أ.د. فرست مرعي
إن المثقفين الكرد المتأثرين بقوة بالثقافة الغربية، وعلى صلة مع بعض عملاء فرنسا المنتدبة، يطمحون بدورهم الى تحويل الكردي (رجلاً كان أم إمرأة) الى شبيه بالغربي المعتبرنموذجاً للانسان (المتمدن). وفضلاً عن أن المبادىء الولسنية (= نسب الى الرئيس الامريكي ودورد ولسون) حول تقرير المصير قد وفرت الشرعية للمطالب السياسية للقومية الكردية، فقد وفر تبني بعض المستشرقين للخطاب القومي الكردي شرعية (علمية) للقومية الكردية، التي استمرت في التكون حتى الحرب العالمية الثانية. كما أسهم أوائل المختصين بالكردية من الفرنسيين في صياغة الخطاب الكردي وأمدوه بالأدوات الثقافية والمادية اللازمة…”. جوردي غورغاس، الحركة الكردية التركية في المنفى، ترجمة: جورج البطل، الفارابي – دار ئاراس، بيروت – أربيل، 2013م، ص11 – 12. و[جوردي غورغاس باحث متخصص في التاريخ الحديث وعلم الاجتماع و محاضر في جامعة فريبورغ وجامعة نيوشاتل وعامل في مؤسسة العلوم الوطنية السويسرية على ابحاث تختص بالأقليات في الشرق الأوسط].
وعلى ما يظهرفإن الباحث السويسري يقصد المستشرقين الفرنسيين من أمثال: روجيه ليسكوت(1914-1975م)، والدومنيكاني توما بوا (1900-1975م)، والجنرال بيير روندو( 1904- 2000م) كان لهم تأثير على البنية الذهنية للاخوين جلادت وكاميران بدرخان، فروجيه ليسكو ألف كتابا تحت عنوان: اليزيدية في سوريا وجبل سنجار. وتوماس بوا الف عدة كتب عن الكرد، منها: الكرد والحق، معرفة الاكراد – مع الاكراد، اليزيديون وأصولهم الدينية ومعابدهم والاديرة المسيحية في كردستان العراق. وبيير روندو مؤلف كتب عدة من أبرزها: الاكراد في سوريا، المطالب القومية الكردية (1943-1949)، وغيرها.
وفي الواقع فإننا غالباً ما نصادف ممارسات ومعتقدات في كردستان يصعب التوفيق بينها وبين الإسلام التقليدي، فالقوميون الكرد في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين كانوا مفتونين ومتباهين بتلك الانحرافات عن الإسلام (الدين العربي) مفسرين ذلك على أنها تمرد الروح الكردية على السيطرة العربية والتركية، على حد تعبير المستشرق الهولندي ( مارتن فان بروينسن)
ويستطرد بروينسن بالقول فخلال سنواتها الأولى كانت المجلة القومية الشهيرة (هاوار) التي صدرت في دمشق في ربيع عام 1932م واستمرت في صدورها إلى عام 1943م من قبل الاخوين جلادت أمين عالي بدرخان(1893-1952م)، وكاميران أمين عالي بدرخان(1896-1978م)، وعن علاقته بالفرنسيين يشير جوردي غورغاس بالقول: “لقد تحوّل مع أخيه كاميران لاتصالهما الدائم بالسلطات المنتدبة كمخبرين مميزين للفرنسيين“. ينظر: الحركة الكردية التركية في المنفى، ترجمة: جورج البطل، الفارابي – دار ئاراس، بيروت – أربيل، 2013م، ص155.
وفي السياق نفسه ييسلط باحث غربي آخر الضوء على هذه النقطة بالقول:” … زد على ذلك أن القوميين الكُرد يجنحون الى الجدال بأن الكرد أُجبروا على اعتناق الإسلام، وأن دين الكرد ( الحقيقي) أو ( الأصلي) كان الديانة الهندو – إيرانية الثنوية، الزرادشتية. ويُزعَم أيضاً أن هذه الديانة ما زالت باقية لدى طوائف، مثل الأيزيديين والكاكائيين أو ( أهل الحق )، فتصور بذلك على أنها أكثر تعبيراً عن الهوية الكردية من الإسلام السني الذي تعتنقه غالبية الكرد”. ينظر: ميخائيل ليزنبرغ، الإسلام السياسي بين الكرد، في الإثنية والدولة الاكراد في العراق وإيران وتركيا، إشراف: فالح عبدالجبار وهشام داود، ترجمة: عبدالإله النعيمي، معهد الدراسات الاستراتيجية، بغداد- بيروت، 2006م، ص331 –332.
وبشأن الاهتمام الكبير الذي يبديه الباحثون الغربيون لهذه الطوائف الباطنية، يقول ما نصه:” كثيراً ما يبدي الباحثون الاجانب اهتماماً خاصاً بالطوائف الأشد تمييزاً وتشويقاً في كردستان، الامر الذي أسفر عن إيلاء قدر غير متناسب من الاهتمام بجماعات، مثل الأيزيدية و( أهل الحق) والعلويين، ناهيك من الطوائف المسيحية واليهودية التي تعيش ( أو كانت تعيش) في المنطقة. ولا يعني انتقاد مثل هذه الابحاث القيمة والتي كثيراً ما تكون مثيرة للاهتمام، بل مجرد الإشارة الى أن الكثير من معتقدات الكرد وممارساتهم، وهم في غالبيتهم مسلمون سنة تقليديون، ما زالت مضماراً غير مطروق نسبياً”. المرجع السابق، ص332.
ويحاول الباحث الغربي إيضاح بأن الكثير من هذه الجماعات الباطنية لها أصول إسلامية، ولكن القوميين الكرد يحاولون الزعم بأن لهم أصولاً ما قبل إسلامية (= زرادشتية… الخ : “… أُريد أن أتناول بإيجاز ما يُزعَم بأنه طوائف باطنية غير إسلامية أو ( ما قبل إسلامية) في كردستان. فحتى هذه الجماعات، لها في الحقيقة أُصول لا تُنكَر في التقاليد الإسلامية ( الشعبية)، ولا يُمكن أن تُفهم فهماً وافياً بمعزل عن هذه الأصول. وقد تكون للمزاعم القائلة بأصولها ما قبل الإسلامية أو طابعها الكردي المحض، استعمالات تخدم أغراضاً قومية، ولكنها مزاعم على قدر كبير من الشطح إن لم تكن مضلّلة بشكل صارخ”. المرجع السابق، ص334.
وكانت مجلة هاوار تبدي اهتماماً كبيراً بالزرادشتية على أنها واحدة من مصادر الهوية الثقافية الكردية، ولذلك كانت اليزيدية ذات الجذور الزرادشتية – التي تم اضطهادها لوقت طويل باعتبارهم –عبدة الشيطان- تُمّجد من قبل بعض القوميين واعتباره دين الكرد دون منازع، ويضيف باحث آخر دعماً لفكرة بروينسن، بالقول:”… لم يتراجع آل بدرخان عن إضعاف موقف الاسلام في القومية الكردية باكتشافهم ( الدين الحقيقي للكرد) في اليزيدية، لقد أقام آل بدرخان خطاً وصلةً مباشرة بين اليزيدية والزرادشتية”. ينظر: جوردي غورغاس، الحركة الكردية التركية في المنفى، ص247.
وبخصوص اعتبار كاميران بدرخان اليزيدية هي تشويه للزرادشتية، فإنه يقول ما نصه:” إن الدين اليزيدي هو تشويه للديانة الزرادشتية، التي كانت ديانة جميع الكرد”. ولذلك كتب هو وشقيقه كاميران بدرخان عدة أبحاث ومقالات لدعم فكرتهم السابقة عن الزرادشتية، حيث يشير أحد الباحثين الى تلك الناحية بالقول:” وكتب آل بدرخان مقالات عديدة بالكردية والفرنسية للتعريف ببعض العناصر في الزرادشتية واليزيدية بزعم أنها كانت الديانة الاصلية للكرد. وكان المثقفون الكرد، بعملهم هذا يرمون الى أهداف عديدة “. جوردي غورغاس، الحركة الكردية التركية في المنفى، المرجع السابق، ص247 – 248.
وفي السياق نفسه، فإن جمعية خويبون أضفت هي الاخرى طابعاً مثالياً على الديانة اليزيدية بوصفها الديانة الكردية الحقيقية، ولكنها مع ذلك لم تضم في صفوفها يزيديين معروفين. ينظر: مارتن فان بروينسن، الأكراد وبناء الأمة، ترجمة: فالح عبد الجبار، بغداد – بيروت، معهد الدراسات الاستراتيجية، 2006م، ص29، الهامش(29).
ومهما يكن من أمر فإن الاهداف التي ترمي إليها النخبة الكردية هي دعم أسطورة التواصل بين الميديين والكرد، التي تستند في الاساس الى النظريات العديدة التي طرحها المستشرقون الاوروبيون حول اعتبار الكرد من الجنس الآري،.” ففي حين كانت المقالات بالكردية تصر على هذا التواصل لتأكيد انتساب الكرد الى عائلة الشعوب الهندو أوروبية، جاءت المقالات بالفرنسية لتشرح الانفراد الديني للكرد، وخاصةً غياب التعصب الذي يعود سببه الى بقايا الزرادشتية في حياتهم الدينية وفي عاداتهم”. المرجع السابق، ص247 – 248.
ويبدو أن هذه المقالات التي يشير إليها الباحثان الهولندي والسويسري (بروينسن وغورغاس) هي المقالات التي دبجها ( كاميران بدرخان) في مجلة هاوار في العدد 14 في سنة 1932م، باللغة الفرنسية تحت عنوان (ملاحظات حول الكتاب المقدس الاسود) الصفحة 289، ويقصد بها – المصحف الاسود – الكتاب المقدس لدى اليزيدية، وأعاد صياغتها باللغة الكردية بالابجدية اللاتينية في العدد 26 في سنة 1935م. تحت عنوان:(الشمس السوداء حول تقاليد بلاد الكرد).
