#عبد الحسين شعبان#
لم أكن على موعد مسبق مع الباحث و المفكر العراقي المعروف الدكتور عبدالحسين شعبان لأجراء هذا الحوار معه، و لقد قمتُ بزيارته للإستفسار عن صحته التي اعتلّت مؤخراً حيث يزور اقليم كوردستان الآن بعد تحسّنه، وبعد الجلوس معه طلبتُ منه إجراء حوار مفصل معه، فوافق مشكوراً، ومن ثم بدأتُ بطرح أسئلتي عليه و التي تضمّنت بحث الأوضاع الراهنة في العراق و اقليم كوردستان والشرق الأوسط ودور الرئيس مسعود بارزاني في رئاسة اقليم كوردستان، حيث وصفه في معرض إجاباته عن الأسئلة بأنه رجل دولة و قائد محنّك مشيراً إلى أنه لا يجامل أحداً في هذا الوصف، وإنما يتحدّث عن الواقع كما هو، مضيفاً إن هذه حقائق يجب أن تُذكر، وفيما يأتي نص الحوار الذي أجريته مع الدكتور عبدالحسين شعبان.
حاوره/ رئيس التحرير( فرهاد محمد – إربيل)
• كيف تنظر إلى الوضع السياسي في أقليم كوردستان؟
يسرّني و يشرّفني أن أزور كوردستان كأول زيارة لي بعدما تعرّضت له من أوضاع صحية صعبة في الفترة الأخيرة، وأعتبرها أول زيارة عمل بهذا المعنى، خصوصاً للمشاركة في فعاليتين – الأولى ، لمناقشة كتابي أغصان الكرمة – المسيحيون العرب والثانية لإلقاء محاضرة حول الأزمة الراهنة في العراق: الطائفية ، الأقاليم، الدولة. وكما تعلمون فإن لهذا الجزء العزيز من الوطن مكانة خاصة في قلبي، وأقصد به كوردستان العراق.
الشيء الثاني ما يجري في كوردستان العراق، يهمّني لعدد من الاعتبارات، الاعتبار الأول أن هذه التجربة الكوردستانية، إذا ما نجحت، وإذا ما تعمّقت، وإذا ما تقدّمت، ستنعكس إيجاباً على عموم دول المنطقة، والاعتبار الثاني تهمّني هذه التجربة لأسباب تتعلّق بالرؤيا إزاء قضية شعب ناضل طويلاً من أجل حقه في تقرير مصيره، والآن فإن هذا الشعب على مفترق طرق، فأي طريق سيختار؟ هل الوحدة الاختيارية الطوعية مع تردّي الأوضاع الداخلية لعموم العراق؟ أو أنه سيختار كياناً مستقلاً نسمّيه دولة ذات طبيعة إستقلالية وفق مبدأ حق تقرير المصير؟
وحق تقرير المصير من الناحية القانونية والسياسية يرتكز على عنصرين أساسيين: أما اتحاد إختياري أخوي طوعي، أو الإنفصال بما فيه تكوين دولة. هذا الأنفصال أو الانقسام أو الإستقلال، نستطيع أن ندرجه تحت هذه العناوين، وهو لا يعني سوى الطلاق، وإنْ كان هذا الأخير أبغض الحلال عند الله، ولكنه قضية مشروعة، فيما إذا وصل العيش المشترك إلى طريق مسدود.
الاعتبار الثالث أن نجاح هذه التجربة سينعكس إيجاباً على الأوضاع داخل العراق، وعلى حلّ الأزمة العراقية الراهنة، وهي أزمة مستفحلة وطاحنة،خصوصاً في ظل انعدام أو ضعف الثقة السياسية بين الناس وبين الحكومة من جهة، وبين الأطراف السياسية ذاتها المتحالفة والمتعادية، من جهة أخرى.
