محمد أرسلان علي
حينما عرّف هيغل الدولة بأنها “اكتمال مسيرة الإله على الأرض”، وهي الروح وقوة العقل، كان يدرك تماماً بأن تأثير هذا الوليد على الشعوب الفاقدة لكينونتها والباحثة عن ماهيتها، ستغدو في المستقبل الآمر والناهي لكل مفاصل الحياة المجتمعية للانسان. هذا الانسان الذي احتار فيه كل الفلاسفة في تعريفه وتوصيفه، والهدف من وجوده وخلقه. فهل هو بالفعل “خليفة الله على الأرض” أم أنَّ الله خلقه ليقتل هذا ويجرم ذاك، يكفر من يريد ويعربد بمزاجيته، وكل ذلك باسم الله. وكأن الله عاجز عن تنفيذ ما يريد، والله الذي أعطى لذاته حق أن يقول لأي شيء: “كنّ فيكون”.
الاختلاف والتنوع يدلان على عظمة الله في خلقه، هذا الكم الهائل من الثقافات واللغات والشعوب والطبائع والقبائل وألوان البشرة والحيوانات باختلاف أنواعها وكذلك الاشجار، والتي في النهاية لهي دليل على محبة الله لهذا التنوع وقدرته على إضفاء الجمال على الطبيعة التي سخرها للانسان كي يسير فيها ويرى عظمة خلقه. وقال تعالي لهذا الانسان بأن يسير في الأرض ليرى ويتدبر ويتعلم من محبة الله وجماله وليراه في كل شيء يدور من حوله. مرتان أمر الله الناس بأن يسيروا في الأرض، وكل منها منافية للأخرى، وأن ذلك يتوقف على هدف الانسان من تلك المسيرة. في الأولى قال تعالي: ﴿قُلْ سِيرُوا فيِ الْأرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بدَأ الْخَلْقَ …﴾، ]العنكبوت: 20[. في هذه الآية يحثنا الله على السير في الأرض كي نتعلم وندرك أن بداية الخلق والنشأة الأولى بدأت بالتنوع والاختلاف وقبول ذلك على أنه أساس الحياة الطبيعية وغايتها التي من أجلها وجد الانسان كي يعمل على حفظها وصونها. والعمل على الحفاظ على آيات ومعجزات الله في خلقه يعتبر من أحب الأعمال
وتقرباً لله عز وجل. ألم يقل؛ ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأرْضِ وَاخْتِلَافُ ألَسِنَتِكمُْ وَألَوَانِكمْ إنِّ فيِ ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾، (سورة الروم:22) كل ذلك آيات من الله للانسان كي يتعلم كيفية العيش مع الآخر المختلف عنه في كل شيء. وبأن كل من يحارب هذا الاختلاف والتنوع ما هو إلا بفعلته ينكر آيات الله في اختلاف اللغات والألوان والقبائل والشعوب، وهو بذلك يكفر بالله عزَّ وجل. أما الثانية التي أمر الله فيها الناس بأن يسيروا في الأرض كي يتعظوا من سابقيهم الذين أرادوا نفي وقتل هذا الاختلاف وإن كانوا يتكلمون باسم الله، ووصفهم الله بالكاذبين الذين يقولون غير ما أمرنا الله به. حيث قال تعالى:
﴿قلْ سِيرُوا فِي الْأرْضِ ثمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذبِينَ﴾، (سورة الأنعام: 11)، شتاَّن ما بين المسيرتين اللتين حثَّ فيهما الله الانسان للتعقل والتدبر والمحبة أو للكذب والافتراء واقصاء الآخر تحت أي مسمى كان. وما بين هاتين المسيرتين أعطانا الله حرية الاختيار بينهما ووفق هذا الاختيار سيكون تحديد مصير الانسان في المحبة وقبول الآخر والاخلاص أو الضلالة والبغض والكذب وقتل الآخر. كثيرة هي الايديولوجيات التي تحولت إلى دين موازٍ لما نزل من السماوات. إلا أن القومجية والتعصب فيها/بها وكذلك الدينوية والتطرف فيها/بها، حوّلت المجتمعات لسجون تقضي على الشعوب بعد تنميطها وفق هندسة النظم الحاكمة الطاغية والمستبدة.
