#عبد الحسين شعبان#
غالباً ما نتحدّث عن العنف بضدّه، “اللاعنف” وقديماً قال الشاعر “والضدّ يظهر حُسنه الضد”، والضدّ له دلالة، ولهذه الأخيرة معنى، والمعنى دائماً يأتي بعد أسئلة، تلك التي تظلّ مفتوحة على إجابات، والجواب حاضر أم غائب، يحتاج إلى تفكير وتفكّر .
لقد شَغَلنا أمر العنف لسنوات طويلة، فقد عانينا منه، مثلما حاولنا “أدلجته”، سواءً سمّي عنفاً “ثورياً” أو “عادلاً” أو “تحريرياً” أو “طبقياً” أو “قومياً” أو “دفاعياً” أو “جهادياً” أو لم يُسم، وإنْ ظلّ بعضهم يبدي انبهاراً به حتى اليوم، بل ويعتبره الوسيلة المثلى لتحقيق الأهداف، لدرجة أنه يستخف بأية دعوة للاعنف، التي يقاربها بالاستسلام أو الضعف أو الخنوع . ومثلما يُنسب للعنف الفضائل الكبرى مثل الشجاعة والجرأة والشرف والبطولة، يُنسب إلى اللاعنف كل الرذائل، مثل الجبن والخوف والخيانة والتخاذل وغيرها .
وإذا كان لدى كل إنسان قدرة على العنف، فإن لديه القدرة على اللاعنف، والسبيل القويم لتحريره من العنف هو استفزاز قدراته اللاعنفية، لتكون سائدة وموجهة لحياته وسلوكه وعلاقته مع الآخرين، أي تقليص مساحة العنف في داخل كل منّا، تمهيداً لإحداث القطيعة، بينه وبين العنف، سواءً إزاء نفسه أو ضد الآخرين .
قد يبدو الأمر غريباً حين تتحدث عن اللاعنف في مجتمع بيئته تشجع على العنف، فسيكون الانطباع الأول وكأن المسألة أقرب إلى المثالية إذا كان التقدير بحسن نيّة، أو غير الواقعية، في عالم يتنفس بالعنف، وعانى من القسوة والوعورة اللاإنسانية، فماذا يحتاج الإنسان لكي يكون لاعنفياً؟
بلا أدنى شك إنه يحتاج إلى القوة، ولا بدّ له أن يكون قويّاً للانتصار على ذاته أولاً، ثم لكي يواجه العنف باللاعنف، عبر مقاومة واعية لوضع حد لهذه الظاهرة من حياتنا التي تدمّر الجميع، سواءً من يتعرّض للعنف من الآخر أو من يقوم بممارسته، حيث يتم تدمير الإنسان في داخله . إن وظيفة نشر ثقافة اللاعنف ستكون مهمة تغييرية إضافة إلى وظيفتها الأكاديمية . أي أنها مهمة جليلة أولى لانتشال بشر من براثن العنف، فكيف السبيل لتحقيق اللاعنف في مجتمعات لا تزال ثقافة العنف سائدة ومهيمنة فيها؟
قد تكون أبسط وسيلة للرد على العنف بالعنف، لكن تلك الوسيلة ستمنح دعاة العنف فرصة أخرى أشدّ وأقسى لممارسة العنف، بل تسدي له خدمة كبيرة، فقد يكون العنفي “الظالم” هو من يستدرجنا لممارسة العنف ضدّه، على أرضية هو اختارها ومنهج هو من يدعو إليه، أما المدافع عن الحقوق، فلا شكّ أن العنف لن يستطيع تحقيق أهدافه تلك التي لا يمكن تأمينها الاّ باللاعنف والتسامح والاعتراف بالآخر، مهما كانت عادلة وأخلاقية، لأن هذه الأخيرة تتطلب وسائل عادلة وأخلاقية . فالظالم “يبرر” استخدام العنف، لا سيما إذا كان متنفذاً، فكيف إذا استخدمت الضحية العنف، فإنه سيستخدمه ضدها أضعافاً مضاعفة، فالعنف عنصر فعّال في خدمة الظلم والتجاوز على الحقوق . ولهذا حسبما يقول غاندي “إن العنف فخٌ ينصبه الظالم ويقع فيه المظلوم” .
