محمد السيد أبو ريان
أن يفعل المرءُ ما لا يفعلُه أمثاله عادةً.. إن أردتَ أن تضعَ وصفًا لحياة علامة الشام مُحمّد كُرد علي ومواقفه ومحطّات حياته التي تُوحي بالتناقض من أوّل وهلة، من أولى لقطاتها إلى أخرياتها، فلا أدلّ عليها من هذا الوصف.
فالرجلُ الذي وُلِد بدمشق، صَفَر 1293ﮪ/ مارس 1876م، من أم شركسية وأسرة تنتمي إلى أكراد السليمانية بالعراق. لم يخضع لانتمائه العرقي الشركسي/الكُردي، وإنما صار واحدًا من ألمع العروبيين والمنافحين عن العربية. ورغم أنّه في نشأته درَس الفرنسية على معلّم خاص، ودرس الآداب الفرنسية عامين في مدرسة اللعازاريين، إلا أنه صار من أشدّ المدافعين عن الحضارة العربية ضد تاليتها الغربية.. وهكذا. إلا أنّ كل ما يبدو تناقضًا في وهلته الأولى، ليس كذلك على الحقيقة خاصةً إذا وُجِد ما يفسّره. فقد تلقّى كُرد علي علومه الأولية في مدرسة كافل سيباي الأميرية الابتدائية ونال شهادتها، ثم دخل المكتب الرشدي العسكري ليتقن تعلم العربية والفارسية، وبعد تخرّجه وتعيينه موظفًا في دائرة الأمور الأجنبية بدمشق (1892م)، اتصل بالشيخ طاهر الجزائري وكان من أبرز تلاميذه، ومحمد المبارك وسليم البخاري، وقرأ عليهم العلوم العربية والإسلامية، قبل أن يترك هذه الوظيفة في 1898م.
وبدأت وتيرة حياته تسير على نمطٍ لافتٍ من التقلّب الاضطراري. ففي 1900م، استكتبته مجلة «المقتطف» المصرية، فنشر فيها مقالات كثيرة وسّعت من شهرته في مصر والبلاد العربية. وبعدها بعام (1901م) مرّ بمصر بغرض السياحة، ولكنه مكث بها وعمل محررًا بجريدة «الرائد المصري»، وتلقّى عن الشيخ محمّد عبده،والعلامة أحمد تيمور، وعاد إلى دمشق بعد 10 شهور بسبب تفشّي «الكوليرا» في مصر. لكنه عاد إلى القاهرة مهاجرًا في 1905م ليستقر فيها بعد، وشايات طاردته على أساسها السلطات العثمانية. أنشأ مجلة «المقتبس» الأدبية العلمية الجامعة في القاهرة (1906م)، وعاد إلى دمشق (1908م) بعد إعلان الدستور العثماني، وتابع إصدار «المقتبس» من هناك، وعطّلتها له السلطات العثمانية في العام التالي بسبب نقده اللاذع لها، فهرب إلى باريس. وفي عام 1919م، تولى ديوان المعارف في عهد الأمير فيصل بن الحسين، ليحوّله بعدها بقليل إلى «المجمع العلمي العربي» بدمشق. وفي العام التالي 1920م، تولّى وزارة المعارف إلى جانب رئاسته للمجمع العلمي، ولم يُطِل في منصبه الوزاري كثيرًا، وخسره في 1923م بسبب تصريحات لفّقها له موظفان في حكومة الانتداب الفرنسية، ولمّا عُرِض عليه العودة للمنصب في 1925م اعتذر، وابتدأ بطبع كتابه الشهير «خطط الشام» في دمشق. غير أنّه وافق وعاد ليتولّى وزارة المعارف (1928م) في حكومة تاج الدين الحسني تحت الانتداب الفرنسي، ومثّل بلاده في مؤتمر المستشرقين السابع عشر بمدينة أكسفورد. ولأسباب مبهَمة، نُحّيَ عن رئاسة المجمع العلمي في 1937م، ثم أعيد انتخابه رئيسًا للمجمع العلمي (1941م)، لينشط المجمع في الطباعة والتحقيق.