ويخلص كاميران بدرخان الى نتيجة مفادها أن الكرد أصبحوا من خلال الديانة اليزيدية الورثة المدافعين عن مبادىء الخير والشر، مع وجود الإله الواحد أيضاً، في إشارة الى الديانة الزرادشتية، ويعترف في الاخير بالقول:” ورغم أن الكرد هم اليوم من المسلمين فعليهم التصرف حسب التعاليم الزرادشتية”. ينظر مقالة كاميران بدرخان في مجلة هاوار، العدد 14 في 1932م.
وحاول الاشقاء من آل بدرخان(= ثريا، وجلادت، وكاميران أبناء أمين عالي بدرخان) الادعاء بأن الزرادشتية ونسختها المتبدلة شكلياً، اليزيدية ( كانت هي ديانة جميع الكرد) قبل وصول الاسلام الى كردستان؛ وذلك لايجاد علاج لتشرذم المجتمع الكردي. وكانت أسطورة الايمان المشترك ضرورة لتأكيد وحدة الكرد في وقت كان الكرد مقسمين على معتقدات دينية ومذهبية مختلفة (= سنية، وشيعية، وعلوية، ويزيدية، وأهل الحق، والشبك، إلخ). ما يضعف إمكانية بناء حركة قومية متحررة من الميول الطاردة. كان المطلوب من الانتساب الى الزرادشتية، السماح لجميع الكرد أن يتمظهروا في ماضٍ أسطوريٍ كان الكرد فيه يشكلون جسماً واحداً، وأن يتجاوزوا خلافاتهم الحالية.
وكان من الممكن أن نرى في ذلك محاولة من آل بدرخان لإضفاء القداسة على اللغة الكردية، واحترامها باعتبارها قلباً للهوية الكردية التي ينبغي الدفاع عنها. ويستخدم اليزيديون في الواقع اللغة الكردية (= الكرمانجية) في طقوسهم الدينية، وكتاب اليزيديين المقدس مكتوب أيضاً باللغة الكردية، فضلاً أن الكرد هم حسب الميثولوجيا اليزيدية من أحفاد آدم وحواء، وأن الله ذاته كان يتكلم الكردية:” وقد تحدث الله مع آدم ومع الملك طاووس بهذه اللغة الكردية الرائعة ولهذا السبب كتب الانجيل الاسود (= المصحف الاسود) بالكردية”. ينظر: كاميران بدرخان، نبذة حول الانجيل الاسود، مجلة هاوار، دمشق، العدد14، 1932م، ص290.
وفي عام 1933م نشر كاميران بدرخان في مجلة هاوار أربعة صلوات حقيقية غير منشورة قبل ذك للديانة اليزيدية، وفي عام1942م نشر السيد عثمان صبري(= أحد السياسين الكرد السوريين) في مجلة روناهي (= النور) بعض المعلومات الجديدة عن اليزيديين في جبل سنجار على لسان بعض شيوخهم المهاجرين الى سورية. توما بوا، اليزيديون وأصولهم الدينية ومعابدهم والاديرة المسيحية في كردستان العراق، ترجمة: سعاد محمد خضر، السليمانية، بنكه ى زين، 2011م، ص20. ويظهر للباحث أن آل بدرخان يحاولون عن طريق ربط الكرد جميعاً بالزرادشتية أو اليزيدية تأكيد وحدة الكرد.
ولكن المستشرق الفرنسي توما بوا ينتقد هؤلاء الكتاب القوميين حول تشبثهم باليزيدية كبقايا من الدين الزرادشتي، بالقول:” ولكن أولئك الكتاب جميعاً قوميون من الكرد، يعتقدون أن اليزيديين هم بقايا سلالة الدين الزرادشتي والذي جميع الكرد يؤمنون به قديماً، ونتيجةً لذلك فلا علاقة لهم بالاسلام. وهي موضوعة من الصعب تأييدها في أيامنا هذه”. ينظر: توما بوا، اليزيديون وأصولهم الدينية ومعابدهم والاديرة المسيحية في كردستان العراق، ص20.
ويدعم وجهة نظره بهذا الصدد في الفقرة التي دونها في أحد كتابه الآخر بعنوان( الاكراد الهاربون من الاسلام)، حيث يقول ما نصه:” هذه الانحرافات للتطبيقات وللافكار الصوفية هي أساس بعض المذاهب المنحرفة التي تنتهي بتهربها من الاسلام، من نفس النقطة التي يمكن التردد فيها بشأن هيأتهم الحقيقية وارتباطهم الصحيح. أكثر هذه المذاهب المتناقضة أصلاً هي مذهب اليزيدية أو ( عبدة الشيطان) كما يسمونهم أحياناً، الذين أغلبهم من الاكراد… وبما أن المذهب سري فقد تراكمت عليه كافة أنواع الحدس والتخمين: عبدة الشمس، الثنائية الزردشتية، الوثنية الكردية الاصلية، فرع من المذاهب المسيحية، والميثرائية ( Mithrasism) حوله”. ينظر: توما بوا، مع الاكراد، ترجمة آواز زنكنه، بغداد، مديرية الثقافة الكردية، 1395ﮪ – 1975م، ص114. ويحاول المستشرق توما بوا التأكيد على أن اليزيدية فرقة صوفية خرجت من الاسلام بقوله:” وفي الحقيقة فقد خرج اليزيديون من الاسلام لاجل اثباته، إذ يكفي تأمل السلوك الخارجي لليزيدية، قبل التوغل في أفكارهم الدينية. ويظهر المحيط الاسلامي في مبحث أسماء العلم، والتاريخ ، وعدم رسم صورة بشرية، والختان…الخ. ونضيف إليها التضحية بالحيوانات وعبادة القديسين مع صور للحج الى مكة المكرمة عند قبر الشيخ عدي، حيث توجد الطقوس الإسلامية للحجاج واصطلاحات عربية غريبة جداً عند الاكراد. فالجو كله صوفي: القديسون المكرمون هم من الصوفيين المعروفين، والمراتب الدينية هي صوفية، الصلاة والنصوص الدينية الاخرى لها صلة قوية بمفرداتها وفكرها مع الصوفية الغامضة” مع الاكراد، المرجع السابق، ص114 – 115.
وبشأن التطور الذي حدث في اليزيدية وانفصالها التام عن الاسلام، يقول بالنص:” ولكن كيف وصل اليزيديون الى ضَلال اليوم ابتداء بقديس مسلم صحيح كالشيخ عدي (1073 –1162)..؟ لقد حدث التطور تدريجياً، إذ فتح شمس الدين حسام (1197 – 1246) الطريق لبدعة دينية. ثم بعد ذلك تجرأىالمشايعون الى فرعين: الاول هاجر الى سورية ومصر ( Qarafa) واستقر هناك لمدة طويلة بإيمان قويم تحت أسم ((عدوية)). أما الفرع الثاني فقد ظل في بلاد ما بين النهرين في شرق دجلة، ولم يقطع كل اتصال عقلي مع أتباع محمد (صلى الله عليه وسلم) فحسب، بل وأبعد نفسه من وجهة العقيدة، ليصبح خصمه نهائياً”. المرجع نفسه، ص115.
وبخصوص المذابح التي ارتكبت بحقهم ابتداءً من القرن السابع عشر الميلادي، يقول:” وفي القرن السابع عشر، لم تفد المذابح المكررة إلا في تعمق اليزيديين في ممارسات واعتقادات أكثر غرابة وأكثر سرية، بحيث أنَّ اليزيديين لم يعودوا مسلمين، ولكنه من الصعب انكار كونهم مسلمين في الأصل”. مع الاكراد، المرجع السابق، ص115.
ومن جانب آخر يذكر باحث أوروبي آخر:” إن الاطروحة الأحدث والأعمق عملياً، حول الأصول التاريخية لليزيديين هي أطروحة المستشرق الإيطالي ميكلنجلو جويدي (1886–1940م). التي نشر بخصوصها بحثين: الاول بعنوان ( نشأة اليزيدية)، والثاني بعنوان: أبحاث جديدة عن اليزيدية، نشرها في مجلة الدراسات الشرقية RSO ، ج13 عام1932م، ص286- 300، ثم ص377- 427. وحسب هذه الاطروحة فإن اليزيدية نشأت كرد فعل سياسية دينية موالية للأمويين، شبيهة بالحركة الموالية لعلي التي هي أساس الشيعية. انتقل اليزيديون الى سنجار، ثم أبعد الى الشمال بعد ذلك، وتركزت اليزيدية وابتعدت عن الإسلام الأرثوذكسي (= أهل السنة)، الى درجة فقدت معها أي قرب منه، لذلك اعتبرت اليزيدية كوثنية تدعي الإسلام، وذلك استفزاز حقيقي سبب فعلاً هجمات نارية من العلماء المسلمين السنة والشيعة، ما برر طويلاً القمع الذي عانى منه اليزيديون على يد العثمانيين والقبائل الكردية. وهذا ما يفسر الحظر المتبادل منذ بداية القرن العشرين، بين الكرد اليزيديين والكرد المسلمين. ينظر: جوردي غورغاس، الحركة الكردية التركية في المنفى، ص247 ، الهامش (2)؛ عبدالرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الرابعة،2003م، ص220.