وأظهرت الكثير من التجارب أن العنف يلوّث القضايا الإنسانية العادلة، وربما أكثر من غيره، لأنه يشوّه محتواها الإنساني، ولا يمكن تبرير الغاية الإنسانية بوسائل لا إنسانية . لا بدّ للوسيلة أن تشبه الغاية، ولا يمكن لغاية شريفة أن تستخدم أساليب خسيسة أو بالعكس، ولعل ذلك ما انزلقت إليه الكثير من الممارسات والتجارب الحكومية والرسمية وغيرها من التجارب السياسية، بل وروّجت إليه الدعاوى الأيديولوجية ذات الذرائع الشمولية .
وعلى ذكر الأهداف فلا يمكن الاّ أن تقرن بوسائل تحقيقها، فمهما كان الهدف شريفاً ونبيلاً، فلا بدّ من وسيلة شريفة ونبيلة لتحقيقه، لأن الغاية لا يمكن فصلها عن الوسيلة، ومثل هذا التلازم ضروري لأي عمل أخلاقي وهدف شريف، إذْ كيف يمكن الوصول إلى هدف إنساني بوسائل قد تؤدي إلى قهر الإنسان أو إذلاله أو ممارسة العنف ضدّه، باعتباره قاعدة في حين أن اللاعنف هو استثناء .
إن مناسبة الحديث هذا هو جزء من حوار وورشة عمل ومحاضرات تم تقديمها في دورة تدريب مهنية عالية المستوى نظمتها جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان في العالم العربي، شارك فيها نساء ورجال، مختصون وباحثون بقضايا الحقوق والحريات وإنفاذ القانون والعنف بشكل عام والأسري بشكل خاص، وذلك في إربيل عاصمة إقليم كردستان العراق .
ولعلّ واحدة من المفارقات أن الدورة المتخصصة نظمتها وزارة الداخلية لمنتسبيها من الجنسين في أجواء حساسة إزاء العنف، بسبب ما عانته كردستان من عنف مزمن ومعتق لعقود من السنوات، كان أبرزها قصف حلبجة بالسلاح الكيماوي وحملة الأنفال التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من المواطنين العام 1988 وتدمير نحو 4 آلاف قرية وقصبة كردية، وتهجير السكان الكرد، ولاسيما من الفيلية في الثمانينات، من دون نسيان ما حصل من قسوة وعنف بين الكرد أنفسهم بين أعوام 1994-1998 وراح ضحيته ما يزيد على ثلاثة آلاف إنسان، وهو الأمر الذي ينبغي أن يوضع حدا له إذا ما أريد استقرار كردستان ونجاح التجربة الفتية وتخليصها من النواقص والثغرات التي علقت بها خلال السنوات العشرين ونيّف الماضية، وذلك ديدن كل تطور ورغبة في التجديد .
هناك تراث لا عنفي، إلى جانب العنف، لدى كل شعب وفي تاريخ كل أمّة، وهذا التراث اللاعنفي هو الذي يمكن استنهاضه وتنميته والبناء عليه بوسائل تربوية حديثة، خصوصاً المقاومة باللاعنف، ومواجهة العنف، بالقوة اللاعنفية .
كان الزعيم الكردي الملاّ مصطفى البارزاني ثائراً، لكن ميله للسلم والتسامح كان كبيراً، على الرغم مما تعرّض له من عنف وهو في عمر الثالثة حين اعتقل مع أمه في سجن بالموصل، وبعدها أُعدم أخوه عبد السلام، وفي وقت لاحق تم اعتقاله في العام ،1936 حيث تم إجلاؤه وعائلته من منطقة كردستان . وفي العام 1943 حكم عليه بالاعدام غيابياً في كل من العراق وإيران، ثم اضطر إلى الهجرة إلى الاتحاد السوفييتي بعد فشل تجربة جمهورية ماهاباد وإعدام القاضي محمد العام ،1947 لكن شعاره ظلّ “العفو عند المقدرة”، الذي حمل خياراً جنينياً لا عنفياً استلهمه من حياته وقيمه الاجتماعية، وهو ما طبّقه في ظروف حساسة، فبعد بيان 11 مارس/ آذار 1970 بين الثورة الكردية بقيادته والحكومة العراقية برئاسة أحمد حسن البكر، عفا عن الكرد الذين كانوا قد انضموا إلى الحكومة لمقاتلة أبناء جلدتهم الكرد، وكان ذلك السلوك والتصرّف الإنساني يقوم على تفهّم لرجل سياسي يشعر بالمسؤولية إزاء شعبه، وتلك سمات رجل الدولة والواقعية السياسية، بدلاً من الانتقام والثأر والكيدية .
