يُعد الأكراد في سوريا جزءًا من تركيبها الديموغرافي منذ العهد الأيوبي؛ إذ سكنوا حلب ودمشق (في حارة الأكراد) ومنطقة حوض نهر العاصي وجبل الأكراد في الساحل الشامي. كما يزعم باحثون أن سكان بعض المناطق في لبنان إضافة للمسيحيين النساطرة ودروز جبلي الشيخ وحوران ما هم إلا نتيجة لاختلاط الأكراد بأهالي تلك المناطق.
إلا أنه عند الحديث عن الأكراد السوريين، لا بد من التفريق بين نوعين منهم؛
الأول: هم الأكراد القدماء الذين سكنوا بلاد الشام منذ العهد الأيوبي وما قبله، وهؤلاء قد تعرّبوا ونسوا لغتهم وانصهروا بشكل كامل مع باقي مكونات الشعب العربي السوري إلى درجة أن أحد رموز الوطنية السورية، «إبراهيم هنانو»، هو أحد أولئك المتحدرين من الأكراد القدماء، وقد تولى بعضهم مقاليد حكم بلاد مثل «أديب الشيشكلي».
الثاني: هم الأكراد الذين يقطنون منطقة الجزيرة الفراتية أو محافظة الحسكة تحديدًا ومناطق أخرى متفرقة قريبة منها، الحريصون على كرديتهم، وهم الذين بدأت تطفو مشكلتهم على السطح منذ عام 1925، نتيجةً لما أطلق عليه «أرشاك سافراستيان» اسم «الاضطهاد التركي للأكراد» فيما بعد معاهدة لوزان؛ ما سبّب هجراتهم لشمال سوريا. كما يؤكد سافراستيان أنهم في مراحلهم الأولى عملوا مزارعين في جنوب خط سكة قطار بغداد في الأراضي السورية، وكل ذلك مع التأكيد على أنهم لم يشكلوا أغلبية في تلك المناطق أبدًا. [1]
وتجدر الإشارة إلى أن الأكراد (أكراد الأطراف) يعيشون في سوريا في ثلاثة أجزاء متفرقة رئيسية متاخمة لمواطن الأكراد خارج سوريا، وهي أجزاء من جبل الأكراد «كرد داغ» ومنطقة عين العرب وما حولها، إضافة للجزيرة السورية التي كانت مرتعًا للقبائل البدوية الرعوية العربية والكردية على حد سواء.
ويظهر تأثر القبائل الكردية البدوية المتنقلة– على جانبي ما عُرفت فيما بعد بكونها حدودًا دولية بين سوريا وتركيا- بالقبائل العربية حتى بلغ الأمر حد دخول عشائر كردية في قبائل عربية كبرى مثل قبيلة طيء.
ويُقرِّر المؤرخ العراقي «محمد أمين زكي» أن الأكراد في سوريا- ما قبل 1925- كانوا يعيشون على شكل قبائل جوّالة، إلا أن منطقة الجزيرة شهدت هجرات كردية متلاحقة أدت لوجود كردي كبير فيها. [2]
والأكراد السوريون غالبيتهم مسلمون سنيّون ويتكلمون باللهجة الكرمانجية بشقيها الشمالي والجنوبي (البهديناني)، وتوصل تقديراتٌ نسبتهم إلى نحو 10%؛ ما يجعلهم القومية الثانية في سوريا، وتُعد مناطقهم مناطق ثروة نفطية مثل حقول «رميلان».
وتجدر الإشارة إلى أن حركات الانفصال في الشرق، ومنها الحركات الكردية، إنما برزت نتيجة للقسرية التي بُنيت بها الدولة الحديثة في الشرق، إضافة لاصطدامها مع طبيعة المجتمعات الشرقية التي لم تكن منسجمة مع الطبيعة الرأسمالية الناتجة عن الثورة الصناعية، على عكس الحركات الانفصالية في أوروبا التي كان للتأثير الاقتصادي العامل الأبرز في صعودها.