وعندما رأى هولاء المثقفون العلمانيون أن توجيهاتهم وأفكارهم لا تستطيع النفاذ والتسرب الى المجتمع الكردي في تلك الحقبة؛ لكون الغالبية الساحقة منهم مسلمون ومن أتباع مذهب أهل السنة والجماعة، ولأن هذه الافكار لا تتناسب تلك المرحلة، حيث لم تكن الاحزاب الكردية العلمانية بشقيها الليبرالي واليساري قد تشكلت بعد، حيث يشير المستشرق الهولندي بروينسن الى هذه النقطة بالتحديد:” ولكن هؤلاء القوميون يشكلون أقلية صغيرة، وأتباع الطوائف المهرطقة (= المبتدعة) تتكون فقط من نسبة صغيرة من الكرد، لكن الغالبية الساحقة من الكرد مسلمون والكثيرين منهم يأخذون الدين على محمل الجد، لقد اكتشف محررو مجلة هاوار بأنه ينبغي عليهم أن يغيروا من نبرتها إذا ما أرادوا أن يجدوا حلقة أكبر من القراء؛ لذلك وبدءاً من سنة 1941م فصاعداً كان كل عدد يُفتتح بترجمة كردية للقرآن والأحاديث النبوية، والكثير من الكرد العلمانيين الآخرين، قبل ذلك وبعده، اكتشفوا الشيء ذاته لكي يُحدثوا التأثير بين الكرد، وكان ينبغي عليهم أن يكيّفوا أنفسهم مع الإسلام. ولكن ذلك ليس بالأمر السهل إذ كان معظم هؤلاء القوميين يعتبرون الإسلام كأحد القوى الرئيسية التي تضطهد شعبهم”. ينظر: مارتن فان بروينسن، الكرد والاسلام (2)، الترجمة عن الإنكليزية : راج آل محمد، موقع مدارات كرد، في1/5/2013م.
ولما كان العلم أو الراية من أهم خصوصيات الأقوام والأمم، فهو يرمز الى الطابع المقدس للامة، ويحظى باجلال المواطنين الامناء، ويرفع في المناسبات الاحتفالية، ويختصر العلم القومي على طريقته في التاريخ المجيد أو الاليم للوطن. ويقوم بالنسبة للافراد الذين يعتبرونه، يصهرهم في الحاضر، وأيضاً في التاريخ، لأنه ينتسب الى أولئك الذين دافعوا عنه ومجدوه، يحدث بذلك حلفاً مقدساً بين الأحياء، وبين الوجوه البارزة في الماضي، وفي المستقبل. ويشكل علم كردستان، مثله مثل خريطة ( كردستان اكبرى) جواباً رمزياً على منطق تقسيم كردستان، وعلاجاً مؤقتاً في غياب دولة ذات حدود مرسومة معترف بها في المجتمع الدولي. يرمز العلم الى وحدة الكرد رغم الانقسامات الداخلية. جوردي غورغاس، الحركة الكردية التركية في المنفى، ص240.
ويضيف أحد الباحثين الأوروبيين أن إضافة الشمس الى العلم الكردي ماهو إلا تعبير عن الهروب من الرموز المتمثلة للاسلام كالهلال:” إن اضافة الشمس في الحالة الكردية، يمكن أن يكون تعبيراً عن الرغية في إدخال رمز ديني، فبدلاً من اعتماد الهلال المرتبط بالاسلام، فضل القوميون الكرد، على ما يبدو، رمزاً لديانات سابقة على الاسلام مثل الزرادشتية، فالشمس على غرار ألوان العلم، تُقَرِب كذلك الكُرد من الشعوب الإيرانية مع إبعادهم أيضاً، عن الترك والعرب”. جوردي غورغاس، الحركة الكردية التركية في المنفى، ص241.
ومن جانب فإن الشاعر القومي الكردي جَگَرْخويْن (1903-1984م) والذي كان ينتمي إلى الحلقة المحيطة ب مجلة (هاوار)، فضلاً عن عضويته في جمعية خويبون (= الاستقلال) التي تأسست عام1927م في مصيف بحمدون في لبنان، كان يعبر عن خيبة أمله الى نهاية حياته؛ لتمسك الكرد الدائم بالإسلام، جگرخوين نفسه كان في شبابه قد قام بالدراسة الدينية التقليدية في المدارس في أجزاء مختلفة من كردستان، فيما بعد أفسح تقواه الإسلامي المجال تدريجياً لشعور قومي قوي للأمة الكردية واهتماماً زائداً بالزرادشتية. يحتوي المجلد الأول من كتابه (تاريخ كردستان) الذي نشر بعد وفاته والذي يتطرق إلى فترة الجاهلية (ما قبل الإسلام) على فصل قصير عن دين الكٌرد في الوقت الحاضر(= الاسلام). فيما يخصص صفحات طويلة عن الزرادشتية وانقساماتها. وبدلاً من الملاحظة الدالة على الرضا التي أبداها بعضاً من بني جلدته قبل نصف قرن من أن الكرد مسلمون فقط بمقارنتهم مع الكفار، فإن جگرخوين يصورّ الأكراد كمسلمين أتقياء ولكنهم جهلاء ويتم استغلالهم من قبل الملالي والشيوخ الجشعين. وله عدة دواوين شعرية، اسم إحداها: ديوان ( زند آفستا)، كدليل على اعتزازه بهذه الديانة، حيث يقول بهذا الصدد:” … وحسب هذا الرأي فإن زرادشت هو من أكراد ميديا ولد في منطقة أذربيجان ( أتروباتين) الحالية بالقرب من بحيرة أورمية…”، ويكرر القول مرة أخرى بالقول:”فإن زرادشت هو كردي من ميديا على أساس أنه يعد زرادشت كردياً من إقليم ميديا ينظر: جكر خوين، تاريخ كردستان، ترجمة: خالد مسور، بيروت، مطبعة أميرال، 1996م، ص28 – 30، 39.
وعلى الصعيد نفسه يذكر يونان هرمز المترجم للصحفيين للاجانب القادمين الى مناطق قيادة االحركة الكردية في أيام ثورة ايلول 1961 – 1975م، بقيادة ملا مصطفى البارزاني، ما نصه:” … أتذكر أني كنت مرة مع كاك محسن دزه يي وخال عزيز عقراوي(= قياديين في الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي في تلك الحقبة) وهما محملان برواتب البيشمه ركه ومعي الصحفي الانكليزي (ديرك كينان ) مراسل جريدة الاوبزرفر البريطانية، ترافقنا مفرزة من البيشمه ركه ونحن في طريقنا الى هيزي سه فين وده شتى هه ولير، إننا اضطررنا بسبب حلول الظلام وهطول المطر الغزيز الى اللجوء الى مضاربهم (= الكوجر(= البدو الكُرد القادمين من مرابع الزورزان في كردستان تركيا)، وهم معلقون بين السماء والارض على سفح الجبل الذي يقع فوق بيتواته (= كيوه ره ش المطل على قضاء رانية الواقعة شمال غرب مدينة السليمانية)، فنحرو لنا الذبائح وأضرموا لنا النيران لتجفيف ثيابنا. لقد غمرونا بكرمهم الحاتمي، فأمضينا ليلتنا في ضيافتهم. ولما وصلنا مقر هيز(= لواء) سه فين في هيران (= ناحية تابعة لشقلاوة وتقع شرقيها) ونازنين، أخذ (الخال عزيز) يطلعنا على ملف ضخم يضم بين دفتيه أوراقاً وقصاصات لمعجمه الكردي الانكليزي الذي كان بصدد تأليفه، فأعجبت باهتماماته الثقافية واللغوية وهو رجل عسكري. ومن خلال مناقشتي معه تبين لي أنه لا يتردد في المجاهرة بالفلسفة الزرادشتية التي كان لها بعض الاتباع في كلاله (= مقر قيادة الحركة الكردية، قريبة من الحدود الايرانية)، يتزعمهم (علي زرادشتي) بطريقة تذكرك بطرائق الفلاسفة الاغريق”. ينظر، يونان هرمز، أيامي في ثورة كردستان، اربيل ، دار ئاراس، الطبعة الثانية، 2001م، ص93 – 94.
كما تجب الإشارة إلى أن غالبية الجيل الأول من الرعيل السياسي الكردي الذين تثقفوا على أبجديات الليبرالية كانوا يضمرون نوعاً من الجفاء تجاه الإسلام كنظام حياة، أما الذين تربوا على الأفكار الماركسية اللينينية التي وردتهم عن طريق أدبيات الحزب الشيوعي السوفياتي وعن طريق الماركسيين العرب من السوريين واللبنانين، فإنهم كانوا يضمرون العداء تجاه الإسلام كدين ونظام حياة في آنٍ واحد، وهذا ما انعكس بدوره على أطروحات الجيل الثاني والثالث من هؤلاء المثقفين والسياسيين الكرد
لذا فإن الأفكار العلمانية قد غزت المجتمع الكردي مثله في ذلك مثل بقية المجتمعات الإسلامية المحيطة به، لأسباب عديدة قد لا يكون المجتمع الكردي بدعاً في هذا المجال، فضلاً عن ذلك أن الأحزاب الكردية العلمانية بشتى أصنافها من قومية ويسارية (اشتراكية وماركسية) كان لها دور كبير في تعزيز القيم المناوئة للإسلام ديناً ونظام حياة، خاصة بعد سيطرتها على مقاليد الأمور في كردستان العراق اعتباراً من سنة 1992م وحتى كتابة هذه الأسطر، ويبدو واضحاً أن الحزبين الرئيسيين الديمقراطي الكردستاني (حدك) والاتحاد الوطني الكردستاني (آوك)، وبعيداً عن صراعهما على السلطة، كانا منهمكين في مواجهة الإسلاميين في نضال خفي حول التوجه الذي يجب أن تتخذه الحركة القومية الكردية، وكذلك حول تحديد هوية وتوجه حكومة إقليم كردستان العراق، فالقيادة الكردية كانت تتباهى دائماً بتزعمها حركة قومية علمانية ديمقراطية. وبالفعل كما يوضح أحد الباحثين العراقيين الماركسيين (فالح عبد الجبار) :” فإن الفكر القومي الكردي كان يتميز بصبغة إثنية علمانية تتناقض تناقضاً صارخاً مع الفكر الإسلامي الذي انتشر في العالم العربي… وأصبحت مقاتلة الإسلاميين المتشددين مشروعاً مشتركاً ل(حدك) و(آوك) للفوز بدعم الكرد من ذوي الفكر العلماني، والنجاح في الوقت نفسه في تحسين صورة الكرد في أعين الولايات المتحدة وتوحيد الصفوف معها عشية حرب العراق”.