التطرف بالدين مهما كان اسمه، وإضفاء القدسية على الانتقائية والمزاجية وفق مصالح أصحاب النفوذ والسلطة، وكذلك السماسرة والمتاجرين به، جعل من الدين مهزلة ينفر منها الانسان ويتبرأ من كهانه الذين نصّبوا أنفسهم وكلاء الله على الأرض. الله المحتار من يسترضي من الأمم التي خلقها، بات عنواناً لقتل الانسان باسمه وأمره. وما بين “كنتم خير أمة” وبين “شعب الله المختار”، ما زال الاقتتال والصراع مستمراً بينهما على أحقية تطبيق كلام الله على الأرض. فحينما نتعلق بقشور المواضيع، نصل لما نحن عليه اليوم من تدمير المجتمعات وقتل الشعوب وهندستها ديموغرافياً. فالدين أمر في غاية الأهمية للانسان، لأنه يحدد مجموعة القوانين والأخلاق التي يتعامل وفقها الانسان مع من يعيش معهم. وإن غابت هذه الروابط الاخلاقية والقانونية بينهم، يتحول المجتمع إلى غابة من السماسرة والكهان والعبيد الذين لا يجمعهم شيء سوى المصالح. ونفس الأمر بالنسبة للتعصب القومي أو القومجية. القومية والاعتزاز بها شيء محمود وجميل، لكن التعصب فيها وبها توصل الانسان لأن ينكر الآخر ويعمل على إفنائه ومحوه من الحياة. وما بين التطرف الديني والتعصب القومي باتت منطقتنا عبارة عن مسلخ لشعوبها ومجتمعاتها التي تئن تحت سياط التعصب الأعمى لهذا العرق والدين على حساب العرق أو الدين الآخر .
التوظيف السياسي للدين والقومية الذي تم، كان ولا زال الوسيلة والأداة المُثلى لتأليب الشعوب على بعضها البعض منذ قرونٍ عدة وحتى الآن. إذ، يجاهد المتأسلمون بكل امكانياتهم لنشر كلمة الله والدين في ارجاء المعمورة وقتل كل من لا يدين بدينهم، ويعتبر هذا الجهاد واجب على كل متدين . لأن حسب وصفهم بأن الدين عند الله هو “الاسلام”، وما تبقى ليس سوى بدعة وكفر ينبغي القضاء عليه. بنفس العقلية يعمل المسيحيون السياسيّون للوصول للبيت المقدس ونشر ديانتهم على أنها السلام والمحبة. أما اليهود السياسيين فلا يقلون عنفاً عن سابقيهم في السيطرة على المنطقة على أساس أن الله وعدهم بها، حسب إدعائهم.
صراع أباد الانسان وحوله لمجرد أداة طيّعة بيد كهّان الدين وسماسرته ليستمروا في السلطة ونهب المجتمعات وخيراتها. وكذلك هو الوجه الآخر للسلطة أي المتعصبين القومجيون، الذين حقنوا القومية بالسياسة وسيّسوها وفق أجنداتهم وأطماعهم السلطوية، وليتحولوا بعد ذلك لمستبدين طاغين لا يختلفون عن أقرانهم الآخرين عبر التاريخ.
صراع لم يتم وضع له أية حلول سوى عبارة عن كبسولات مخففة لمآسي المتعصبين القومجيون والمتطرفين الدينويون. مسكنات أطلقوا عليها صفات واسماء عدة، ليكون عندهم متسع من الوقت لنهب الشعوب والمجتمعات، وإلهائهم بصغائر الأمور وصراعاتها. فلم تسلم دولة من هذه الثنائية القاتلة (التطرف الديني والتعصب القومي). وحين النظر اليوم إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن وغيرها من الدول، لا نرى سوى القتل والدمار والتهجير والتغيير الديموغرافي، وكل ذلك يتم باسم التعصب القومي والتطرف الديني والتشدد المذهبي والطائفي. وما بين الشرق الاسلامي والغرب المسيحي وما بينهما من يهودي، يستمر الصراع والاقتتال ما بين شعوب المنطقة للهيمنة عليها قومجياً أو دينياً. تزاوج أو مزج التطرف الديني مع التعصب القومي سيكون بكل تأكيد نتيجته وليد مشوه ولقيط مسخ. وما سيتم فرضه على الآخرين لن يكون نتيجته سوى المجازر والمذابح وتهجير الشعوب.
