُ الثقافيُّ الحاصلُ في أعوامِ 3000 ق.م، والمتجِهُ صوبَ الشرق إلى منطقةِ عيلام(10) غربي إيران، فكأنه حَقَّقَ نقلةً نحو حضارةٍ مركزُها سوس(11)، التي هي أَقرَب بالأرجح إلى مستوطنةٍ سومرية. إنّ هذه الحضارةَ هي حصيلة التأثيرِ السومريِّ دون شك. وبالسير نحوَ الشرق، فسنجد أنَّ تأسيسَ مدينتَي هارابا وموهانجادارو(12) الواقعتين على شواطئِ نهرِ بينجاف(13) (بنجاب) في باكستان الحالية، يُجاري أعوامَ2500 ق.م. واضحٌ أنَّ هذه الكياناتِ سارت على خُطا السومريين. ولأسبابٍ مشابهة، يجب عدم اعتبارِها كياناتٍ أصيلةً لبنى ثقافيةٍ أخرى اعتماداً على النظريات القسرية. فعندما يكون المستوى الثقافي الذي يزعَم أنه أصيلٌ أقربَ إلى ما هو عليه “العصر الحجري القديم”، فإنّ اشتقاقَ حضارةٍ أصيلة منه أَشْبَهُ بتَصَوُّر الحِمارِ حِصاناً. ولاستيعابِ فكرتنا هذه على منوالٍ صحيح، فسيكون من الناجع استذكارُ آلافِ المجموعات القاطنة في المناطق الجغرافية الأكثر رُقِيّاً، والباقيةِ في مستوياتِ حياةٍ رتيبةٍ طيلةَ ملايين السنين؛ وإدراكُ أسبابِ عجزها عن إبداعِ حضارةٍ أو إنجازِ ثوراتٍ ثقافيةٍ عظمى.
لا ريبَ أنَّ هذه المناطقَ أسهَمَت في التطورِ الثقافيّ، وحقَّقَت العديدَ من التركيباتِ الجديدة. إذ غالباً ما يحصلُ الانتشارُ والاستقرارُ طوعياً وبالتداخل. بَيْدَ أنَّ المنتشِرَ هنا هو القيمُ الإنتاجيةُ المادية والمعنويةُ المحقِّقةُ للتطور، لا المجموعاتُ الاستعمارية. والثقافاتُ المنتشرةُ التي أَثبَتَت جدارتَها في هذا الاتجاه، اعتُبرِتَ على الدوام “معجزاتٍ مقدَّسَةً وهِبَةً من الإله”. مِن المهمِّ عدم الخلطِ بين انتشار الثقافات التي تسمو بقيمِ الحياة المادية والمعنوية، وبين الصهرِ المعتمدِ على الاستيطان والاستيلاء والعنف. ذلك أنَّ القليل النادرَ من حالاتِ الانتشارِ الثقافي حدثت على شكلِ غزواتٍ وحشيةٍ أو استعمارٍ أو صهرٍ إرغاميّ . في حينِ أنَّ الغالبيةَ الساحقةَ منها تَقَبَّلَتها المجموعاتُ الأخرى بحماسٍ وعنفوان، وتمَثَّلتها، نظراً لإثبات تَفَوُّقها من حيث مستوى الحياة. أما موضوعُ التوسع الثقافي، فقد أُقحِمَ في مأزقٍ مسدودٍ من خلالِ المواقفِ التي تتناولُ التاريخَ بمنظورٍ قومويٍّ ضيق. لذا، فإنَّ عدمَ الوقوع في مصيدةِ القوموية، التي تُحَرِّف مجرى التدفقِ التاريخي، وتحجبه، وتنكره، وتُضَخِّمه؛ يتميزُ بأهميةٍ قصوى من حيث الأسلوبِ ونسق المعرفة.