من جانب آخر فإن محاولة بعض المثقفين الكرد العلمانيين من ماركسسين وليبراليين ولا دينيين تخليص زرادشت من ايرانيته وفارسيته وإعادة انتاجه كنبي كردي؟، لا يقع خارج الصراع الحزبي والمناطقي في كردستان العراق، بالاضافة الى التدخلات الاقليمية، وتم الدعاية لهذا الغرض من خلال طبع إحدى أقسام الآفستا (=الكاثا – الكاتا – الاناشيد) باللغة الكردية – اللهجة السورانية، مع كتب أخرى تخص الزرادشتية على حساب مركز الفردوسي في لندن. ومن المعلوم أن الفردوسي هو صاحب كتاب (الشاهنامة) الذي يعده المثقفون الفرس (قرآن الفرس)، فما هي علاقة الكرد بالشاعر الفارسي الفردوسي المدفون في مدينة ( طوس القديمة ( مشهد الحالية) الواقعة على الحدود الايرانية – الافغانية؟.
ومن الجدير ذكره أنه تم ادراج صورة العلم الفارسي الساساني (درفيش كاويان- راية كاوه) في مقدمة أحد أقسام الآفستا المترجمة الى الكردية؛ كدليل على تضامن هؤلاء مع الفرس الساسانيين ضد العرب المسلمين، في إشارة الى معركة القادسية التي استطاع الصحابي (ضرار بن الخطاب الفهري) من قتل حامل راية(درفيش كاويان)، ولذلك منحه الصحابي القائد (سعد بن ابي وقاص) جائزة كبيرة تقديراً لشجاعته.
إن الدعاية للزرادشتية التي قد بلغت اليوم أوجها وأصبحت شعاراً لدغدغة العواطف القومية!، ليست في الحقيقة إلا ستاراً لنشاطٍ سياسيٍ مدروسٍ ومخططٍ له حدوده وأبعاده من قبل ايران وأنصارها من بعض الاحزاب الكردية اليسارية وبعض المثقفين الكُرد المعادين للاسلام، الذين يحاولون تسويق الأيديولوجيات الوهمية لملء الفراغ النفسي الذي يعانونه، بدل بناء مجتمعهم على أسسٍ قويمة تعتمد على الاصالة النابعة من قيمهم الاسلامية الاصلية ومن المعاصرة التي لا بد منها؛ بعد أن فشلت محاولاتهم البهلوانية للفصل بين الاسلام والكرد، أوعلى اقل تقدير محاولات زعزعته بالزعم أن الاسلام دين العرب؟، وأن الزرادشتية الدين القومي للكرد؟، وأن عليهم الرجوع الى أسلافهم، وقد لاقت هذه الفكرة بعض الرواج بعد الهجمات العنيفة التي شنها تنظيم داعش على كردستان في شهر آب/ اغسطس عام2014م، حيث تم الاعتراف بالزرادشتية بعد حوالي سبعة أشهر كديانة رسمية في الإقليم وتحديداً في 19/3/2015م، وقال مدير العلاقات والإعلام في وزارة الاوقاف والشؤون الدينية في إقليم كردستان (مريوان النقشبندي)، في بيان له في 1/12/2015م إن: ” أتباع الديانة الزرادشتية ظهروا من جديد في كردستان، وقدموا طلبا رسميا ليكون لهم ممثل في الوزارة، وأن يتم افتتاح معابدهم الخاصة، وأن الأشهر الأخيرة شهدت عودة هؤلاء في الأوساط الجماهيرية والثقافية الكردستانية بشكل محسوس، وهو ما يشير إلى هجرة الكرد المسلمين لديانتهم والتوجه إلى دينهم القديم؟” وفق قوله.
وفي هذا الصدد صرح أحد كبار المسؤولين الاتراك في 2 أيار/مايو 2015م، في كلمة ألقاها خلال مراسم افتتاح مجموعة من المشاريع التنموية، بولاية بطمان في إشارة إلى معسكرات حزب العمال الكردستاني: ” نملك وثائق تؤكّد قيام القائمين على تلك المعسكرات بتعليم مبادئ الديانة الزرادشتية لعناصرهم، علينا إدراك ذلك بشكل جيد وشرحه لأخوتنا الأكراد…”.
وبغض النظر عن تصريحات المسؤولين الكردي والتركي وغيرهم، فإن الكردي المسلم لا يرجع الى الزرادشتية التي عفا عليها الزمن، بسبب كونها ديانة فارسية بامتياز، وأن معظم أو غالبية معابد النيران تقع ضمن المجال القومي الفارسي تحديداً، في اقاليم: فارس، وكرمان، وخراسان، وطبرستان، ومازندران، وكيلان، والديلم، والاجزاء الشرقية من إقليم الجبال جنوب وغرب منطقة الري التي بنيت مدينة طهران على أنقاضها.
ومن جهة أخرى فإن العالم والباحث الكردي توفيق وهبي بك (1890 – 1984م)، ينفي انتشار الزرادشتية في الجبهة الغربية من هضبة إيران ( = كردستان ولورستان)، بقوله:”… كذلك فإن الديانة الزرادشتية وإن كانت قد ظهرت في إيران في هذه الآونة، إلا أنها لم تكن قد انتشرت في الجبهة الغربية من هضبة إيران…”. ينظر توفيق وهبي بك، الآثار الكاملة، إعداد: رفيق صالح، السليمانية، بنكه ى زين، 2006م، ص45.
ويستطرد العالم الكردي (توفيق وهبي بك)، أن الزرادشتيون كانوا يحاولون نشر ديانتهم في غرب إيران، ولكنهم كانوا يلاقون مقاومة من جانب العقائد القديمة (= ديانة ايران القديمة)، في إشارة واضحة الى الديانة الميثرائية، حيث يقول بهذا الصدد:” كان التبشير بالديانة الزرادشتية في العهد البرثي (= الاشكاني) منتحياً ناحية الغرب من هضبة إيران، وكانت لها قوتها الفعالة في أواخر هذا الدور بصورة خاصة في حين أن العقائد القديمة (= ديانة إيران القديمة) كانت نشطة أيضاً في مقاومتها من أخرى، ثم اتخذت المزديسنية في عهد شابور الثاني الساساني ديناً رسمياً لايران، وكأنها كانت توفق وتمزج بين الديانة الزردشتية وبين العقائد الايرانية القديمة”. ينظر: توفيق وهبي بك، الاعمال الكاملة، اعداد: رفيق صالح، السليمانية، بنكه ى زين، 2006، ص51.
وبشأن المقاومة التي أبداها رؤوساء القبائل والعشائر المستقلة من الكرد، لأنهم حسب المؤرخين والمستشرقين، كان يطلق عليهم المؤرخ المسلم الطبري ( أعراب فارس)، يقول ما نصه:” أما في العهد الساساني فإن الديانة المزديسنية وإن كانت قد بلغت أوج القوة والمتانة إلا أنها لم تستطع أن تسود كل شبر من المناطق الايرانية، ويظهر لنا من محتويات (كاتها- كاتا). إن الديانة الزرادشتية كانت تعني بالشؤون المالية والقروية والزراعية، وتعارض الترحل والعيش في الخيام، حتى أن زرادشت نفسه كان يكره الرحل وقطاع الطرق واللصوص والاقطاعيين الذين كانوا يعتمدون في عيشهم على الظلم والغدر والسلب والنهب والظعن، فإن إصلاحات (زردشت) بإلغائه الالهة التي كانت تتفق صفاتها مع ما هم عليه من الغدر والظلم، وبدعوته الى ترك الترحل، للتطور من الحياة البدوية البدائية الى السكنى في القرى والمدن والاشغال بالزراعة، كانت جميعاً تتنافى وتخالف أطباعهم وعاداتهم ومصالحهم ومنافعهم، ومما لا ريب فيه أن رؤوساء تلك القبائل والعشائر المستقلة في شؤونها والمتربية على المنازعات والحروب كانوا يبذلون الجهود للاحتفاظ بمراكزهم ومصالحهم الشخصية والحيلولة دون انفلاتها من أيديهم. وفي وسعنا القول أن الديانة المزديسنية وإن كانت قد انتشرت بين المدنيين والقرويين سواءً، إلا أنها لم تنجح النجاح الكامل في الانتشار والتوسع بين العشائر المحاربة الخاضعة لرؤوسائها خضوعاً تقليدياً أعمى. ينظر: توفيق وهبي، الاعمال الكاملة، المرجع السابق، ص52.
وهذا دليل واضح من عالم كردي هو ( توفيق وهبي) على أن الزرادشتية لم تستطع التغلغل بين صفوف القبائل الكردية الرُحَل،؛ لأن رؤوساء القبائل الكردية كانوا يحاولون الاحتفاظ بمراكزهم ومصالحم الشخصية على حساب هذه الديانة على حد تعبيره.
كذلك يجب أن لا ننسى أن الزرادشتية تتناسب مع الاقوام التي تمتهن الزراعة، أي بعبارة أخرى مجتمعات مستقرة سواءً في المدن أو البلدات أو المدن، وهذا لا يتناسب مع المجتمع الكردي الذي كانت البداوة هي السائدة في تلك الحقبة واستمر هذا النمط الى أيامنا هذه.