وعلى نقيض مولده في بيت كُردي شركسي، كان مَدفنه بجوارٍ عربيٍ قُرَشيّ. ففي 2 أبريل 1953م، توفّي الأستاذ الرئيس الأديب اللغوي المؤرّخ المحقّق محمد فريد بن عبد الرزاق بن محمد كرد علي،عن 77 عامًا، ودفن في مقبرة الباب الصغير بدمشق، بجوار قبر معاوية بن أبي سفيان– رضي الله عنه-.
$بين العروبة والإسلام$
من أبرز ما عُرِف به «كرد علي»، دفاعه عن الحضارة العربية، إذكان عُروبيًا مؤمنًا بالعربية وأهلها، لا يرى العروبة تنفصل عن الإسلام في شيء، واقفًا بالمرصاد للشعوبيين، يردّ طعونهم على العرب والإسلام، ويفنّد حججهم بحجج وبراهين راسخة. وقد حفل كتابه «الإسلام والحضارة الغربية» (1934م) بالكثير من النقولات عن الأعلام الأجانب المنصِفين، وتتبّع المقالات المسيئة للشعوبيين والمستشرقين وناقشها وفنّدها. وله في هذا السياق مؤّلفاتٌ أخرى مثل: غرائب الغرب (1922م)، الإدارة في عزّ العرب (1934م)، أقوالنا وأفعالنا (1946م)، كنوز الأجداد (1950م)، وترجم أيضًا كتاب «تاريخ الحضارة» ل شارل سنيوبوس.
ومن أبرز أقواله في هذا السياق:
– الأمم تقتبس بعضها عن بعض، فإن كان قادة حركتها عقلاء تأخذ عنهم النافع، وإن كانوا جهلاء يختلط عليهم الأمر، وتتناول الغثّ والسمين. [القديم والحديث – ص30]
– إن ما نقله العرب عن غيرهم من تراتيب الممالك معروف ومعترف به، والإنصاف يقضي أن يًسجّل لهم قسطهم من الأعمال المنبعثة مباشرة من قرائحهم المزيّنة بأخلاق عالية، ما عهد، فيما نظن، مثلها كثيرًا في الأمم السابقة ولا الخالفة. [الإدارة في عز العرب – ص6]
– كانت للعرب عادات حسنة اقتبست بعضها الأمم الغربية، ولما جاءنا الغربيون بهذه الحضارة الحديثة، أصبح من اللازم اللازب أن نأخذ عنهم بعض ما ينفعنا من عاداتهم المستحبة، سنّة طبيعية في الخليقة أن يأخذ المتأخّر عن المتقدّم، والجاهل عن العالِم. [أقوالنا وأفعالنا – ص43]
$مجمع اللغة العربية$
لم يقف كُرد علي في معركته من أجل الحضارة ولغتها موقف ردّ الفِعل، وإنما عمد إلى الفعل المؤثّر من خلال إحياء اللغة العربية، فأسّس أول مجمع للغة العربية في العالَم العربي في العصر الحديث عام 1919م، في دمشق؛ الأمر الذي شهد له به الأمير مصطفى الشهابي: «لو لم يكن لمحمد كرد علي من فضل على الأمة العربية ولغتها إلا إيجاد المجمع ورعايته، لكفاه فخرًا». وجعل الأستاذ محمد الفاسي يقرّر أنّ: «فضل محمد كرد علي في تأسيس أول مجمع في العالم العربي فضلٌ كبير؛ لأنه إذا كانت المجامع الأولى في العالم الأوربي وليدة اهتمام الملوك ورجال الدولة، فإن المجمع الذي أسّسه -رحمه الله- وليد فكرة رجل واحد، لا ملك ولا زعيم وإنما عالِم مفكّر رائد».
كما واجه كُرد علي بقوة وجرأة الدعوات لكتابة العربية بالحروف اللاتينية، وحذّر كثيرًا من أخطارٍ بعينها تحيق باللغة العربية، لخّصها في ثلاثة محاذير: اختراع خط جديد يراد به الاستغناء عن الشكل، وتبسيط قواعد اللغة العربية، واختيار الحروف اللاتينية لكتابة الحروف العربية.
