د.صەباح بەرزنجی
المراد ب#الشعر الكلاسيكي# الكردي واضح إذ يشمل مجموعة النتاجات الشعرية في اللهجات الكردية قاطبة منذ القرن الحادي عشر الميلادي الى النصف الأول من القرن العشرين . والشعراء البارزون باللهجة الكرمانجية العليا هم الجزيري و الخاني و الهكاري و الباتةيي . وباللهجة الكرمانجية الجنوبية هم مولانا خالد و نالي و سالم و محوي الى قانع و بيكةس و بيخود و ملا حسن القاضي و هةزار و هيمن و حقيقي و هيدي . وباللهجة الهورامية عبارة عن الشيخ احمد التختي و خاناي قبادي و بيساراني و مولوي و ملا جباري وحيران السنندجي و غيرهم كثير .
وتعد رباعيات بابا طاهر ( طاهر الجصاص الهمداني ) و ابيات كتاب ( سرانجام ) الكتاب المقدس لدى الطائفة الكاكائية ( اليارسان) جزءاً من الشعر الكلاسيكي الكردي . وقد قطع الشعر الكردي في تاريخه اشواطاً عديدة اتسم في كل شوط منها بخصائص و ميزات من حيث المضمون و الشكل متاثرا بالحياة العامة و مستوى الحضارة و المدنية للأمة الكردية و ثقافتها و رؤيتها للحياة.
فمن حيث الشكل نجده متابعاً للأوزان العروضية العربية بواسطة العروض الفارسية و انماط الشعر الفارسي ( القصيدة و الغزل و المثنوي و الرباعيات و المزدوجات و التركيبات و الترجيع بند و القطعة و الفرد) فضلا عن المحسنات البديعية الواردة في علم البديع ، المدروس في حلق التدريس التابعة للمساجد في كردستان .
وكان الشعراء الكرد يستقبلون قصائد وغزليات من سبقوهم من شعراء الفرس و العرب و الكرد . ان فهم الشعر الكلاسيكي الكردي أمر لا يتم دون معرفة شخصية الشاعر الكردي ، برؤيته الكونية و فلسفته و معارفه و رؤاه الصوفية و ررسالته الاجتماعية و تجاربه الذاتية . فهو شخص مطلع على تجارب السابقين و ماسك بمقاليد الشعر و رموزه ما يؤهله لنقد النتاجات الشعرية المختلفة . و بالتالي يخضع في رسالته و تجربته للمرحلة التي يعيشها و الوعي الذي يحمله .
اسوة بأسلافه له ديوان جامع للغات الحية ( فمثلا يفتخر نالي بأنه مالك لممالك الفرس و الكرد و العرب ، بدليل أن له ديوانا باللغات الثلاث) . فقد نظم القريض بهذ1ه اللغات و حسب الأبحر العروضية المتنوعة و القوافي الصعبة كذلك . هذه القدرة على التنوع و التفنن في الشعر نجدها واضحة لدى كل الشعراء الكبار . اما القدرة على وضع القصائد الطوال فنجدها لدى سالم الذي أنشأ رائيته المشهورة جواباً على رائية نالي . وبعدهما اشتهر محوي بقصيدته المسماة ببحر النور في مديح النبي الأكرم و التي بلغت 135 بيتاً على بحر الهزج المثمن السالم . ومن حيث المحتوى ينتمي الشعر الكلاسيكي الكردي الى عالم المثال و عمق الذات الانسانية ، ليرسم من هناك صورة للعالم و الكون و الارتباط بالمطلق .
موضوعاته تتنوع ما بين الحب و الشوق و الحنين الى الماضي ، الى الوصال ، وصال الحبيب و دياره ، روحه في قلق دائم ، فيجد في ذكر الله و التشبث بحبه و الارتباط به و بنبيه و و أهل بيته و أصحابه ، ولاينسى حبه لبني جلدته و قومه و التغني بطموحاتهم و أحلامهم في حياة حرة كريمة ، متأثراً بالظروف السياسية و الاجتماعية العصيبة المحيطة به . والشاعر الكردي الكلاسيكي يعيش واقعه وواقع مجتمعه الكردي ، ففي فترات الحكم العثماني و الصفوي تاثر الشعر الكردي بالشعر الفارسي كثيرا( لأن الأتراك أيضاً كانوا تحت تاثير الأدب الفارسي لحين فترة حكم السلطان سليمان القانوني ) .