وعلى السياق نفسه يذكر أحد الباحثين العرب أن الزرادشتية كانت خاصة بالعنصر الفارسي، ودليل ذلك قوله:” والغريب في الأمر أن المؤرخين لم يسمعوا بدخول أحد من ملوك وأمراء الحيرة(= دولة المناذرة العرب الواقعة جنوب غرب بغداد غرب مدينة النجف) الذي عينهم الفرس على العرب في المجوسية، مع اتصالهم الوثيق بهم، ووجود الفرس في أرضهم وفي عاصمتهم، على حين نجد بعضاً منهم قد دخل في النصرانية، مما ينبىء بتحول الدين في نهاية المطاف الى دين قومي خاص(= فارسي) بهم لجنس آري، وهو ما عليه المجوس في إيران والهند”. ينظر: الشفيع الماحي أحمد، زرادشت والزرادشتية، جامعة الملك سعود، قسم الدراسات الاسلامية، الرسالة: 160، ص96.
وتجدر الاشارة إليه أن جد أردشير( ساسان) كان قيماً على بيت نار أناهيتا(= عشتار في العراق، وأفروديت في اليونان، وفينوس في إيطاليا) في مدينة اصطخر الواقعة جنوب إيران بالقرب من شيراز، وأن الاسرة الساسانية حافظت على صلتها القريبة بهذا البيت، وكان هناك معابد يختص كل منها بإله، ومن المحتمل أن تكون المعابد بصفة مخصصة لعبادة آلهة الشريعة الزردشتية جميعاً وأنها كانت من نوع واحد فكان مركز الخدمة المقدسة هو الهيكل الذي فيه النار المقدسة. ويمثل هذا النوع من المعابد في أيامنا معبد نار مدينة يزد، وقد حول الى مسجد كبير منذ الفتح الاسلامي. ويصف المسعودي خرائب بيت النار القديم في اصطخر، وكان في أيامه مسجد سليمان فيقول:” وللفرس بيت نار باصطخر تعظمه المجوس، كان في قديم الزمان للأصنام فاخرجتها حماية بنت بهمن بن اسفنديار وجعلته بيت نار، ثم نقلت عنه النار فخرب…”. مروج الذهب ومعادن الجوهر، بيروت، دار الكتب العلمية،1406ﮪ – 1986م، ج2، ص269؛ كريستنسن، إيران في عهد الساسانيين، ص150.
وقد امتازت ثلاثة بيوت من بيوت النار بين المعابد المنبثة في الدولة الساسانية كلها، فكانت تتمتع بتقديس خاص، وهي البيوت الثلاثة التي حفظت فيها النيران الثلاث المسماة:
آذر كُشنسب: وهي النار الملكية، وكان معبدها في الشمال من مدينة كنجك (= شيز) بأذربيجان، وكان الملوك الفرس الساسانيون يحجون الى هذا البيت العظيم حين الأزمات،
وآذر فربغ: وهي حسب رواية البندهشن، فوق جبل روشن في كابلستان بناحية كابل، غير أن المستشرق الامريكي جاكسون يحدد موقعها في مدينة كاريان في اقليم فارس في منتصف المسافة بين سيراف على شاطىء الخليج الفارسي ودارابجرد.
وآذربرزين – مهر: معبد نار الزراع، وهو قائم في شرقي الدولة في جبال رِوَند شمال شرقي نيسابور. آرثر كريستنسن، ايران في عهد الساسانيين، ص154.
وكان في إيران معابد كثيرة من الدرجة الثانية ولكنها كانت محل رعاية كبيرة، وخاصة ما نسب تشييدها الى بعض الابطال الخرافيين الذين عاشوا في العصور البالية أو الى زرادشت نفسه، ومن أمثلة هذه البيوت، بيت النار في طوس ونيسابور وأرجان في اقليم فارس، وبيت نار كركرا في سيستان(= سجستان)، وبيت كويسا بين فارس وأصفهان. ينظر: المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، المصدر السابق، ج2، ص267- 271.
وتذكر أسماء بيوت للنار في قرى كثيرة من بلاد الجبال، وهي بلاد ميديا القديمة، ومنها نار قزوين، وشيروان قرب الري، وقومش – كومش (= لعلها هكتمبوليس الاشكانيين)، ويرى حتى اليوم، على قمة تل قريب من أصفهان خرائب بيت من بيوت النار.
وجاء في كتاب (كارنامك) أن الملك أردشيرالاول قد أقام ناراً من نيران ورهان في بوخت – أردير على شاطىء البحر(= الخليخ الفارسي – العربي)، وأقام كثيراً غيرها في أردشير خره. ينظر:كريستنسن، المرجع السابق، ص157 – 158.
وبسقوط الدولة الفارسية الساسانية على يد العرب المسلمين سقطت الديانة الزرادشتيىة هي الاخرى، لأنها كانت تؤام الدولة، يفهم من ذلك قول مؤسس الدولة ( أردشير بن بابك بن ساسان) لابنه شاهبور:” إن الديم والمُلك أخوان، ولا غنى لواحدٍ منهما عن صاحبه، فالدين أُس المُلك، والمَلِك حارسهُ، وما لم يكن له أُس فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع”. المسعودي، مروج الذهب، ج2، ص162.
وغني عن الاشارة فان الزرادشتيين الذين هربوا من إيران الى الهند وتحديداً الى مدن: بومباي، وسوارات، أطلقوا على أنفسهم اسم ( البارسيين – الفرس) ولا يزالون معروفين بهذا الاسم حتى الوقت الحاضر، كدليل على أن الزرادشتية خاصة بالعنصر الفارسي، وأن زوال الدولة الفارسية الساسانية أدى الى اضمحلال الزرادشتية في عقر دارهم في الهضبة الايرانية باقاليمها: فارس، وكرمان، وخراسان، وسجستان، وأذربيجان، وغيرها، وانتعاشها من جديد في شمال غرب الهند.
ولا بد من الاشارة الى أن المستشرق الالماني فلهم (= وليم) جيجر(1856-1943م) مستشرق متخصص في الإيرانيات والهنديات، حصل على الدكتوراه الأولى في سنة 1877م برسالة عنوانها الترجمة البهلوية للفصل الأول من الوندياد. والوندياد كتاب صلوات زرادشتية، والفصل الأول منه يحتوي على ذكر لستة عشر إقليما في شمال شرقي إيران.. أي أنها تقع خارج كردستان، فما هي إذن علاقة الوندياد أحد أهم أقسام الآفستا بالكرد وكردستان؟ انها ولعمر الحق مفارقة.
وغني عن التعريف فإن الزرادشتية لم تنتشر في كردستان إلا على الاطراف الهامشية، فمركز كردستان كان تغلب عليها أديان أخرى، منها: الوثنية الكردية والميثرائية واليهودية والمسيحية وغيرها، أشارت إليها المصادر البيزنطية و السريانية والارمنية، فالمسيحية كانت منتشرة في وسط وغرب وشمال كُردستان مع اليهودية والميثرائية والوثنية، في حين أن الزرادشتية كانت تنتشر فقط في شرق كردستان، والدليل على ذلك وجود عدة معابد نيران فيها فقط، أشارت إليها مصادر البلدانيين(= الجغرافيين) المسلمين فقط، بعكس الاديرة والكنائس المسيحية وكُنيسات اليهود التي كانت منتشرة بشكل لافت للنظر في كتب البلدانيين المسلمين وغير المسلمين. في حين أن غالبية معابد النيران الزرادشتية كانت تتركز في اقليم فارس مسقط رأس المجوسية الزرادشتية والدولة الفارسية الساسانية معاً، وإقليم كرمان ( = جنوب شرق إيران)، وإقليم خُراسان (= شمال شرق ايران)، وإقليم سيستان (= سجستان)، وإقليم طبرستان (= جنوب بحر قزوين)، وإقليم بكتريا – جرجان – كوركان) شرق بحر قزوين، وإقليم كيلان (غرب بحر قزوين).
علماً أن المعبد الوحيد الواقع في إقليم أذربيجان (آذر كُشناسب) وهي النار الملكية، وكان معبدها يقع في الشمال من مدينة كنجك (= شيز) بأذربيجان، وكان الملوك الفرس الساسانيون يحجون الى هذا البيت العظيم حين الأزمات.
وعلى الصعيد نفسه فقد تم افتتاح مقر لمنظمة يسنا للديانة الزرادشتية في مدينة دهوك في 2/9/2020م، وهو أشبه بمعبد للزرادشتيين، واكدت ممثلة منظمة يسنا في دهوك هيلان جيا، ان الهدف من افتتاح المعبد جاء لاحياء ثقافة وفلسفة الزرادشتية وخدمة خطاب زرادشت، واشارت الى ان اتباع الديانية الزرادشتية في دهوك تعرضوا الى العديد من التهديدات المباشرة وغير المباشرة، وخصوصا في مواقع التواصل الاجتماعي.
وبعدها بعدة أيام أي في يوم الاثنين 7/9/2020م تم لأول مرة افتتاح معبد للديانة الزرادشتية في أربيل عاصمة إقليم كوردستان والذي احتضن مراسم خاصة لاعتناق أكاديمي عراقي وزوجته للديانة، وقالت آوات حسام الدين ‘ طيب أحد مؤسسي منظمة يسنا وممثلة الديانة الزرادشتية في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بحكومة إقليم كردستان العراق:“افتتحنا معبد أربيل بحضور مسؤولين من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في إقليم كوردستان وعدد من المسؤولين وأبناء الديانة الزرادشتية، حيث تم استئجار منزل لهذا الغرض لحين بناء معبد خاص بنا“.
وأشارت آوات حسام الدين في حديثها لوكالة شفق نيوز، إلى أهمية افتتاح المعبد الزردشتي الذي يسمونه بAteshga) – المعبد) في أربيل، قائلة: “افتتاح المعبد له أهمية كبيرة في أربيل، حيث توجد البعثات الدبلوماسية الأجنبية ومقرات منظمات الأمم المتحدة ووزارات حكومة إقليم كوردستان“. واستطردت بالقول:“نحن الزرادشتيون في كردستان عازمون على المضي قدمًا، وهذا يتطلب جرأة وجهودًا لدفع النهضة الزرادشتية“.