$إحياء التراث$
وقبل إنشائه المجمع، حمل كُرد علي على عاتقه إخراج ذخائر تراث العرب اللغوي والبلاغي عبر أعداد مجلّته «المقتبس»، منذ عام 1906م بالقاهرة، مصرّحًا بقوله: «خير ما يخرج لطلاب الآداب العربية في هذا العهد كلام أئمة البلاغة من أهل القرون الأولى». ولأجل هذا اختطّ لنفسه منهجًا متماسِكًا في تحقيق المخطوطات، فكان ذا عناية بالغة في وصف الأصول الخطّية للمخطوط تفصيليًا، وفي توثيق نسبتها، وفي استقصاء نُسخ المخطوط والمقابلة بينها والترجيح بينها كي يخرج النصّ كما كان يريده مؤلّفه، وكان معياره في النسخ الجيدة على الفهم والعلم.
كان يهدف من خلال تحقيق المخطوطات إلى تقديم قدوة يحتذيها المتأدبون في كتاباتهم، والمشتغلون بتاريخ الشرق واجتماعه، ودعاة الإصلاح. معتبرًا القارئ شريك المحقّق في البحث مهما بلغت درجة المحقّق من العلم والتنقيب، مع حرصه على تقديم النصّ المحقّق مستوفيًا علامات ترقيمه ومقسّمًا إلى فقرات وموضَّحًا ما غمُض من ألفاظه، ومتبوعًا بهوامش وفهارس ومصادر مستوفاة.
ومن تحقيقاته على كتب التراث: رسائل البلغاء (مايو 1908م)، سيرة أحمد بن طولون للبلوي (مارس 1939م)، المستجاد من فعلات الأجواد للتنوخي (1946م)، تاريخ حكماء الإسلام لظهير الدين البيهقي (1946م)، كتاب الأشربة لابن قتيبة (1947م)، البيزرة لبازيار العزيز بالله الفاطمي (1953م).
$كرد علي والاستشراق: وعي وإنصاف$
يقول الأستاذ شفيق جبريفي محاضراته عن محمد كرد علي -التي ألقاها بجامعة الدول العربية-: «أما معرفته بالمستشرقين وكتبهم فقد تكون آية من الآيات؛ فقد أحاط علمه بتاريخ الاستشراق والاستعراب… وله صلة بأكثر المستشرقين والمستعربين، وهو مطّلع على كتبهم التي نشروها وقد تكلّم عليهم في مقالات ومحاضرات خاصة».
من أين تحصّل محمّد كُرد علي على مثل هذه المعرفة المتينة بالمستشرقين ومناهجهم، والتي قلّما توافرت لنظرائه في زمانه؟ الجواب: عبر القوائم العلمية والمعرفية التي التزمها وأنهاها، وتابع عليها ما استجدّ في موضوعاتها.
يرى الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو في كتابه «لا نهائية القوائم»؛ أننا حين نعجزُ عن إدراك حدود عِلمٍ أو عالَمٍ ما، والإحاطة به أو التحكّم فيه، فإننا نلجأ إلى وضع قائمة بخواصّه وأجزائه ومراحله، لأجل إدراكه على أدنى تقدير.
وهذا هو ما التزمه كُرد علي بالضبط؛ إذ يحكي في كتابه «خطط الشام»،عن رحلته إلى باريس:
صرفتُ الوقت في باريز أدرس مدنيّتها وأستفيد من لقاء علمائها وساستها، ووقفتُ وقوفًا حسنًا على حركتها العلمية والسياسية، وذلك بواسطة جماعة من أصدقائي علماء المشرقيات، عرّفوني إلى الطبقة العليا التي أردتُ التعرّف إليها في عاصمة الفرنسيس، وفي مقدّمتهم فيلسوف فرنسا المرحوم إميل بوترو. وقد سألته أن يكتب لي جريدة بأمهات الكتب التاريخية والاجتماعية والأدبية والاقتصادية، فتفضّل وكتب لي ما أردت، فابتعته وطالعته كلّه مطالعة درس، ولا أزال إلى اليوم أجعل تلك المجموعة المختارة سلوتي في خلوتي وجلوتي.