فكانت الموضوعات و الأشكال الشعرية لدى الأكراد نفسها لدى الفرس .
وكان التصوف من أبرز المضامين الشعرية ، نظراً للثقافة الدينية السائدة و المؤلفة من ( العقائد الأشعرية و المذهبية الشافعية و التوجه الصوفي السني) و المدروسة في حلقات الدروس الدينية المرتبطة بنظام الخلافة العثمانية على الأكثر. وكان الأفق الشعري مصبوغاً بجماليات الأدب العرفاني ( النقشبندية و القادرية في السنوات المتاخرة) .
ويعد مولانا خالد طليعة الشعراء المتنورين و المتنفذين في سماء الشعر الكلاسيكي الكردي بشقيه السوراني و الكوراني ، فلأدبه و توجهه الروحاني انعكاس واضح في تراث من أتى بعده مباشرة على نالي و فائق و بصورة غير مباشرة على مولوي و محوي .
بظهور الخماسي البارز في امارة بابان وهم ( نالي و سالم و كردي و محوي و شيخ رضا) ، خطا الشعر الكردي خطوة جبارة فانتهضت مدرسة شعرية لا زالت تاثيراتها قائمة في تشكل الوعي الأدبي الكردي المعاصر . الذي يجد نفسه وفياً لتراث الشعراء الكلاسيكيين الكبار الخمسة و للمرشد الروحي الأبرز مولانا خالد الشهرزوري . وتبدأ مرحلة تاكيد الذات في اللحظة التاريخية الحاسمة من القرن التاسع عشر حيث تسقط امارة بابان ، و يأبى نالي العودة الى كردستان مرجحا حياة الغربة على العيش بذلة ، فيبعث بقصيدته الرائية المشهورة ( قورباني تؤزى ريكةتم = افدي عجاج طريقك يا ريح الصبا الملائمة) الى صديق عمره سالم ، فيجيبه برائيته المشهورة ( قورباني توزيب ريكةتم ئةى بادةكةى سةحةر = افدي عجاج طريقك يا نسيم السحر ) .
أما موضوعات الشعر الكلاسيكي فهي متنوعة لعل أهمها :
بحث الانسان عن محبوب يتصل به قلباً بحيث يكون كعبة لقلبه وروحه . هذا المحبوب قد يكون هو الله وقد يكون هو الوطن أو الشعب و احيانا هو العشيق المجازي.
إذ يوجد كل نوع من أنواع المحبوب في مخيلة الفرد الكردي ومن الممكن أن تجتمع كلها باعتبارات مختلفة تحت عنوان واحد و شامل ، فيقرأه كل قاريء حسب مستواه المعرفي و ذوقه الوجداني .
التأمل في الطبيعة و العالم و رؤية اللوحات الفريدة ، أداة حية لتعامل الشاعر الكردي مع موهبته الشعرية و بالتالي لمزجها بالمفاهيم اللاهوتية ومن ثم لكشف التناسق القائم بين الانسان و الطبيعة والتعبير عن هذا التناسق بأسلوب تعبيري أخاذ ، و تعد قصائد مولوي و بيساراني و صيدي و خانا القبادي نماذج رائعة لهذا الأمر.