كما أعلنت عن إقامة حفل الصدر الزرادشتي البوشي (اي اعتناق الديانة) للدكتور حيدر عصفور وزوجته ضحى، وجدير بالذكر أن الدكتور حيدر وزوجته ضحى من الشيعة العرب ومن مدينة بغداد، وهما من عائلة معروفة في بغداد (عائلة العصفور)، وأن حيدر باحث اقتصادي عراقي لديه أبحاث اقتصادية ومقابلات منشورة على الانترنت.
وذكرت آوات حسام الدين، المؤسسة المشاركة لمنظمة يسنا التي تروج لنشر الزرادشتية في كردستان منذ عام 2014م، إلى أن زهاء 15 ألفا سجلوا أنفسهم في المنظمة حتى الآن(= عدد مبالغ فيه)، وقالت إن معظم هؤلاء من الكُرد، لكن هناك عربا ًومسيحيين أيضا بين المنضوين تحت لوائها.
وعلى الرغم من اعتراف الحكومة الإقليمية في كردستان العراقرسميا بالزرادشتية منذ عام 2015م، فإن المتحولين من الإسلام لتلك الديانة ما زالوا مسجلين كمسلمين في سجلات الحكومة العراقية المركزية، وهو أمر لا تتوقع آوات حسام الدين أن يتغير في وقت قريب.
ومن جانب آخر فقد نشرت الاكاديمية الامريكية (إديث سزانتو) المحاضرة السابقة في الجامعة الامريكية في مدينة السليمانية والمحاضرة حالياً في جامعة ألباما Albama الامريكية بحثاً تحت عنوان:” كان زرادشت كرديًا! موجة الزرادشتية الجديدة بين الكورد في العراق“، واستهلته بمقدمة جاء فيها:” إشمئز الكورد من تصرفات وجرائم داعش، فقد تحول بعضهم عن الالتزام بمباديء الدين الاسلامي والبعض الاخر قد اختاروا الالحاد ، وبخاصة بعد سقوط مدينة الموصل في سنة 2014، وقد رأوا الجرائم التي ارتكبتها عصائب داعش. وهناك من قرر ان يختار العقيدة الزرادشتية. واستنادا الى اقوالهم فان الزرادشتية كان الدين اوالمعتقد القديم والاصيل للاكراد قبل الاسلام، لذا فقد رجعوا الى إعتناق دينهم القديم“.
وبخصوص افتتاح بعض المراكز الزرادشتية في إقليم كردستان، ومحاولة النخبة الكردية العلمانية الالتحاق بركب مرحلة ما بعد الحداثة، قالت :” في عام 2015 تم افتتاح مركزين للزرادشتية في السليمانية، بشكل رسمي ومعترف بها من قبل حكومة اقليم كوردستان. علما انهم يحاولون نشر الزرادشتية من خلال اصدارمطبوعات واصدارات دورية حول المباديء الموجودة في العقيدة الزرادشتية، بعيدا عن الطقوس التي كانت تمارس من قبل الزرادشتيين عبر العصور في إيران القديمة وفي جنوب آسيا(= الهند). وحسب اقوالهم فإن هذا النمط الجديد من الزردشتية تجسد مرحلة ما بعد التوجهات القومية والليبرالية ومرحلة ما بعد الحداثة. وكما يصرحون بان سبب تخلف المجتمع الكوردي هو الاسلام وانهم يسعون بجهودهم من اجل تصحيح الاخطاء واعادة نهضة هذه الامة من خلال الرجوع الى الزرادشتية العقيدة الاصلية والعريقة للكورد!.
وقد قامت الباحثة بدراسة ميدانية في مدينة السليمانية بحكم تواجدها هناك كمحاضرة في الجامعة الامريكية، بقولها:”وقد قمنا بدراسة المهام والنشاطات لهذان المركزان في السليمانية بشكل ميداني لغرض الدراسة والتحليل، وان هذه الدراسة تتناول حركة الزرادشتية الجديدة في السليمانية، وهي مدينة مهمة في اقليم كوردستان في العراق. وان هذه الدراسة تحلل وجهة نظر الزرادشتية الموجودين في السليمانية وآرائهم حول الشريعة الاسلامية وحول حقوق المرأة وحقوق الانسان وحرية واستقلالية الشعب الكوردي“.
يبدو أن الباحثة لا تعرف تاريخ وطقوس الزرادشتية، وإلا فإن الكلب له قدسية فيها وله مكانة أكثر من مكانة المرأة، ولو إطلعت على كتاب الفنديداد، أحد أقسام الآفستا – الكتاب المقدس لديهم، لرأيت العجب العجاب، ولعرفت مكانة المرأة وما تلاقيه من تعسف وشظف العيش وامتهان لكرامتها سواءً عند حدوث حالات الظمث (= العادة) أو عند الولادة، …الخ. فضلاً عن ذلك هناك نصوص كثيرة في الفنديداد وخاصةً الفاركارد(= الفصل) الخامس والسادس عشر تشيران إلى تحقير المرأة في الدين الزردشتي بدليل اعتبارها نجسة ويجب عزلها على غرارالمرأة اليهودية، واعتبار المرأة الحائض نجسة ووغير طاهرة، ومن يلامسها يصبح نجساً. مما مر ذكره تبين لنا بواسطة النصوص الصريحة من الكتاب الزرادشتي المقدس الآفِستا الذي يتكون من 21 نسكاً، التاسع عشر منه كتاب – الفنديداد – الذي يحوي نصوصاً صريحة في امتهان المرأة ونجاستها وحقارتها وعدم إنزالها مستوى الكلاب – حاشاها – وخاصةً في فترة الحيض التي تستمر لفترة طويلة من عمرها، وتكاد تكون حياتها جحيماً، لا تطاق؛ ويبدو في اعتقادي أن صعوبة الطقوس الدقيقة للزرادشتية وتكاليفها الشاقة والطهارة المبالغة فيها إلى حدٍ لا يوصف، وفق وجهة نظر المستشرقين البريطانين (توماس أرنولد المتوفى سنة1930م)، و(أدوارد براون المتوفى سنة1930م)، والنصوص المملة والمشوهة للافستا على حد تعبير المستشرقة البريطانية المختصة بالزرادشتية (ماري بويس)؛ جعلت المجوسية الزرادشتية تضعف وتتلاشى المسلمين أصحاب الشرائع السهلة.
وبشأن ظهور الديانة الزرادشتية من جديد، تستطرد في القول:”اعتناق الديانة الزرادشتية وترك الاسلام يعتبر (ردة) في الشريعة الاسلامية، في حين ان بعض الاكراد الملتزمين بالعقيدة الاسلامية يرون بأن انتشار ظاهرة اعتناق الديانة الزرادشتية تمثل اشكالية، بما ان هذا التيار قد لقى دعما من قبل الطبقة العلمانية اي السيكيولارية وبخاصة ضمن صفوف الكرد المغتربين الذين يعيشون في اوروبا. وقد يرجع السبب الى ان اغلبهم يعتقد بان الزرادشتية تمثل الهوية الكوردية القومية، مثلما ان اليزيدية تشكل جزءاً من المجتمع الكوردي، وترتبط ارتباطا وثيقا بالهوية الكوردية القومية“.
وعندما إشارتها الى الاحزاب الكردية الرئيسية السائدة في الساحة الكردستانية، قالت:” اصبحت الزرادشتية العقيدة المقدسة للحركات القومية في السبعينات والثمانينات في تركيا، بما انهم كانوا يعتقدون بأن الزرادشتية هي اصل الكورد. وكذلك الامر في كوردستان العراق. علما ان الحزبين الحاكمين في كوردستان الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني لم يعلنا التخلي عن الاسلام، علما ان عبدالله اوجلان الذي اسس (حزب العمال الكوردستاني) في تركيا، اعلن جليا بان العقيدة الزردشتية تتفوق على الشريعة الاسلامية من الناحية الاخلاقية والفلسفة الفكرية. واعتبراوجلان بان الزرادشتية تحتوي على قوة التحرير، وقد تحررالكورد من الاضطهاد وتحرر الفكر الكوردي من الاسلام والاضطهاد الذي فرضه الاسلام، ومن ظلم الاقطاعيين(= الآغوات والبكوات) على مستوى الاقاليم. يعتبر اوجلان بان الزرادشتية جزء مهم من تاريخ الكورد، بينما تم تاسيس مركزين للزرادشتية في السليمانية. في البداية كان حزب العمال الجهة الوحيدة التي تتعاطف مع الزرادشتية وتجد من اعتنق الزرادشتية من اعضاء الحزب، ولكن بعد سنة 2014 لم يقتصر الامر على حزب العمال فقط بل تجاوز الحدود وتجد من اعتنق هذه الديانة القديمة الجديدة في كوردستان العراق ايضا“.
والشىء الذي يجب على الاكاديمية الامريكية الاحاطة به، ما زال الكثيرون من أمثالها يحاولون ربط اسم أوجلان برفض الإيمان، ومع أن الرجل يعتز بالإسلام ويصفه بأنه يمثل آخِرالآفاق الكونية التي يمكن التحدث عنها باسم الدين. ويعلل أوجلان سر اكتساب الإسلام الصفة العالمية بفضل لغته وفلسفته. كما يتحدث السيد أوجلان عن كونية الإسلام وأنها (تستمد قوتها من وحدانية الله) ويفسر هذا بقوله:” علينا تجسيد المواقف العادلة والحرة الكائنة في صُلب البُعد الكونيّ للإسلام فيما يتعلق بالكائنات الحية عمومًا وبالمجتمعات البشرية بصورة خاصة. وهذا هو المقصود عندما يقال بضرورة النأي عن ظلم العباد وبعدم الدهس على نملة“.
