#جان بابير#
صدر عن دار «آفا» للنشر والتوزيع، المجموعة القصصية الأولى للقاصّ الكردي «صالح حبش», وهي تقع في (65) صفحة من القطع المتوسط, وتضم بين دفتيها تسعة وخمسين قصة قصيرة, منها القصيرة جداً، أن يكتبَ المرء فهي بداية أن تحاكي الروح داخلك وتحاكم محيطك وبها تبدأ ولادتك الحقيقية من الرؤى الكثيفة التي تتربص بك لمخاض عسير، لتلف ما أنتجته ضمن قماط حينما قرأت المجموعة.
وقد قرأ لي سابقاً الكاتب أغلب القصص حينما كنا في كوباني بحكم صداقتي التي تمتد مع الكاتب لسنين طويلة، وأنا لست هنا بموضع التشريح والتنظير للقصص بقدر ما أود أن أتحدث عن انطباعي عنها ومتعة القراءة, هذا يعني أني أتجاوز الصمت لأبدأ بالصخب قليلاً في حضرة هذه النصوص المتشعبة التي تطال نواحٍ كثيرة من الحياة، لأنصاع لوطأة الكلمات التي ينسج القاص حبش منها قصصه بدلالات العناوين وتسلحه بمفردات تمارس كينونتها في المعنى والإسقاط بين الجنس القصصي والشعري لتدوين مواضيع مختلفة استطاع أن يحولها إلى مواضيع شيقة مكتوبة بلغة واضحة وبسيطة, فيها من رشاقة وجمال ولا تخلو من بعض الهفوات والسقطات من السرد والحشو الزائد، تدعو القارئ إلى أكثر من تأويل، وأنا كقارئ أصبحت قادراً أن أخرج من جسدي العاجز إلى جسد النصوص، كما يعبر القاص من الزمان إلى المكان, لأبدأ من عنوان أول قصة, والتي تحمل اسم المجموعة «#يوم ماطر#».
نعثر في سياق هذه القصة على عصيان وتمرد المخيلة لدى الكاتب وجمالية اللغة واختصارها، هنا النص يظهر بدلالته وأدواته التي استخدمها في النسج الحكائي، المطر، المظلة، الطقس، الكره المتبادل بين المظلة وصاحبها, لكنه في النهاية يفاجئنا بسرده للقصة, بخاتمتها أو القفلة التي أوجدها لنصمت أمامها لدقائق, لذا سوف أثبت القصة كاملة هنا:
«خرجتُ قبل نهاية الدوام بخمس دقائق، متأبطاً ذراع مظلتي التي نتبادل أنا وإياها كرهاً واضحاً، كرهي لها تجسد في إهمالي لمكان تعليقها، وكرهها لي كَمنَ في عصيانها لأوامري بالتظليل. بدأت أمشي بخطى سريعة، هاربة من هواجس الأحلام المغتالة. بدأت تمطر. توسلت إلى مظلتي ألاّ تخذلني هذه المرة، فاستجابت. شكرتها بخبث. فجأة، التصقت بي فتاة خانتها مظلتها، وبدأتُ أطيرُ، عندما لامس كتفها كتفي. رمقتها بنظرات حالمة. لم أنبس ببنت شفة. دعوتها إلى شرب فنجان من الشاي، فقبلت.
هذا ما سردْتُه لابني، عندما سألني:
- كيف تعرفت على أمي؟».
لولا الشغف الذي يمتلكه حبش لما لجأ إلى الكتابة, وبذلك يلتقط الهامشي اليوم ألعاباً لطفولة النص القصير الذي يدهشك بخاتمة غير متوقعة, ولكن هل وفق الكاتب في كل قصصه وحافظ على هذه السوية؟ لا, لم أشعر خلال قراءة كل القصص بنفس العلو, وإنما في بعض القصص هناك سرد لا داعي له مما أفقد القصة كثافتها كما الشجرة ينزاح عنها ظلها، هكذا يمضي الكاتب إلى مواضيعه المتنوعة بهدوء كما في قصة (الخروف الذي أحرق المدينة).
إن الذي يتأمل محتوى هذه القصة يجد أن الكاتب استرسل في الشرح بجمل كثيرة لحدث كان بإمكانه اختصاره وتكثيفه أكثر وبجمل أقل:
«وعندما التفت الخروف وراءه كانت النيران قد التهمت المدينة، ورائحة الشواء كانت تزكم الأنوف».
في الوقت الذي كان أن يحذف السطر الأخير كاملا دون أن يؤثر على ترابط القصة العضوي, وتمارس في الجمل الأخرى وظيفتها السردية والإتيان برسالته في الموضوع في اختياره للخروف الذي ابتعد عن القطيع سهوا هي دلالة التمرد والخروج عن الانضباط العام والمواعيد الثابتة واستخدامه للصدفة أثّر سلبا على القصة مضمونا وشكلاً.
سوف أعرّج الآن إلى العناوين ومن ثم العودة إلى القصص لنرى مدى انعكاس العنوان. للمحتوى سوف أختار بعض العناوين ونقف عليها واحدة تلو الأخرى «خطف امرأة، شهيد، حفلة تنكرية، صديقٌ مقربٌّ، عبارات ذات مغزى».