وهنا نكون أمام لوحة رمادية وباهتة عن منطقة المشرق المتوسطي التي كانت يوماً ما معروفة بغناها الثقافي والشعبي والاجتماعي، ومهداً للحضارة الانسانية بكل علومها ومعارفها وفلسفتها. ابتلت هذه المنطقة بزعماء متعصبين قومياً ومتشربين للتطرف الديني بكل ما للكملة من معنى، وراحوا يحقنون الشعوب بهذا الفكر المتطرف والمتعصب والكل اجتمع تحت لواء العصبوية القبائلية الدينية والقومية. فدولة تسعى لاحتلال المنطقة بنزعة زعيمها القومجية الطورانية والدينوية السنيّة وقتل شعوب المنطقة من كرد وعرب وآشور وأرمن وغيرهم، وتتريكهم على أساس العرق الطوراني. لا يختلف مطلقاً عن دولة أخرى تريد الهيمنة على المنطقة وتفريسها وتشييعها. وكذلك بالنسبة لتهويد المنطقة. هذا التعصب القومجي والتطرف الديني الأعمى أفرز معه لقطاء التاريخ والجغرافيا، الجاهلين بالحقيقة المجتمعية لمنطقة المشرق المتوسطي التي كانت مسرحاً لولادة كل الأديان المكملين لبعضهم البعض، وكذلك افرزت هذا الكم الهائل من الثقافات المترابطة مع بعضها البعض والتي لا يمكن فصلها عن بعضها بتاتاً.
غفلة كبرى يعيشها معظم المثقفون في منطقتنا وربما لا يعلمون أنهم بتقرباتهم هذه يزيدون من مأساة الشعوب ، بل يمكن أن يكون ثمة الكثير منهم ممن يسيرون لعدم درايتهم وإدراكهم للتاريخ والجغرافيا وثقافات المنطقة، وما أكثرهم في يومنا. معظمهم يبحث عن ذاته فقط وينسى من حوله أو يتناساهم ويتجاهلهم على أساس أن قضيته هي الأهم والأولى. فشعار “لبنان أولاً” أو “اليمن أولاً” أو “سوريا أولاً”، لا يختلف كثيراً عن شعار “غزة أولاً”، الذي قضى على فلسطين كلها. التشبث بالجزء يقضي على الكل. ولا يمكن بنفس الوقت التفكير بالكل على حساب الجزء، الكل والجزء مترابط مع بعضه البعض بشكل وثيق، إنه ديالكتيك الطبيعة الذي لا يمكن الاستغناء عنه لرسم لوحة جميلة للمنطقة. فالقضية الفلسطينية لا تختلف كثيراً عن القضية الكردية ولا القضية العربية ولا غيرها، كلها متمم لبعضها ولا يمكن حل أي قضية بمعزل عن الأخرى. هي نفس قضية المرأة التي لا يمكن تشتيتها وتجزئتها في بقعة جغرافية محددة، بل هي قضية عامة وكونية.
أما لقطاء التاريخ والجغرافيا الذين يسعون لفرض أفكارهم وخيالاتهم على شعوب المنطقة ليتقبلوها على أنها حقيقة، سيرحلون كما رحل سابقوهم ولم يبَقَ لهم صيت ولا أثر، سوى أعمالهم وأفعالهم لتكون دروس وعبر للذين من بعدهم.
رحل نمرود وبقي ابراهيم كفكر وكذلك رحل فرعون وبقي موسى بشرائعه ورحل هتلر وبقيت أوروبا موحدة وكذلك سيرحل حكام تركيا ويبقى أوجلان كفلسفة وفكر يهدي للعيش المشترك ما بين شعوب وثقافات منطقة المشرق المتوسطي.
هذه المنطقة التي سترجع لحقيقتها بعد حالة الاغتراب التي عاشتها نتيجة تسلط المستبدين الذين ابعدوها عن حقيقتها المجتمعية الولادّة للقيم والأخلاق والثقافات المتنوعة. حالة التنوع الثقافي واللغوي في المنطقة تعبر عن حقيقة المحبة التي لا تقبل المنطقة غيرها، مهما كانت ثمة مسكنات طائفية ومذهبية وقومجية، لأنها ستبقى وقتية وسينتهي مفعولها. فلا التعصب المذهبي ولا الطائفي ولا الديني ولا القومي، يليق بطبيعة وحقيقة هذه المنطقة وشعوبها وثقافاتها. لأن منطقة المشرق المتوسطي هي لكل شعوبها وثقافاتها بعيداً عن ظاهرة الحدود والحالة القطرية المقدسة .[1]