وقد قادته هذه المعرفة المتينة بالمستشرقين والمستعربين، إلى أن يتبنّى موقفًا متّزنًا إزاءهم. ففي الوقت الذي كان يسرع فيه محمد كُرد علي إلى الردّ على المستشرقين المتعصّبين الطاعنين في العرب والمسلمين ولغتهم ودينهم، كان –في المقابل- يثني على جهودهم وعنايتهم بإحياء أمهات الكتب التراثية العربية والإسلامية، خصوصًا تلك الجهود التي تتمّ في سياق عِلمي غير مُغرِض.من ذلك ما قاله عن أطروحة المستشرق الفرنسي هنري لاوست «تعاليم ابن تيمية الاجتماعية والسياسية»: «إن هذا المستشرق الفرنسي قد نفذ إلى روح شيخ الإسلام ابن تيمية وغاص في تعاليمه كما يغوص العالِم الذي لا مأرب له غير خدمة الحقائق؛ فاستخرج لآلئ بديعة!».
وقد أوضح كُرد علي أنّ مديحه لهذا النوع من المستشرقين ليس حبًا لذواتهم وإنما هو يستحثّ همم أبناء أمّته من خلال تقديم نماذج المستشرقين المهتمّين بالتراث العربي الإسلامي، وقد ردّ على مَن لامه في ذلك قائلاً: «يلومني بعضهم لأني أكثِر من التنويه بعلماء المشرقيات. ولو كان اللائمون على شيء من العلم خدموا به ناحية من النواحي لعذرتهم، ولكنهم من الجماعة الذين لم ينشروا ورقة من آثار السلف، وليس لهم رأس مالٍ إلا الثرثرة، لا يعملون ولا يتركون غيرهم يعمل»!
$من التاريخ إلى الصحافة$
عمَد كُرد علي إلى منهجٍ في التأريخ، يجرّد التاريخ ما أمكن من المبالغات والخرافات، ويُثبت الوقائع المهمّة الثابتة، ويحذف ما تتطرّق إليه شيةُ شُبهةٍ أو شائبةُ غُلوّ، مع العناية في جانب التاريخ السياسي ببيان عِلل الحوادث وتسلسلها ودواعيها، واستخراج النتائج واستنباط القواعد، حسبما أوضّح في مقدّمة كتابه «خطط الشام».
وله في التاريخ ثلاث مؤلفات: غابر الأندلس وحاضرها (1923م)، خطط الشام – 6 أجزاء (1925م)، غوطة دمشق، المجمع العلمي العربي، دمشق (1952م).
وأما الصحافةالتي قضى فيها «كُرد علي» شرائح من عُمره، فقد رأي أنها أنسب أداةٍ يستعملها للمطالبة بالإصلاح وطرد لصوص الموظفين من خدمة الدولة وحفز العرب إلى العمل النافع والتذرّع بالمشاريع المنتجة وبعث القرائح واستخدام الكفاءات ونشر التعليم بين الطبقات الجاهلة. ولذا بدأ حياته في العمل الصحفي محررًا ومُشرفًا على ثلاث صحف مصرية:الرائد، والظاهر، والمؤيد، قبل أن ينفرد بإصدار مجلّته الأشهر (المقتبس) في القاهرة، ثم في دمشق.. إضافة إلى مقالاته التي نشرها في صحف الأهرام والثقافة ومجلات الرسالة والمقتطف والهلال.
وكان مبدأه في الكتابة الصحفية: أن يخلو التحرير من التعقيد وأن يكون التعبير واضحًا موجزًا سهلاً بليغًا خفيفًا مألوفًا. يقول في «المذكّرات»: «إن أسلوب المرء يخترعه صاحبه، لا يقتبسه عن غيره، ولا ينقله من كتاب، فهو ابن مزاجه وتربيته وبيئته وذوقه وفنّه… والعبرة بالتراكيب، والتراكيب ابنة من يصوغها، ويزيدها جمالاً علمُ الكاتب ووفرة اطّلاعه». الأمر الذي جعل المفكّر الهندي أبو الحسن الندوي يقرّ له في كتابه «مختارات من أدب العرب» أنه: «إذا ارتفع في إنشائه بلغ من البلاغة كلّ مكان».
$مذكرات كرد علي: جرأة أم حقد؟$
أخيرًا، ثمّة تناقضٌ استنكاريٌ يلاحقُ كلّ مَن يطالع سيرة كُرد علي، مَبعثُه ما تضمّنته مذكّرات كُرد علي من تفاصيل وأحكام على الشخصيات والمواقف، خصوصًا من المصريين.