خطف امرأة:
الخطف والسرقة هو فعل يتم عليه المعاقبة ولم يخرج العنوان عن الوظيفة الموكلة إليه، واستنطاق نهديها والحوار معهما لتحديد الجهات, اليمين واليسار كانت رغبة بداخله ومن وحي مخيلة الشخص الموجود في القصة بإرادة القاص. أن يحمل اللوحة ويسرقها هي رغبة امتلاك الجمال من متحف دون أن يحسب أن يطاله الجزاء والعقاب، وحدث حسي ملموس بغياب اللوحة عن المكان، لكن ما الذي أتى بزوج المرأة ليلكمه، للتنقل من البسيط إلى المعقد والرمزي, إلى المادي والحسي بالتشبيه بين اللوحة والمرأة وتسليط زوج غيور وعنيف، إن القاص يكتب ويلغي معنىً للمسافةِ مثل عرّاب يعظ َنفسه ومرآته تعكس ما يحيط به كأنه يكتب برئتيه أصداء الآخرين في صوته، وبها يمتلك جسد المتن, يجيء إليه الحدث أو يذهب هو إليه لا فرق، لكنه وضعنا أمام الدهشة في الكثير من المواضيع التي طرحها وترك القلب يخفقُ في صدرِ القصص, تحدثَ بلساننا وفكّر عنا لنجد أنفسنا في أحداثها.
شهيد:
جميع القوميات والشعوب تمجّد الشهيد وتبجله والأديان والنواميس الكونية أيضاً, ولهذا الاسم وقع قوي واحترام لدى الجميع, الشهيد هو من يضحي من أجل الآخرين, لكن هذا العنوان يظهر لنا بشكل جلي. إن العنوان يستهزأ بقيمة الشهيد إذ لم يكن الشهيد الذي يجب أن يحمل الشارع والبيت اسمه, قد يكون شهيد صدفة في موقع خاطئ وضمن تصنيف خاطئ بدوافع من الكاتب, إنه لم يدان لأفعاله السيئة في التهريب وتجارة الممنوعات لشخص يدخل في ثورة ويفقد حياته، ليحمل اسما لم يكن يليق بسلوكه, وهو السر الذي يظهره بين الزمان والمكان.
حفلة تنكرية:
الأقنعة والمساحيق التي تخفي وجوهنا الحقيقية، في الغموض تكون هي الأكثر إثارة, لأننا نجهل ملامحها وتفاصيلها, أما التي تتجسد في صور نعرفها مسبقاً تختلف رؤيتنا لها، في هذه القصة يظهر بوضوح الزيف والرياء الذي نمارسه لتسقط الأقنعة وبعدها نكتشف الحقيقة عنوان اختزل الكثير من أسرارنا التي ما تزال تأخذ حيزاً كبيراً من عدم مكاشفاتنا لها إلى حد أن نحتفظ معها بالزيف ليكتشف الراوي في النهاية أنه عشق جارته من خلف القناع الذي ترتديه، تلك المرأة التي كان يكن لها الكره الشديد.
صديق مقربّ:
أن تحمل للصديق كل ما تحمله هذه الكلمة من معنى, لكن أن تجده ما يبيح له كل شيء رغم اختلاف المعتقد, لكنه يحرم عليك ما تريده أنت. في حياتنا اليومية تصادفنا موضوعات بهذا الشكل لنكتشف المفارقة بين أنا وهو, لكن مهما شرحت هذه الأقصوصة لن أستطيع أن أمنحها حقها, فالخاتمة أدهشتني لذا سأقتبس منها للقارئ أيضاً لكي أدفعه إلى تلك الخانة التي وقعت فيها ويشعر بتلك الصدمة, أقتبس الجزء الأخير من القصة:
«سألته، مازحاً ذات يومٍ:
- أتزوجني أختك، لأهبها كل كنوز قلبي؟
هَبَّتْ من مخيلتهِ أشباحٌ شبهُ مرئيةٍ. وَدِدْتُ لو يُلتهمُ لساني، وأفهمني النفيَّ المطلق في جوابه.تلوت بيني وبين نفسي كل صلوات أمي، وغيرت الموضوع.
دعاني صديقي أولّ أمسٍ إلى حفلة زواجه.
الغريب والمفاجئ في الموضوع، أن العروس كانت أختي، التي اختفت من المنزل قبل عدة أيام».
وهكذا سآتي إلى العنوان الأخير الذي اخترته , والذي يتفق مع عناوين عبارات أو دلالات ترمز إلى العمل أو المكان أو المهنة كما قصته (عبارات ذات مغزى). والعنوان أيضا بهذا الشكل يدل على وظيفة أو مكان ما بعينه ,فلا يمكن أن نقول للصيدلاني أنه حداد,أو أن نضع عنوانا معاكسا لا يدل على الوظيفة أو الموضوع المشار إليه.