فحتى إن كانت هذه التصريحات تكتيكية تحاول اللعب على الحبال السياسية، فإن لها مغزاها من قائد كردي زعيم حزب كردي ماركسي، طالم كان متهماً بمعاداة الاسلام وتراثه!؟.
وعند إشارتها الى الانتهاكات التي الحقها تنظيم داعش “بعد التصرفات والجرائم التي ارتكبتها ميليشات داعش، فقد ادى الى خيبة آمال الآلآف من الكورد، وتجد من ترك الاسلام وقد اعتنق العقيدة الزردشتية كملجأ للسكينة النفسية وكمصدر للفلسفة وفحوى الحياة. بدأت الزرادشتية بالانبعاث بين الكرد المغتربين منذ تسعينات القرن العشرين في البلدان الاوروبية، علما ان الذين قد عادوا الى كوردستان هم الذين قاموا بتأسيس المؤسسات الزرادشتية اعتباراً منذ 2015م. ولكن قبل 2015م كان الزرادشتيون يعتنقون هذا المعتقد كأفراد في المجتمع وليس في اطار مؤسسات او مجاميع محددة معترف بها قانونيا.( استنادا الى الدراسة التي قام بها سميث شادريفان – 2017م، هناك ما بين 10,000 الى 100,000 من الذين اعتنقوا الديانةالزرادشتية)“.
يبدو للباحث أن هذا العدد مبالغ فيه الى حد كبير، وأربأ بدراسة أمريكية تدعي العلم والمنهجية والحياد، أن تنزل مستواها الى هذا الحد، يظهر ذلك جلياً في محاولة إضعاف الإسلام في نفوس الكرد، وتعزيز كل الافكار والمعتقدات المناوئة للاسلام، عن طرق تضخيم عدد المتحولين من الاسلام الى الاديان الاخرى، واللعب على الاوتار الجنينية (العرقية والمناطقية) المختلفة.
أما بخصوص انتهاكات تنظيم داعش، فإن الباحث يعتقد بأن الزرادشتية الجديدة أطلت برأسها بعد هجمات داعش الارهابية في شهر آب/ اغسطس عام2014م على اليزيديين في سنجار مباشرةً، فبعد مضي ستة أشهر صدر القانون رقم (5) في عام2015م الذي يعترف بالزرادشتية كإحدى الديانات المصرحة لها قانوناً في إقليم كردستان، وتم افتتاح أول مركز لهم في 19/3/2015م في مدينة السليمانية حصرا.
وتنقل الباحثة الامريكية (إديث سزانتو) عن الاكاديمي الاوغندي الهندي المولد ( محمود ممداني) قوله:” بعد 11 سبتمبر انخرط الاعلام الامريكي في “حديث ثقافي” ، مما أدى إلى تسييس الثقافة والتجربة الدينية. على وجه التحديد، صنفت جميع المسلمين الوهابيين المحافظين على أنهم مسلمون سيئون. في حالة الأكراد، أصبحت هذه الحرب بين الأكراد، “المسلمين الطيبين”، وداعش، “المسلمين السيئين”. من خلال إعادة الإعلان عن الإسلام وتبرئة الثقافة الكردية، يسعى الكرد الذين تحولوا إلى الزرادشتية إلى الانحياز إلى الغرب من خلال توضيح أن الزرادشتية والهوية الكردية تتماشى مع القيم الغربية “المستنيرة”، مثل النزعة السلمية والمساواة بين الجنسين والديمقراطية، والعقلانية“. ينظر: المسلم الطيب والمسلم السيئ: أمريكا والحرب الباردة وجذور الإرهاب، نيويورك: بانثيون – راندوم هاوس، 2004م، ص766-775.
ووفقا لدراسة الباحث الامريكي (ماثيو ترافيس باربر) من جامعة شيكاغو والمختص بالاقليات الدينية في العراق: المسيحية، واليزيدية، والزرادشتية، الذي اعلن بأن هناك من يتحول الى العقيدة الزرادشتية، ولكنه لا يكشف عقيدته لعائلته وللمجتمع في محافظة دهوك، ولكن الحال يختلف في السليمانية فهناك مركزان رسميان واصبحا مكان لجمع كل من اعتنق الزرادشتية. تم تاسيس المركزين بشكل رسمي في 2015 في محافظة السليمانية. يقع المركز الزرادشتي الاول بالقرب من المكتب السياسي للاتحاد الوطني الكوردستاني والذي تم افتتاحه في 1/8/ 2015 م، بينما الثاني يقع في منطقة سكنية راقية بالقرب من السوق والذي تم افتتاحه بعد المركز الاول ببضعة أشه. وتم افتتاح المركز الثاني بعد الانقسام الذي حصل في صفوف المركز الاول، يقود المركز الاول من قبل (بير شاليار لقمان – فرهاد بهلوان) وهو شاب كردي في منتصف الثلاثينيات وقد عاش في بريطانيا لاكثر من عشرين سنةمضت.
وأضاف بأن هناك حركة ارتداد كبيرة عن الإسلام جارية في الشرق الأوسط، وهي حركة تولد في الوقت نفسه أقلية دينية جديدة. تشهد كردستان إحياءً متزايدًا تدريجيًا للزرادشتية حيث يتزايد عدد الكرد الذين يتحولون إلى التقاليد أو ينتمون إليها على مستويات مختلفة.
يبدو أن الباحثين الغربيين يخرجون عن حيادهم ومنهجيتهم العلمية عندما يتعلق الامر بالاسلام، فغالبية الاستطلاعات الغربية تشير الى أن الاسلام سيكون الدين الاول للبشرية بعد منتصف القرن الجاري، وهذا دليل على حيوية الاسلام وعظمته وجمعه بين الاصالة والمعاصرة، التي تفتقدها بقية أديان المعمورة بين الافراط في جانب والتفريط في جانب آخر، أو الاثنين معاً.
وعلى الرغم من أن بناء الزرادشتية الكردية يركز على استمرارية الطقوس الزرادشتية في الحياة الكردية المؤقتة، ولكن مع ذلك لا يهتم المتحولون الكرد المعاصرون بشكل عام بتعلم النصوص الزرادشتية أو اتباع الطقوس الزرادشتية الموثقة تاريخيًا كما تمارس في إيران والهند اليوم. إنهم يجردون الزرادشتية عمومًا من طقوسها وجوانبها الدينية و القانونية، ويعيدون إخضاعها للواجب الأخلاقي النظري البحت “الأفكار الطيبة ، والكلام الحسن ، والعمل الصالح” البعيد عن الالتزامات والتكاليف المطلوب القيام بها، والتي لا يستسيغها بعض أبناء الجيل الحالي الذين باتوا يتهربون من كل المسؤوليات، كما لاحظ ذلك الاكاديمي الكندي(ريتشارد فولتز) المختص بالدين الزرادشتي، وأضاف قائلاً:“ بأن العديد من المدافعين عن (الهوية الزرادشتية) هم في الواقع متشككون(= لا أدريون)، أو حتى يعارضون الدين(= ملحدون)، ويرون أن الأخلاق الزرادشتية المبسطة هي بديل غير ضار”. ينظر: ريتشارد فولتز، الزرادشتيون الكرد – أقلية ناشئة في العراق ما وراء داعش: تاريخ ومستقبل الأقليات في العراق، 2019م.
وعلى أية حال فإن منظمة (يسنا) تدعم على وجه ٍ خاصٍ الفلسفة الزرادشتية وترفض صراحة قوانين الزرادشتية والطقوس والتكاليف الدينية باعتبارها “خرافات”. أي بعبارة أخرى يرفضون الزرادشتية الارثوذكسية (= الكلاسيكية). أما بالنسبة لمؤسسة منظمة (يسنا)آوات حسام الدين، فأنها تتبنى الزرادشتية الكردية كفكرة فلسفيةنظرية بحتة، أما طقوسها وممارساتها القانونية، فهي اختراعات فارسية حسبما تعتقد!، وهي ليست ملزمة لمن يرغب في العودة إلى الزرادشتية الكردية “الأصلية”، أو كما يقول آثراوان قادروك، أعلى شخصية دينية زرادشتية في إقليم كردستان العراق، والذي يردد القول: “إذا وصلت الزرادشتية إلى كل الإنسانية، فزرادشت هو نبي الكرد الذي سرقه الفرس”.
وتسعى كل من: آوات حسام الدين، وبير لقمان إلى تأسيس زرادشتية كردية، والتي وفقًا لكل منهما، هي الشكل الأصلي للزرادشتية الفلكية. في حالة آوات، كونها مفهومًا فلسفيًا، فإنهاتقدر العلم والحكمة وتعارض الإسلام الذي يوصف بالدين المتخلف وغير المنطقي!. تؤكد آوات على “الركائز الثلاث للزرادشتية”، “الأفكار الطيبة، والكلام الطيب، والعمل الصالح”، والتي تم تعريفها على نطاق واسع وبالتالي فهي لا تسمح فحسب، بل تتطلب القدرة على إصدار أحكام أخلاقية نظرية تعتمد على الذات فقط.
ونظراً لتشبث ( بيرلقمان حاجي كريم) بالزرادشتية الكلاسيكية ذات الطقوس والممارسات القانونية وفق الافستا، وأن الزرادشتية الكردية ليست تقليدًا مبتكرًا، على عكس (آوات حسام الدين طيب) التي تبنت الزرادشتية الفلسفية الخالية من الطقوس والممارسات القانونية (= الزرادشتية الكردية )؛ لذلك دب الخلاف بين أصحاب الاتجاهين، وسرعان ما أسفر هذا الخلاف عن تأسيس منظمة جديدة باسم (يسنا) لتنمية وتطوير الفلسفة الزرادشتية من قبل ( آوات حسام الدين طيب). لكن ما يجمعهما فقط اعتناق الديانةالزردشتية. علما انهما يتعاونا من اجل اصدار قانون لحمايتهم من الاتهامات التي توجه إليهم من المسلمين عامةً وتحديداً السلفيين منهم.