وإذا تمكّنت هذه التجربة من تجاوز عقباتها وسارت إلى الأمام بتحقيق الوحدة الوطنية الكوردية أو الكوردستانية، فإن الأمر سيكون في غاية الأهمية لحقوق وآمال الشعب الكردي، إذْ أن أي اختلال في معايير الوحدة الكوردستانية، سيؤدي إلى تدهور وضع الحركة الكوردية وأوضاع الشعب الكوردي، الإقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وهذه الفرصة ستضيع من يد الشعب الكردي المتطلّع إلى حق تقرير المصير، وقد تتبدّد.
قلت مرّة من المرّات أثناء القتال الكوردي- الكوردي 1994-1998، إذا كان تقسيم كوردستان وأقصد بذلك(السليمانية ، أربيل) خطيئة سياسية، فالإقتتال هو جريمة، بكل ما تعني هذه الكلمة من معاني بحق الشعب الكوردي، ولهذا ينبغي تجنّب الخطيئة، والحيلولة دون الوقوع فيها ومقاومة كل ما يدفع إلى الجريمة.
لهذا السبب هناك حاجة لتسوية الخلافات بروح التضامن والتسامح والمشترك النضالي والحرص على مستقبل التجربة التي هي ليست عزيزة على الكورد فحسب، وإنما عزيزة على العرب العراقيين التقدميين الذين يتمنّون لهذا الشعب كل الخير ويتمنّون أن يحقق آماله و طموحاته في أن يعيش في إطار من الحرية متطلعاً لحقه في التعبير عن كيانته وهوّيته ذات الأبعاد الإنسانية، أسوة بشعوب المنطقة من العرب والفرس والترك.
هنا يمكن البحث عن المشترك الإنساني على الرغم من مرارة التجربة التي بقدر ما فيها من السلبية والتمييز والاضطهاد، ففيها نوع من التضامن والتعاضد والتفاعل والتواصل الإنساني، إضافة إلى درجة من التسامح، سواء في السابق أو في الحاضر.
• يمرّ إقليم كوردستان الآن بأوضاع صعبة ومنها الحرب الشرسة مع داعش والحرب الأقتصادية واستقبال الملايين من النازحيين واللاجئيين، وأقليم كوردستان يقوده السيد مسعود بارزاني، وأنتم على معرفة تامة بسيادته منذ أكثر من ثلاثين عاما، وأنتم الآن تزورون كوردستان ما هو تقيمكم للأوضاع المستقرة في الإقليم دون وجود حالة طارئة أو إستثنائية؟
أنت تعرف ما لعبته العائلة البارزانية من دور في قيادة الشعب الكوردي، سواءً في القيادة التأريخية الخالدة لمصطفى البارزاني، وفيما بعد لأولاده وأحفاده، الذين كان لهم دور كبير في تأسيس هذه الكيانية الكوردية، وفي المنجزات التي حصل عليها الشعب الكوردي.
بالطبع هم ليسوا لوحدهم، وإنّما هناك أطرافاً كوردية أخرى ساهمت مساهمة مهمة في قيادة الشعب الكوردي وفي تحقيق هذه المنجزات التي نالها بكفاحه الطويل وبتضحياته الجسام..
أستطيع القول إن هناك أربعة تحدّيات أساسية تواجهها منطقة أقليم كوردستان:
التحدّي الأول هو الوحدة الوطنية الكوردستانية،التي ينبغي الحفاظ عليها مثلما يتم الحفاظ على حدقات العيون.
التحدّي الثاني هو خطر الإرهاب، لاسيّما من جانب (داعش) الذي أحتل الموصل في العاشر من حزيران (يونيو) عام 2014، وأصبح على مرمى حجر من عاصمة الأقليم، هذا الخطر سيبقى مستمراً إلى أن يتم القضاء على داعش و دحره، ولكن كيف يتم دحر داعش؟ يتم من خلال صمود كوردستان وتعاون القوى العراقية في الحكم وخارج الحكم، ثم التعاون مع القوى الدولية التي تهمّها مكافحة الأرهاب، يضاف إلى ذلك التعاون مع القوى الأقليمية التي تخشى من أن ينتقل الإرهاب إلى ساحتها.