ﮪ يَلُوحُ أنَّ المقارَنَةَ بين الثقافةِ الآرية والثقافاتِ الصينية الأمِّ موضوعٌ غريبٌ ومثير، بحيث يستحق البحثَ العميق. إذ، يُعتَقَدُ بل ويُبرَهَنُ على أنَّ الصين بَلَغَت بثقافتِها الطَّورَ الأعلى مِن العصر النيوليتي في أعوامِ 4000 ق.م. وإذا وضعنا انتقالَ الثقافة الآرية من أوروبا إلى الهند في نفسِ التواريخ نُصبَ العين، فسنستطيعُ القولَ بانتقالها اليسيرِ إلى الصين أيضاً كأطروحةٍ وطيدة. يُرَجَّحُ احتمالُ كونِ الثقافةِ الصينية اقتاتت على الثقافة الآرية. إلاّ أنَّ جغرافيَّتَها على وجهِ الخصوص (سواحل النهر الأصفر)، وشروطَها التاريخيةَ المنطويةَ على ذاتها إلى أبعدِ حد، وبنيتَها الخاصةَ بها قد مَنَحَت التطورَ المحليَّ مكانةً أساسية. التأثير موجود حتماً، إلا أنَّ المزايا الثقافيةَ المحليةَ مَهَّدَتْ لثورةٍ “نيوليتية” تُحاكيها وتُجاريها، تماماً مثلما حالُ الصين اليوم. فكيفما أنَّ التطوراتِ التاريخيةَ العظمى المنجَزَةَ تماشياً مع الشروطِ الجغرافيةِ والديموغرافية(14) قد أَسفَرَت عن “شيوعيةٍ” خاصةٍ بها؛ فقد تمَخَّضَت عنها أيضاً “رأسماليةٌ خاصةٌ بها”. إذ مِن غيرِ الممكن أنْ تتحولَ الشيوعيةُ والرأسماليةُ إلى “شيوعيةِ الصين” و”رأسماليتِها”، ما لم تلتحما مع طبائعِ الصين. أما الخصائصُ الأوليةُ للأقوام المندرجة في المجموعة الثقافية الصينية الأساسية) اليابانيون، الكوريون، الأتراك، المغول، الفييتناميون، وغيرهم(، فتتجَسَّدُ في الصمود الصارم تجاه الخارج، والانعطافِ إلى قبولِ ثقافةِ المنافَسة على نحوٍ قويٍّ وسريعٍ في حالِ الفَشَل. وبقدرِ جوانبِها في التصدي العتيد، فإنّ مهاراتِ التقليدِ والمحاكاة والامتصاص على نحوٍ استثنائي تلازِمها وتقترن بها. يبدو أنَّ هذا الأمرَ يعدُّ خاصيةً مشترَكةً وعميقةً في ثقافاتهم.
انتقلت الثقافةُ النيوليتية والمرحلةُ الحضارية اللاحقة إلى عناصرِ المجموعاتِ الأخرى عبر الصين. قد يكون تشبيهُ الصينيين ضمن مجموعاتهم بالعرب الساميّين أمراً منيراً. فالمجموعةُ الثقافية الصينيةُ أيضاً – مثلما هي حالُ الثقافة الساميّة تماماً – عَجِزَت عن إبداءِ قدرتها في أنْ تتميزَ بالكونيةِ التي شهدَتها الثقافةُ الآرية. في هذه الحال، فسيكون من الناجع ترتيبُ الأمر ليَ كُونَ الآريون في المرتبة الأولى، يليهم الساميّون، ومن ثَمَّ الصينيون.
و يتميز تسليطُ الضوء على العلاقات بين المجموعةِ اللغوية والثقافية الآرية والمجموعاتِ اللغوية والثقافية الهندوأوروبية بأهميةٍ قصوى. بل وربما كان مِن أهمِّ القضايا الأوليةِ لعِلمِ التاريخ، نظراً للكثيرِ من المغالطات الزائفةِ بحقها، ولكونها الحلقةَ المبهَمة التي عَجِزوا عن إيجادِ تفسيرٍ مشتركٍ لها. فعندما أُدرِكَت شراكةُ مجموعةِ اللغةِ الآريةِ مع المجموعةِ اللغوية الهندوأوروبية في القرن التاسع عشر، بدأ الشروعُ ببحوثٍ عظمى بصددها، وبُودِرَ إلى طرحِ شروح متضاربةٍ حولَ المنبعِ الأصل لهذه المجموعات، أي حول “اللغةِ والثقافة الأصل”؛ لتَبرزَ مداولاتٌ تُرجِعُ جذورَها إلى الثقافة اليونانية، وأخرى إلى الهند، بل وإلى ثقافةِ أوروبا الشمالية، وبعضها تُرجِعُها إلى الألمان. إلا أنَّ كلَّ هذه الفرضياتِ ذَهَبَت أدراجَ الرياح عندما ثبُتَ بالحجج القاطعةِ موضوعُ الانقطاعِ عن الثدييات البدائية في “الأخدودِ الكبير” بأفريقيا الشرقية، وموضوعُ الثورةِ الزراعية النيوليتية في الهلال الخصيب؛ لتكتسب هاتان البؤرتان الأساسيتان أهميةً عظمى في التاريخ البشري. وكنا قد سَعَينا لسردِ مُوجَزِ ذلك سابقاً.