الواضح أن محمّد كُرد علي كان ذا نفسيّة حسّاسة، وطِباع مثالية، وجُرأة في القول والفعل، زادت حساسيتها ومثاليتها وجرأتها مع طعنه في العُمر، مما أثّر على حُكمه على الناس وتقييمه لهم ولمواقفهم، لدرجةٍ أوصَلته إلى إعادة صياغة تقييمه لكثيرين ممّن قابلهم أو عرفهم بصورة سَلبية فجّة أثبَتَها في مذكّراته التي نشرها في 1948م، وواقَحّ عليها. الأمرُ الذي تسبّب في الحطّ على ما جاء في هذه المذكّرات مَن قِبَل كتّاب ومفّكرين كُثُر، خصوصًا من المصريين مثل أحمد حسن الزيات الذي وصفها في «حياتي ومذكراتي» بأنها: «رواسب من أكدار السنين التسعين تقاطرت على قلمه سوداء كالحقد، نتنة كالغيبة، كدرة كالغضب، فارغة كالإخفاق»، وأحمد أمين الذي نعَتها في “فيض الخاطر” ب «قلة في الذوق، وسخافة في الحكم، وتقويم ما ليس له قيمة، وتحقير ما له قيمة… وعلى الجملة فهذه المذكرات لم تصدر إلا بخذلان من الله كبير»، وآخرين مثل خير الدين الزركلي وعلي الطنطاوي.
وقد أرجَعوا -ي أغلب ما ذكروا- صنيع كُرد علي في مذكّراته إلى بلوغه أرذلَ العُمر، وتسرّب الخرَف إلى عقله ونفسيَته. ولا يبدو أن تفسيرهم هذا في محلّه، فقد كتب كُرد علي بعد مذكّراته تلك، كٌتُبًا وأبحاثًا مُحكَمة منها: كنوز الأجداد، وغوطة دمشق؛ وحقّق ونشر كتاب «البيزرة لبازيار العزيز بالله الفاطمي»، ولم يذكُر أحدٌ ممّن رافقوه شيئًا يدلّ على تمكّن الخرف من ذهنه أو من نفسِه.
لذا، فالتفسير الأقرب لما فعَله كُرد علي في مذكّراته، في حقّ أولئك الكثيرين الذين وصفهم بأنهم «..أضجروني بقصورهم وآلموني بغرورهم»، هو ما ذكره أنور الجندي في كلمته بمجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، مجلد 52، أنّ كرد علي «بطبيعته: حاد الطبع عجول، متحمّس، يقايس الناسَ على مشربه وأسلوبه وعاطفته.. ويمكن القول إنه كان يجمع بين خصلتين في وقت واحد: الصراحة إلى حدّ الجرأة في الحقّ، وغلبة العاطفة»، وأنّه «كان يؤمن بالصداقة على نمطٍ عالٍ من الحبّ والتضحية والوفاء، عامل به كل من لقيه وعرفه، وإن كان لم يجد في كثيرٍ ممّن عرفهم مثلَ وفائه وتضحيته، ولذلك فقد بدا وكأنما هناك عقوق ظاهر، وإن كان هو تفاوتًا في درجة الصداقة والإخلاص». وهو هو نفس ما أكّده د. عدنان الخطيب في معرض حديثه عن المذكّرات ذاتها، بوصفه لكُرد علي بأنه «إنسانٌ مرهف الحِسّ.. عصبيّ المزاج.. تطربه الكلمة الحلوة ويسرّه المنظر الجميل، تستخفه النكتة في موضعها، وتنقبض نفسه من أي انحراف يسمعه..».
وعلى أيّة حال، فالرجل ليس إلا كما ذكره به علامة العراق محمد بهجة الأثري: «الأستاذ محمد كرد علي –رحمه الله- أمّة في رجل، أهّلته مواهبه العديدة لأن يكون أحد بناة النهضة الحديثة وقادتها الكبار في بلاد العرب، وسيرته مثال رائع لمضاء العزيمة وخلوص النية وصدق العمل وحبّ الخير وإرادة الإصلاح».[1]