لهذا يحتاج الأمر إلى تعاون وثيق ما بين هذه الأطراف مجتمعة للوصول إلى وضع حد في البداية لداعش ولتنظيماته الأرهابية وللقضاء عليه لاحقاً. ولا يمكن القضاء على الإرهاب وعلى هذه المخاطر الجدّية التي يواجهها الشعب الكردي وإقليم كردستان أو عموم الشعب العراقي بالوسائل العسكرية وحدها، بل يتطلّب ذلك إعادة النظر بالعلاقات ما بين القوى السياسية واتباع نهج يختلف عن السياسات السابقة، من خلال وضع حدّ للطائفية السياسية ونظام المحاصصة ومحاربة الفساد وتحسين الخدمات واحترام كرامة المواطن العراقي، وهي مطالب مشروعة لحركة الاحتجاج. وبالطبع فذلك يحتاج إلى التسامح وتوسيع دائرة الحريات والمزيد من توفير المستلزمات المادية لمجابهة داعش ومواجهة الإتجاهات الأرهابية المتطرفة.
التحدّي الثالث هو التحدّي الاقتصادي، والسؤال الكبير الذي يواجه الإقليم هو كيف يمكن لها أن يستمر في نهوضه الاقتصادي وتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة؟
ربما هناك تجارب كثيرة حصل فيها نوع من النمو الأقتصادي، ولكن هناك فارقاً كبيراً بين النمو الأقتصادي وبين التنمية المستدامة، حسب توصيفات الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وعندما نقول التنمية المستدامة نقصد بذلك التنمية السياسية والأقتصادية والأجتماعية والثقافية والقانونية والتربوية والتعليمية والصحية والبيئية وكل ما يتعلق بشؤون الحياة، هذه التنمية هي ككل مترابط، وتتعلّق بمدى احترام الحقوق والحريات وبمدى حرية التعبير، وتمكين الناس بالدفاع عن مصالحهم وحماية أهدافهم.
هي أيضاً ترتبط بمدى حصول المرأة على حقوقها كاملة وغير منقوصة، وحقوق المجاميع الثقافية، المقصود بذلك كما يذهب البعض الأقلّيات، لكنني سبق أن أبديت على هذا المصطلح تحفظات جدية، لأن فيه انتقاص من الآخر واستعلاء عليه، وأفضّل بدلاً عنه استخدام مصطلح المجاميع الثقافية أو التنوّع الثقافي أو التعدّدية الثقافية وحقوق المجاميع الثقافية، وأراها أقرب إلى مبادئ المساواة.
عن الهوّية
وبتقديري إن كردياً واحداً يعادل كل العرب، لأنه يعبّر عن قومية متميّزة لها خصوصيتها وتتمتّع بالقدر نفسه من المساواة، وهو ما تؤكده الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، مثلما إن عربياً واحداً يعادل كل القوميات الاخرى، وهكذا إن مسيحياً واحداً يعادل كل المسلمين، مثلما إن مسلماً واحداً يعادل كل الأديان الأخرى، لأنه يعبّر عن خصوصيته وهوّيته، وهذه الهوّية هي لها مواصفات خاصة وبعضها مشترك.
الهوّية ليست معطى جاهزاً أو بركة مغلقة، بل هي أقرب إلى أرخبيل مفتوح يمكن أن تصبّ فيه جداول وفروع، وهكذا فالهوّية قابلة للإضافة والحذف والتفاعل مع محيطها. ولكن ينبغي توفر الشروط الأساسية في الهوّية وأهمها هو اللغة، والدين أو الأديان في حال مجتمع متعدّد الأديان، ويمكن الحديث عن التاريخ المشترك وعن الحضارات المشتركة وعن الثقافات المشتركة والمزاج المشترك عن كذا وكذا إلى أخره.. والأساس في ذلك هو اللغة، لأن اللغة تمثّل الرابط بين هذه التشكيلة البشرية الإنسانية التي تعبّر من خلالها عن التفاهم المشترك والعيش المشترك والمصير المشترك.