اكتسبَت النقاشاتُ بشأنِ تحديدِ المجموعة اللغوية والثقافية الأصيلة في الهلال الخصيب أهميةً كبرى. فَبرَزَت أولويةُ المجموعات الكرديةِ البدائيةِ المُسَمّاةِ بالمجموعات “الآرية”، وكذلك المجموعاتِ الفارسية والأفغانية والبلوجيةِ بما يتوافقُ مع تفسيرنا. نخص بالذكر في هذا المضمار موضوعَ الجزم بانتماءِ الثقافة واللغة الآريتَين المرتكزتَين على الشعوب الأصًيلة، عندما فُكَّت رموزُ البنية اللغوية للهوريين الذين هم كُردٌ أوائل. فالطرح الذي اقتَنَعتُ أنا أيضاً بصحتِه، هو أنّ المنطقةَ النواةَ للثورة النيوليتية هي القادرةُ دوناً عن غيرهِا على إبداع مِثلِ هذه اللغة والثقافة. وقد تَمَّ الجزمُ بأنَّ هذه المنطقةَ النواةَ هي فِعلاً القوسُ الذي تَرسمُه سلسلةُ جبالِ طوروس – زاغروس، أي المنطقةُ المسماةُ بالهلالِ الخصيب، والتي شَكَّلَت مركزَ ولادةِ اللغة والثقافة الآرية. وجميع الحفريات الأثرية والفعاليات الأتيمولوجية والمقارَنات الأثنولوجية الحاصلة مؤخَّراً تُعَززُ صوابَ هذه الأطروحة تدريجياً. هكذا تَمَّ حَلُّ القسمِ الأعظم من قضية المنبعِ الأمِّ الذي كان الدليلَ الرائدَ للمجموعاتِ اللغوية والثقافيةِ الهندوأوربية.
ونظراً لكونِ “الفترة الزمنية” طويلةً جداً، والجغرافيا شاسعة؛ فمِن غيرِ المعقول رسمُ خريطةِ تَوَسُّع اللغة والثقافة الآرية وانتشارها كما هي. رغم ذلك، فمن اليسير القولُ أنَّ التوسعَ صوب الجنوب والشرق قد جرى بشكلٍ مشابهٍ صوب الشمال والغرب أيضاً باتجاه أوروبا. والرأيُ المُجْمَعُ عليه عموماً، هو أنَّ موجاتِ الانتشار هذا، الذي يُخَمَّن بِدءُه حوالي أعوام 5000 ق.م، قد حصلت نحو أوروبا الشرقية في أعوام 4000 ق.م، ونحو أوروبا الغربية في أعوام 2000 ق.م؛ وتوطدت فيها برسوخ. ويُرجِعُ العديدُ من المؤرِّخين المعروفين، وفي صدارتِهم جوردون تشايلد، تاريخَ أوروبا إلى هذه السنوات، حيث كان “العصرُ الحجري القديم” سائداً قَبلها. يُعتَقَد أن المنطقة المتوسطة بين ما يُعرَف اليوم بجنوبي فرنسا وإسبانيا، والتي عَرِفَت الهوموسابيانس كنوعٍ سائدٍ قبل ثلاثينَ ألفِ سنة؛ قد عاشت أطولَ فتراتِها في الحقبةِ الميزوليتية (العصرِ الحجري المتوسط) حصيلةَ التوسع المنطَلِقِ من شمالي أفريقيا.