$مشكلة تركية$
بالنظر إلى مُسبِّبات نشوء المسألة الكردية في سوريا ومآلاتها، يمكن القول إن المسألة الكردية السورية مشكلة تركية في أصلها. ويمكن إعادة ذلك تاريخيًا إلى توقيع معاهدة لوزان عام 1923، والتي أنهت وجود «رجل أوروبا المريض» نهائيًا، بكونها بديلًا عن معاهدة سيفر عام 1920.
لقد كان ذلك الاستبدال نتيجة لانتصارات الأتراك في حرب استقلالهم الوطني؛ مما حدا بالقوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى أن تستبدل معاهدة سيفر بمعاهدة لوزان؛ هذه الأخيرة التي نُظر إليها بكونها مماثلةً لمعاهدة «ويستفاليا» ولكن بطابع شرقي أنهى ما عُرف بالمسألة الشرقية.
فيما بعد استطاعت القوى السياسية الكردية أن تعيد صوغ المسألة الكردية بكونها مشكلة سورية أصيلة، خصوصًا بعد أن حطمت معاهدة لوزان ما كان قد أُقر من اقتراحات لإنشاء كيان كردي قابل للتطور خلال سنة واحدة ليصبح $دولة مستقلة في معاهدة سيفر.$
وقد نُظر للأراضي التي أُزمع إنشاء كيان كردي عليها على أنها «كردستان الشمالية» من قبل الأكراد القوميين، وبكونها أرمينيا الجنوبية من قبل الأرمن القوميين، وبكونها تركية أو عربية شامية من قبل نظرائهم الأتراك أو العرب.
وقد وصف «ديفيد مكدول» حدود تلك الدولة الكردية التي كان مزمعًا إقامتها بأنها «مضيق ضيق له منفذ على البحر الأبيض المتوسط شمال لواء الإسكندرونة تمامًا والموصل والضفة اليسارية لنهر دجلة وصولًا إلى مندلي والجانب الشرقي من بحيرة أرومية». [3]
وقد جاءت بنود معاهدة لوزان التي عالجت موضوع الكيان الكردي في المواد 62 و63 و64. وقد تناولت المادة 62 وضع اللجنة الثلاثية- من ممثلي بريطانيا وفرنسا وإيطاليا- خطة الحكم الذاتي لمناطق الأكراد.
وتناولت المادة التالية أن على الأتراك أن يوافقوا على مقترحات اللجنة خلال ثلاثة أشهر، بينما عالجت المادة 64 إمكانية استقلال الأكراد خلال سنة وإمكانية انضمام ولاية الموصل العثمانية للدولة الجديدة.
وقد أدى قيام تركيا الحديثة على طريقة النمط القومي الأوروبي إلى ثورات عشائرية كردية، بلغت سبع عشرة ثورة بين عامي 1925-1938 ضد الدمج القومي التركي للأكراد؛ ابتداءً بثورة «سعيد بيران» عام 1925، وانتهاءً بثورة «سيد رضا» عام 1938. وقد بدأ بالقضاء على ثورة 1925 التدفقات البشرية الكردية المهجرة قسرًا إلى سوريا الانتدابية، وقد تركّز الثقل الكردي المهاجر آنذاك في منطقة الجزيرة السورية.
وقد كانت النظرة من أكراد سوريا لأنفسهم- ممثلين في حركة خويبون- على أنهم لاجئون ليس إلا؛ بدلالة خرائط الحركة نفسها التي لم تُشر لما يُعرف اليوم بالمناطق الكردية في سوريا في تلك الخرائط، وهي منطقة الجزيرة «منقار البط» وجبل الأكراد (كرد داغ) في عفرين وعين العرب، ولكن لا بد من الإشارة هنا إلى خريطة عام 1948 التي لم تدخل من سوريا فيها- بكونها أرضًا كردية- سوى مناطق من عفرين. وذلك لم يتغير سوى في منتصف الأربعينيات، رغم التدخلات الفرنسية لاستغلال منطقة الجزيرة لمصالحها وإنشاء كيانات تُدار ذاتيًا وتُقارب بعض الأكراد مع المشاريع الفرنسية؛ لأن القيادات الكردية كانت في سوريا آنذاك قادمة أو مهتمة بمناطق الأكراد في تركيا والعراق فقط.