ويظهر أن هذا الخلاف يعيد الى الاذهان الخلاف الذي نشب بين الزرادشتيين البارسيين الهنود في مطلع القرن العشرين، بين الزرادشتيين الارثوذكس(الكلاسيكيين) وبين الزرادشتيين الاصلاحيين الذي انبهروا بالحركة الانجيلية البروتستانتية.
ومن جانب آخر تنقل المحاضرة الامريكية إديث سزانتو، عن (رسم شاد)، وهو كردي مهاجر عائد (= من أوروبا) يبلغ من العمر 60 عامًا تقريبًا وهو جزء من حاشية بير لقمان، مشهد قرية خيالي يحن إلى الماضي، مناشدًا العواطف وعلم الجمال، قدم ثلاثة اختبارات تالية كحالات تكشف فيها ممارسات أجداده عن أصولهم الزرادشتية. الأولى: أن الكرد يستخدمون حامل ثلاثي القوائم معدني لوضع غلاياتهم عند الطهي على نار مفتوحة. ومع ذلك فإن العديد من الشعوب الأخرى، باستثناء الثقافات الزرادشتية، تفعل الشيء نفسه. الثانية: أن جدته لن تتخلص من شعرها بعد أن تقصه، لقد دفنته في الحائط، لقد فسر ذلك على أنه يتماشى مع الاعتقاد الزرادشتي بأن البشرلا ينبغي أن يدفنوا الجثث في الأرض لأنها تلوث الأرض. ومع ذلك ، هناك الكثير من المسلمين والمسيحيين الذين لا يتخلصون من الشعر فحسب، بل يدفنونه خوفًا من استخدامه في السحر الضار لهم، والحقيقة أن عادة تقليم الاظافر وقص الشعر وإخفائها في شقوق الجدران أو بين الصخور والاحجار هي من ممارسات واعتقادات الديانة الميثرائية التي ظهرت قبل الزرادشتية. والثالثة: أن والده الذي أقسم بالنور والنار على الرغم من كونه مسلمًا، وهي عناصر زرادشتية مقدسة.
وعندما تتطرق الباحثة الى المركز الزرادشتي الخاص ب ( بير لقمان)، تقول ما نصه:”يضم مركز بير لقمان غرفة مخصصة للطقوس الزرادشتية. إنه لا يحتوي على شعلة أبدية، ولكنه مجهز ببضع شموع وأيونات ووسائد وأعلام كردية. في هذه الغرفة، يجتمع أتباع بير لقمان من حين لآخر لغناء ترانيم زرادشت، التي ترجمها بير لقمان إلى اللغة الكردية – اللهجة السورانية. تركز منظمة بير لقمان أيضًا على الرموز الزرادشتية بشكل أكبر من “يسنا”. يرتدي جميع أتباعه دبابيس أو قلادات تظهر الفارفاهرFarvahar ، الحاكم المجنح المكون من ثلاث طبقات والذي يمثل الحكمة في شكل كاهن، كما يعرض بير لقمان وأتباعه الفرفاهار في منازلهم وعلى الحائط وعلى المجوهرات والملابس وعلى التماثيل الصغيرة المزخرفة. يتم استيراد معظمها من جمهورية إيرانالإسلامية؟.
وتشير الباحثة في العديد من المواضع الى حزب العمال ودعمه للزرادشتية: من خلال مؤلفات عبدالله أوجلان وتحليلها” بالنسبة لحزب العمال الكردستاني، تعني الزرادشتية الكردية احترام الأرض، والطبيعة، والحيوانات، والمساواة بين الجنسين. هذه الأفكار تم تبنيها من قبل الكرد في السليمانية. على سبيل المثال، تبنتآوات حسام الدين كلبًا يتم تربيته في ساحة منظمتها، من خلال مداعبة الكلب لفترة وجيزة أمام الزوار، لتثبت أنها لا تتبع حظرالاسلام للكلاب، وتؤيد حب زرادشت للكلاب. من جانب أخر تشير الى تقديم كل من آوات وبير لقمان كلامًا قصيرًا عن الحب الكردي الزرادشتي للحيوانات، لكنهم لم يتبنوا أيديولوجية حزب العمال الكردستاني الماركسية. وبدلاً من ذلك، فإنهم يدعمون الديمقراطية وحرية التعبير، وضمنيًا نظام رأس المال، ويزعمون أن الزرادشتية دافعت دائمًا عن هذه الأفكار. بغض النظر عن الصلاحية التاريخية لادعاءاتهم، فإن حجة آوات وبير لقمان تعبر عن الرغبة في إضفاء الطابع المحلي على القيم الأوروبية، ورفع الكرد إلى المسرح العالمي. هذا واضح بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بموضوع المرأة. ووفقا لأوات، كانت المرأة الكردية “حرة ” قبل الإسلام. يدعي أتباعها أن النساء الزرادشتية يمكنهن إرضاع أطفالهن أمام رجال غرباء دون الشعور بالخجل. وأوضحت آوات أنه خلال حياة زرادشت، كان يحق للمرأة اختيار زوجها، ويمكنها الشروع في الطلاق. كما سمح زرادشت نفسه لابنته بالعلاقة مع رجل لمدة تصل إلى عامين قبل الزواج منه. من خلال هذا البيان كانت تنوي إثبات أن الزرادشتيين، وبالتالي الكرد، قد مارسوا المساواة بين الجنسين، والتي تخلوا عنها بمجرد دخولهم في الاسلام!.
مما تقدم يظهر بأن هؤلاء الذين يدعون الزرادشتية هم أبعد ما يكونوا عن الزرادشتية كديانة أيرانية قديمة لها عقائدها وطقوسها الخاصة، ولكن هؤلاء يريدون فقط التشبث باسم الزرادشتية كمحتوى فلسفي نظري( الفكر الحسن…الخ، فقط لشرذمة المجتمع الكردي ودق أسفين بين صفوفه لأنه يلاقي هوىً في أنفسهم،(= الغاء التكاليف والطقوس)، وهذا ما يتوافق مع المخططات التي تريد النيل من التجربة الكردية الحالية بغية اضعافها باضافة المزيد من الانقسام في المجتمع الذي يعاني الأمَّرين من الخلافات المناطقية والفئوية والحزبية.
وتجدر الاشارة إليه أن الذين اعتنقوا الزرادشتية يقدمون أنفسهم الى الناس تحت عناوين جذابة (= الكوردايه تي- الدولة الكردية)، وغيرها من الشعارات القومية البراقة، والذين يستغلون أقلامهم لمآربهم الخاصة وخدمة أسيادهم في الغرب والشرق على حد سواء، دون الالتفات الى معاناة بني قومهم، والمعروفون بإنحرافهم عن التعاليم الاسلامية، والهرولة نحو المنظمات الغربية بشتى انتماءاتها والمهتمة بالتنصيروغيرها، سواء من أعلن نشاطه بعنوان الحرب ضد الاسلام كعقيدة وكإيديولوجية، أو من جعل شعاره تحت عنوان مكافحة الافكار الظلامية والتكفيرية، ومكافحة الارهاب! حجة كاذبة له..
إن هؤلاء لا يستطيعون تغيير عقيدة المسلمين الكرد التي مضى عليها اكثر من أربعة عشر قرناً، حيث أصبح الاسلام بالنسبة للكُرد عقيدةً وانتماءً وفكراً وتراثاً، وبالتالي هويةً، فعلى سبيل المثال في كردستان الشرقية (=إيران) يعد عمر بن الخطاب والشافعي واللغة الكردية وكردستان كأرض(= الكوردايه تي) بمثابة هوية جماعية له لا تنفصم عراها؛ حتى لا ينصهر في بوتقة القومية الفارسية الشيعية، والامر ينطبق في كردستان العراق وتركيا، فالمذهب الشافعي كمذهب فقهي، والاشعرية كعقيدة، والتصوف النقشبندي كسلوك، هي هوية جماعية، حتى يكون الكردي متميزاً بهذه الخصائص والمميزات المفارقة للقوميتين العربية والتركية على حدٍ سواء.
إذا كان للإسلام خاصية تجاه الكُرد، فهو قد حافظ على كينونة وذاتية الكرد أرضًا وشعبًا ولغةً وتراثًا، فاللغة الفارسية الحالية هي اللغة الدرية التي امتزجت مع اللغة العربية، ولم يبق من البهلوية الساسانية شيء إلاّ في بطون مصادر التاريخ الإيراني القديم.
أما اللغة الكردية الحالية فلم تتأثر بشيء مثل نظيرتها الفارسية، وإنما احتفظت بخصائصها القديمة واستعاراتها الجميلة، لأن الإسلام لم يأتِ لكي يقضي على الخصائص القومية واللغوية والنسيج الاجتماعي للشعوب، إنما جاء ليحررهم من الأغلال والقيود ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة الأهواء والآلهة المتعددة إلى عبادة الواحد الأحد؛ جاء الإسلام لكي ينقذ الكرد من تعقيدات وطقوس المجوسية الزرادشتية (= الغسل بأبوال الثيران، والزواج بالمحارم…)، والمزدكية الشيوعية وغيرها، ولكي يسمو بالأديان السماوية إلى مصاف النور والتوحيد.
وختاماُ أٌذكر الزرادشتيين الجُدُد في كردستان بقول المستشرق البريطاني المشهور (أدوارد براون) المتوفى سنة1930م والمختص بالادب والتاريخ الفارسي في وصف أوستا (= الآفستا- الكتاب المقدس للزرادشتيين): بقوله:” … إنني متى ما رحت أطالع القرآن الكريم أكثر، وسعيت في سبيل إدراك روح القرآن أكثر، التفتُ الى قدره ومنزلته أكثر… بينما التحقيق والمطالعة في آوستا مُمِلة ومُتعِبة، اللهم إلا أن يكون الشخص بصدد التعرف على تاريخ الانسان وأساطيره…”.[1]