لسنا في وضع البحث في نيوليتيةِ أوروبا وثورتِها الزراعية. لكني على قناعةٍ بأنه قد سُلط النورُ على قضيةِ المنبع الأمِّ نظراً لأهميتِها. حيث أعتقدُ أيضاً أنَّ الانتشارَ في هذا الاتجاه لم يكن على أساسٍ جسديٍّ أو استيطاني، بقدرِ ما حصلَ على أرضيةٍ ثقافية. تَتَجَسَّدُ خصوصيةُ أوروبا في أنها انتَهَلَت العصرَ النيوليتي جاهزاً وبجوانِبِه الأكثر إبداعاً. أي أنَّها محظوظة باستقائها هذا الزخمَ المتكدِّسَ على مدى عشرةِ آلافِ سنة وتمَثُّلها إياه دفعةً واحدةً أو خلالَ مُدَّةٍ يمكن اعتبارُها وجيزة. بالمقدور القول أنه كيفما جَعَلَت أوروبا عالَمَنا الراهنَ ساحةً لتَوَسُّعِها الثقافيِّ خلال أربعةِ قرون، فهي بذاتها كانت ساحةً لانتشارِ الثورة النيوليتية، ثم لتوسُّعِ ثورةِ المدنية الرومانية وانتشارِ ثورةِ الروح المعنى المسيحية. هذه الثوراتُ الثلاثُ الكبرى انتشَرَت في أوروبا على أرضيةٍ ثقافيةٍ بالأرجح، ودون اللجوءِ إلى الاستعمار والاستيطان الكولونيالي والصهر الإرغامي، فيما عدا الحروبِ المعدودةِ التي شَنَّتها الإمبراطوريةُ الرومانية. أي أن الثقافاتِ المتفوقةَ اعتُبرتَ “هِبَةً من الإله”. ولدى بلوغِ هذا الزخمِ الثقافي العظيمِ المتراكمِ على مَرِّ عشرةِ آلافِ سنة من تاريخِ البشرية، تكون الأرضيةُ قد هُيِّئَت للثوراتِ الأوروبية الكبرى اللاحقة (ثورات النهضة والإصلاح والتنوير، والثورات السياسية والصناعية التقنية والعلمية). إذن، لم تُنجِزْ أوروبا هذه الثوراتِ الكبرى بمهاراتِها الخاصة. بل عَبَّدَت أرضيتَها بتوسيعِ قاعِ النهر الأم للتاريخ وفروعِه الجانبية، وبتدفقه وانصبابِه فيها بغزارةٍ وبدفعةٍ واحدة. لا ريبَ أنَّ انحسارَ “العصرِ الجليدي” الذي تزامنَ مع المراحل عينها، وبروزَ الغاباتِ النَّضرَةِ بفضلِ الطقسِ المَناخيِّ الملائم للغاية، والتربةَ السماديةَ المعطاء والغنيةَ بغلالها، وتَجَهُّزَ أوروبا بمجموعِ هذه الظروف كتركيبةٍ جديدة؛ كل ذلك جعلها تحَقِّقُ النقلةَ الحضاريةَ العظمى التي تَرَكَت بصماتِها على راهننا.
العصر الكالكوليتي أو عصر المعادن: شهد ثورة في صناعة الأسلحة والأدوات المنزلية والزراعية والحلي إثر اكتشاف النحاس واستعمال البرونز (المترجِمة).
(2) منطقة برادوست: تقع في مركز كردستان في المنطقة الفسيحة التي تحتضن الحدود الحالية بين إيران والعراق وتركيا. كانت قديماً موطن الأورارتيين. ورد اسمها في كتاب شرفنامه (المترجِمة).
(3) جايونو أو جيانو: جثوة ترابية أثرية تعود إلى أعوام ما قبل الميلاد، تقع قرب هيلار التابعة لناحية أرغاني بمدينة آمد الكردستانية. بدأت أعمال الحفر والتنقيب فيها عام 1964 (المترجِمة).
(4) غوباكلي تبه: موقع أثري يحتوي أقدم المنشآت المعمارية للبشر بُنيت قبل بداية الاستقرار الحضاري، يوجد على أعلى قمة جنوب شرق أورفا بشمال كردستان (المترجِمة).
(5) البلوجيون أو البلوش أو البلوص: وموطنهم بلوجستان هو إقليم جبلي على الهضبة الإيرانية، يمتد بين إيران وباكستان وأفغانستان. والحضارة البلوجية هي إحدى الحضارات المتأصلة في التاريخ، وإحدى أقدم المستوطنات البشرية (المترجِمة).