حصل الأمر على مستوى سياسي أيضاً بينه وبين المختلفين معه بعد بيان 11 مارس/ آذار، وكان موقفه متفهماً وإيجابياً معهم على الرغم من بعض الخسائر والمرارات، بهدف قطع الطريق على قيادة السلطة الحاكمة آنذاك لاستغلال هذا الانقسام لمصلحتها .
وفي واقعة ثالثة رفض الرد على الارهاب الحكومي بارهاب مضاد، وهو ما رواه لي مسعود البارزاني، فقد كان أن حدثت محاولة لاغتيال الملاّ مصطفى البارزاني في أيلول (سبتمبر) 1971 بتدبير من مدير الأمن العام ناظم كزار، حيث تم إرسال رجال دين لمقابلته، وتم تفخيخ هؤلاء لتفجيرهم عند لقائهم به وقُتل هؤلاء جميعا في الحادث ونجا البارزاني بأعجوبة بعد أن سقط ضحايا كثيرون. بعد ذلك توفّرت معلومات بإمكانية الرد بالمثل، وكانت الخطة ستنجح، وتم إطلاع البارزاني عليها وعلى المعلومات المتوفرة، فتجهّم وجهه ولم يردّ بشيء بادئ الأمر، ثم قام وتوضأ وصلّى وبعدها قال لنا (كما يقول نجله مسعود البارزاني): نحن لا نردّ على الجرائم بجرائم مماثلة، لأن ذلك سيعرّض الأطفال والشيوخ والنساء والأبرياء للأذى... وأردف بالقول أحذّركم بشدّة من القيام بذلك، وأرجو منكم الإقلاع عن التفكير بمثل هذه الأمور، وثورتنا دفاعاً عن النفس وعليها أن تنأى بنفسها عن الإرهاب.
واعتبر البارزاني تلك العمليات جبناً وليست مقاومة أو كفاحاً أو حتى دفاعاً عن النفس، ولعلّ ذلك كان ماثلاً أمام مستشار النمسا كرايسكي حين وصف الثورة الكردية بالثورة النظيفة، لأنها لم تقم بتفجير مدارس أو مرافق حيوية أو تدمير مؤسسات أو مباني عامة أو قتل أبرياء أو أسرى مدنيين.
يظلّ اللاعنف مرتجاً، وإنْ كانت أمامه تحدّيات كثيرة، لكن الوعي بأهميته وبإعادة لحمة المجتمع يمكن أن تهتدي إليه، وهذا هو ما دفع الجبهة الكردستانية إلى إصدار عفو عام عن الأفواج الخاصة والجاش “والمجموعات المتعاونة مع السلطة” وغيرهم الذين شاركوا في القتال ضد الثورة الكردية . وبعد إجراء أول انتخابات لبرلمان كردستان في مايو/ أيار 1992 اعتبر البرلمان الكردستاني كل قرارات الجبهة الكردستانية نافذة، لا سيما قرار العفو العام، وهو ما حصل وتكرر بعد العام 2003 عند احتلال العراق أيضاً .
وكم كان ممكناً التعامل وفقاً لهذا المنطق الإيجابي في القسم العربي من العراق، بحصر المساءلة بعدد محدود جداً والتمهيد لإجراء مصالحة وطنية وفقاً لمبادئ العدالة الانتقالية، الأمر الذي كان سيجنّب البلاد الكثير من الويلات والكوارث والعنف .[1]