ولكن القوميين الأكراد يرفضون رد المسألة الكردية للأوضاع في تركيا؛ حيث يرون أن منطقة الجزيرة كانت على الدوام منطقة كردية، مُستدلين بالآثار الغابرة لبعض الشعوب القديمة، مع أن هناك خلافًا حول أصول الأكراد القديمة.
$السياسة الفرنسية الكولونيالية$
كانت أبرز السياسات التي انتهجها الفرنسيون في سوريا هو تقسيمها طائفيًا وإثنيًا إلى دويلات أو أقضية مستقلة ذاتيًا تتبع للدويلات، عملًا بمبدأ «فرق تسد» divide et impera، وكانت تلك النزعة لدى الفرنسيين من أجل إيجاد توازن بين تلك الطوائف والعرب السنة أيضًا.
هذا الأمر ساعد على استقبال الانتداب الفرنسي للاجئين الأكراد الذين بدأ لجوؤهم إلى سوريا منذ عام 1925، عبر توجههم لمنطقة الجزيرة السورية التي كانت محط أنظار الفرنسيين لإكمال مشروعهم الإثني الطائفي التقسيمي؛ إذ كانت هناك نوايا لتشكيل عدة كيانات في منطقة الجزيرة، تحولت في الثلاثينيات من القرن العشرين لكيان واحد يضم العرب البدو والأكراد والكلدان/ الآشوريين؛ لمجابهة حكم الكتلة الوطنية بين عامي 1936-1939.
وقد ظهرت السياسة الفرنسية تلك جلية في تنامي أعداد السكان المطرد في الجزيرة السورية، فقد بلغ عدد سكان الجزيرة المسجلين فقط عام 1937 أكثر من 105 آلاف نسمة. هذه الأرقام تعني أن الهجرات الكردية أسهمت بتحويل المنطقة من البداوة للعمران بعد أن بقيت مدمرة منذ القرن الرابع عشر.
وقد شهد إقليم الجزيرة انخفاض نسبة النمو السكاني من 6,5% إلى 1% بين عامي 1943 و1947، مع أن ارتفاعًا قليلًا شهدته نسبة النمو السكاني في السنوات القليلة اللاحقة.
لقد كان ذلك الانخفاض نتيجة عمل الحكومة السورية «الوطنية» في مرحلة ما قبل الاستقلال على تقييد تسجيل المكتومين خوفًا من المشروع الانفصالي الفرنسي في الجزيرة السورية، ومع ذلك فإن التدفق الكردي المهاجر من سوريا لم يتوقف.
هُنا لا بد من الإشارة للفروق بين أعداد الساكنين الحقيقية والمسجلين رسميًا؛ فقد استمرت هجرة الأكراد من تركيا نحو الجزيرة رغم إعادة تركيا لجزء من الأكراد لأماكن في العمق التركي.
ويمكن تلخيص أسباب الهجرة في الروابط العشائرية على جانبي الحدود؛ مما حدا بقسم كبير من الأكراد للهجرة نحو الجزيرة، التي مثّلت لهم جنة مقارنة بجحيم الأتراك؛ ذلك أن تحول الزراعة التركية للآلات بدأ في الوقت الذي انطلقت فيه الزراعة في الجزيرة، خصوصًا القطن الذي زاد الطلب عليه نتيجة للحرب الكورية، بالتزامن مع توجه مزارعين سوريين للعمل في الصناعات التحويلية الناشئة، التي استطاعت أن تستقطب عددًا كبيرًا من الأكراد أيضًا بسبب شح الأيدي العاملة، إضافة لفرار كثير من الشباب الكردي من التجنيد العسكري الإلزامي في تركيا.
$المراجع$
أرشاك سافراسيان، “الكرد وكردستان”، أحمد محمود خليل (مترجم)، الطبعة الثانية، السليمانية – دار سردم 2008، ص 187-188.
محمد أمين زكي، “خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور التاريخية حتى الآن”، القسم الأول، ترجمة محمد علي عوني، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، الطبعة الثانية 2005، ص 94..
ديفيد مكدول، “تاريخ الأكراد الحديث”، دار الفارابي-بيروت، راج آل محمد (مترجم)، الطبعة الأولى 2004، ص 34.[1]