تربية الفرد و المجتمع على أسس الدين و الحياة و الآداب الاجتماعية ثيمة اخرى للشعر الكلاسيكي الكردي ، مثلما نجده لدى حكم و أمثال بيرةميرد و رباعيات باباطاهر و فقي طيران و المنظومات الشعرية للشيخ معروف النودهي و أحمد الخاني . القصة الشعرية تتجلى في آثار خانا القبادي و الخاني و فقي طيران ، بحيث نرى أن شعراء الكرد من خلال منظوماتهم حاولوا الولوج الى أعماق الجماهير الغفيرة بطرح القيم و المباديء العليا الانسانية و الوطنية و القومية و الخصال الخلقية الحميدة كالصدق و الوفاء و الفتوة و الشجاعة و الحب و الإيثار.
إن الشعر الكلاسيكي الكردي لا يمكن الغوص في أعماقه و الوقوف على درره و غرره دون التضلع في اللغة و البلاغة و فنون المعاني و البيان و البديع ، ففي أبياته العديد من المصطلحات و المعادلات الذهنية التي تحوج القاريء الى التفكير و التدبر المنهجي ، فعلى سبيل المثال يقول عصام الدين شفيعي البوكاني :
من صغرى فمك و كبرى عينك كان لدى مطلبٌ ..
حتى تقدمت غالية شعرك بمئات من الدور و التسلسل ..!
فالبيت حافل بطائفة من المصطلحات المنطقية و الفلسفية بطريقة الايهام ، ما يجعل القاريء يتبين المعادلة و يفكر في الربط بين أجزائها . أسوة بمن سبقوه من الشعراء الكبار ، وربما سبقهم أحياناً.ومن الخطوات الجديرة بالإشارة في تاريخ الشعر الكردي ما قام به الحاج قادر الكوئي من محاولات جريئة لتطويره و تغيير مغزاه و تجديد رسالته ، متأثراً بالنقلة الثقافية التي حصلت في المجتمع العثماني والتي تجسدت في تحول رسالة الشعر و رؤية الشاعر إلى طرح موضوعات الحياة الجديدة و الدخول الى العصر الحديث بمفاهيمه و معطياته الواقعية بعيداً عن التخيلات الرومانطيقية التي لا تمت الى الواقع بصلة ، وقد يكون حاجي قادر في هذا الأمر خليفة لكل من نالي و مولانا خالد . ومن بعد حاجي قادر يعدّ ملا محمد جليزادة و ملا عبد الله زيوةر و فائق بيكس و أحمد مختار جاف خير من يمثل هذا الاتجاه . وفي النصف الأول من القرن العشرين واصل الشعر الكلاسيكي الكردي دوره و تألقه من خلال ادبيات مجموعة من الشعراء المتنورين ، من أمثال بابارسول البيدني و بيخود و قانع . ولم تنطفيء شرارة هذا الأدب رغم ظهور تيارات حداثية تنادي بتغيير النمط الشعري ، فبرز في منطقة مكريان بتأثير الحركة القومية المتنامية و بالذات قيام جمهورية كردستان 1946 شعراء كبار نهلوا من عيون الشعر الكلاسيكي و أبدعوا نمطاً شعرياً متصلاً بالواقع السياسي و المرحلة الفكرية الناهضة فتغنوا بالقومية الكردية و جبال كردستان و بيشمركتها الفدائيين للحصول على الحقوق السياسية و الاجتماعية للشعب الكردي ، وهؤلاء هم عبد الرحمن شرفكندي (هةزار) و هيمن و خالةمين و آوات و هيدي .
خلاصة القول إن الشعر الكلاسيكي الكردي في كافة مراحل نشأته و ظهوره كان عاملاً مؤثراً و كبيراً في تنمية الوعي الاجتماعي و عنصراً أساسياً لمعرفة الذات الكردية ، كونه قد فتح الباب على مصراعيه أمام المثقف الكردي كي يفكر في ذاته و مجتمعه و شعبه و مصيره ، ويتخذ من الشعر وسيلة للدفاع عن حقوقه المشروعة و قضاياه العادلة .وفي الوقت ذاته ليفتح ذراعيه بكل شوق و ايجابية للآثار الأدبية و الثقافية الوافدة من لدن الشعوب الأخرى ناقلاً و ناقداً و مساهماً في نشرها و تطويرها .[1]