عبارات ذات مغزى:
حينما يرى المرء هذه الجملة إلى ماذا تشير، حتما سيكون لكل شخص تصور مسبق, إنها كلمات لها مغزى وقريبة إلى الواقع الذي حدثت فيه القصة وتتأرجح بين المعنى ونقيضه خارجا وداخلا غير آبه وتعبرُ نحو رمزيتها,أحيانا بالهمس وأخرى بالصرخات, تتمنطق بالكناياتِ والاستعارات غير بعيدة عن المجازِ بجمل مبتكرة جميلة وأحيانا بجمل متعثرة تعاني الخلل وغير ناضجة.
هذه العِباراتٌ الكثيرة التي وردت في الأقصوصة لم تخدم القصة مع ذكرها كما وردت ,والعبارة التي أنهى بها قصته من الطبيعي جدا أن يفقد الذين يعانون أمراضا مزمنة حياتهم في المشفى، ليحكم معي القارئ والكاتب معا على هذه الجملة الأخيرة (لسنا مسؤولين عن فقدان الأشخاص داخل المشفى), فيها من السخرية التي لم تدعم الخاتمة .
«(مدخل). (مخرج ). (قبو ). (انتبه أشعة). (صيدلية). (مخبر). (إسعاف). (لا يُسمح بالدخول إلا للكادر الطبي). (إدارة). (محاسبة)… الخ».
في جميع غُرَف المشفى وفوق كل سرير كانت قد كُتِبَتْ عبارة غريبة جداً، لم أستوعبها: (لسنا مسؤولين عن فقدان الأشخاص داخل المشفى).
هذه العبارات تصبح آرائك في صالة ضيقة تزاحم بعضها البعض وتؤثث للفوضى أكثر من الترتيب , فتصبح حملا على كاهل النص.
أمي وأحلامي:
الحلم ما نجهله وفي نفس الوقت ما نتوق إليه لأننا في الواقع نفتقر إليه, الحلم رؤية يشوبها الضباب والدهشة معاً، نتخيل فيها الأمثل والأجمل لأننا نحتاج إليها، كأننا أنجبنا ذلك الحلم ويجب أن نكون مع طفولته لكيلا يتوه. سأعيد تركيب قصة (أمي وأحلامي) من جديد مع حذف وإزالة الكلمات التي لا تضعفها بل تجعلها متينة ومترابطة أكثر، وأضع القصة للكاتب حبش كما هي أعلاه وتحتها, سوف أعيد صياغتها من جديد.إليكم القصة كما هي:
أمي وأحلامي
منذ أن كنت طفلاً صغيراً، صغيراً جداً، كنت أحلم كثيراً. كلّ يومٍ أحلم فيه أنني أركض إلى حضن أمي، أسرد عليها حلمي. أحياناً كاملاً، أحياناً ناقصاً. أحياناً أحداثاً لم تكن. كبرت رويداً رويداً، أحلامي كانت أيضاً تكبر رويداً رويداً.
الغريب أن حضن أمي كان دائماً أكبر من كل أحلامي! بقيت على عادتي في سرد أحلامي لأمي كل صباحٍ. اليوم جاءتني أمي باكية، ارتمت في حضني، و بدأتْ بسرد حلمٍ, أمي كانت قد تجاوزت السبعين، وخرفت.
وهنا أثبت ما أعدت صياغته:
«أمي وأحلامي
منذ أن كنت طفلاً صغيراً، أحلم كثيراً. كلّ يومٍ أركض إلى حضن أمي، أسرد عليها حلمي. أحياناً كاملاً، وأخرى ناقصاً، وأحداثاً لم تكن، كبرت، أحلامي أيضاً تكبر رويداً رويداً.
الغريب أن حضن أمي كان دائماً أكبر من كل أحلامي! بقيت على عادتي في السرد لأمي كل صباحٍ. اليوم جاءتني أمي باكية، ارتمت في حضني، وبدأتْ بسرد حلمٍ. لقد خرفت».
لغة القاص سلسلة تسير دون أن تتعثر بنتوءات، بعيدة عن القواميس, وقد استخدم الكاتب حبش في بعض الهوامش السردية لغة شعرية وأخرى كتبها بلغة بسيطة واضحة, وأحيانا جنح نحو التقريرية المباشرة, تناول المواضيع السيئة والجيدة، يرفع راياته وينكسها كإشارات النصر والانكسار، حتى في حبكته يتزحلق أحياناً, لكنه في النهاية يهندس لنا حكاياته بعبثية الواقع المعاش في الحياة ويتشارك معنا الصرخة ذاتها, أحيانا يعلن معنا هدنة, وأخرى يبدأ مناوشاته ليصيبنا ما يصيبنا من راحة في النسيان وكدمات في العراك، يزرع صدى حرفه في نهر ويمضي مطروداً من النص حاملا ندبته الغائرة. هذه كانت انطباعات عن يوم ماطر للكاتب صالح حبش إن كانت أصابته بعضا من شظاياي لن يلومني لأنه منتبه لوصية النص وعمّا سيخلّد من أثر هذه الكتابة التي ستمضي على عكازين من الحكمة والجنون. .[1]