(6) العصر الحجري القديم أو الباليوليتيك: عاش إنسان هذه الحقبة في العراء متجولاً يلتقط الثمار ويصطاد الحيوان بأدوات حجرية بدائية جداً، ليتغذى من لحمه، ويكتسي من جلده أو من لحاء الشجر. ثم سكن الكهوف واكتشف النار (المترجِمة).
(7) فينيقيا: منطقة تاريخية كانت تشمل ما يعرف اليوم بلبنان وسوريا وإسرائيل. وهي شهيرة في المِلاحة والتجارة البحرية. وإلى جانب الكتابة المسمارية، يتميز شعبها بنمطه الخاص في الكتابة الفينيقية سلف اللغات اللاتينية (المترجِمة).
(8) الهكسوس: أي “الملوك الرعاة”. هو شعب ساميّ بدويّ غزا شمال مصر في القرن الثامن عشر ق.م وحكمها أكثر من 250 سنة. جلبوا إلى مصر القوس المركب، والعربة المسحوبة، والحصان والدروع، واتخذوا عاصمة لهم شرق دلتا النيل، سموها زوان أو صوعن أو هوارة. خضعت مصر السفلى لحكمهم المباشر، وخضعت مصر العليا وبلاد النوبة اسمياً لهم (المترجِمة).
(9) تل حلف: فترة زمنية في تاريخ بلاد الرافدين شهدت بروز الحضارة الحَلَفية، أخذت اسمها من موقع تل حلف الأثري في غرب كردستان. فيها أول كشف لآثار من العصر الحجري الحديث. تتميز بالفخاريات المزججة مزينة برسوم هندسية ورسوم حيوانات. تعود آثار الموقع للألف السادس قبل الميلاد، وكان بعدها موقعاً للمدينة الدولة الآرامية غوزانا (المترجِمة).
(10) عيلام: أي “الأرض العالية”. من أولى الحضارات فيما بين أعوام 2700 – 539 ق.م. حاضرتها مدينة سوس. وجد علماء الآثار فيها آثاراً بشرية ترجع إلى عشرين ألف عام، وشواهد تدل على ثقافة راقية تعود إلى 4500 ق.م. نجد فيها أقدم العجلات. يُعتقَد أن غزو الكاشيين 1600 ق.م تسبب بانهيار بابل وعيلام (المترجِمة).
(11) سوس: وهي مدينة شوشان الحالية. كانت عاصمة الحضارة العيلامية. دامت ستة آلاف سنة، وشهدت عظمة إمبراطوريات سومر وبابل وآشور وفارس واليونان روما، وظلت مزدهرة حتى القرن الرابع عشر ميلادي. استولى عليها آشور بانيبال في 646 ق.م لينهب ما فيها من ذهب وفضة وجواهر ملكية ومركبات، فتحولت إلى ساحة حرب وخراب (المترجِمة).
(12) هارابا وموهانجادارو: تقعان على الضفة الغربية من نهر السند. اكتُشِفَ فيهما آثار مدنية تدل على أنها أقدم من كثير من المدنيات الأخرى المعروفة، وأنهما كانتا في ذروتهما حين شيد خوفو الهرم الأكبر، وكانتا تتصلان مع سومر وبابل بصلاتٍ تجارية ودينية وفنية، وظلتا قائمتَين أكثر من ثلاثة آلاف عام (المترجِمة).
(13) نهر بينجاف أو البنجاب: يقع في جنوب الهند، ومعناه “الأنهار الخمسة” (المترجِمة).
(14) الديموغرافيا أو علم السكان: ويعنى بالدراسة الإحصائية لسكان الأرض من حيث المواليد والوفيات والصحة والزواج وغيرها. يهتم بأحجام الشعوب وبنيتهم وتطور أعدادهم وخصائصهم كمياً، ودراسة توزيعهم بيولوجياً واجتماعياً (المترجِمة).
المصدر: كتاب “مانيفستو الحضارة الديمقراطية، المجلد الأول: المدنية (الدمقرطة وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية) – عصر الآلهة المقَنَّعة والملوك المتسترين”، تأليف عبد الله أوجلان، الترجمة من التركية: زاخو شيار، الطبعة الثالثة 2018م، ص(75-84).[1]