لهذا عندما نقول إن الكرد أمة وقعت تحت التقسيم القسري، فإنما نعني إن اتفاقيات استعمارية ومصالح دولية وإقليمية هي التي ساهمت في إبقاء الأمة الكردية على ما هي عليه، وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى، وكان الكرد يتطلّعون مثل غيرهم إلى كيان سياسي يعبّر عن طموحاتهم، لكن القوى المنتصرة الإمبريالية لم تعر اهتماماً بذلك، وقد ذهبت معاهدة لوزان لعام 1923 إلى التنكّر لبعض حقوق الشعب الكردي الجزئية المحدودة التي تطرقت إليها معاهدة سيفر لعام 1920، ومثلما تعتبر الأمة الكردية (مقسّمة)، فقد ساهمت اتفاقية سايكس – بيكو لعام 1916 (السرّية) التي كشفتها ونشرتها الحكومة البلشفية بعد ثورة اكتوبر العام 1917، في تقسيم الأمة العربية، إلى أجزاء ويراد اليوم تقسيم المجزأ.
اللغة عنصر جامع للتكوينات والمشتركات الأخرى، سواء كان الدين أو العادات أو التقاليد أو الثقافة إلى آخره، وبالطبع فإن العادات والتقاليد وطريقة العيش، من المأكل والملبس والمشرب والفنون والآداب، هذه كلها في مرحلة التطور والديناميكية والتغيير، ولاسيّما عاداتنا وتقاليدنا قبل مئتي سنة هي غيرها الآن.. وطريقة عيشنا آنذاك تختلف عن طريق العيش الأن. إن هذا العامل هو عامل مهم.
التحدّي الرابع الذي يواجه الشعب الكردي وتجربة كوردستان هو التحدّي الإقليمي فهناك تداخلات إقليمية، خصوصاً في البلدان التي لم تُحَلْ فيها المشكلة الكوردية.. أعني بذلك إن تركيا لديها مشكلة كوردية قديمة ومزمنة وبوجود PKK والعمل المسلح تفاقمت المشكلة.
وهذا ما دفع تركيا للتسلّل أو التوغل داخل الأراضي العراقية لملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني، وأحياناً لبسط نفوذها على أجزاء من كردستان، ولكنها بنفس الوقت تضطر إلى التعامل مع تجربة الإقليم، لكنها تسعى لعدم تمدّدها خارج النطاق المنطقة المحصورة، بل تسعى لإجهاض هذه التجربة كلما سنحت الظروف مستقبلأً.
التحدّي الأخر هو التحدّي إيراني، فهناك أيضاً مشكلة كوردية في إيران، صحيح إن هذه المشكلة أنها لم تتبلور مثلما حصل بالنسبة للمشكلة الكوردية في العراق، برفع شعار الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكوردستان، ثم تطوّر الشعار إلى الفيدرالية، على أساس حق تقرير المصير، بإعتباره مبدأً قانونياً يمكن أن يطبق اليوم أو يطبق بعد 20 سنة، ومن أدنى صوره حتى أرقاها.
ولم تتطوّر الحركة الكردية في إيران مثلما تطورت في تركيا، وخصوصاً بعد تأسيس pkk في أوائل الثمانينيات (حزب العمال الكردستاني). وتواجه الحركة الكردية، وخصوصاً في تركيا وفي إيران تحدّيات تتعلق بكيانيتها ومستقبلها، وينعكس ذلك على الوضع الكوردي العراقي. أما الوضع الكردي في سوريا فقد ازداد بؤساً بعد حركة الاحتجاج التي بدأت في 15 آذار (مارس) 2011، وتفاقم بعد المعارك في المناطق الكردية، وأصبحت كوباني عين العرب معروفة لما شهدته من قتال وحصار دام أشهر غير قليلة.
تركيا لا تعترف بوجود القومية الكوردية وتعتبر الأكراد أتراكاً سكنوا جنوب تركيا. وإيران لا تعترف بالقومية الكوردية، وتقول أن الجميع مسلمون وتستند إلى قول الرسول (ص) لا فرق بين عربي وعجمي الاّ بالتقوى، أو المسلمون متساوون كأسنان المشط، أي أن مبدأ المساواة يطغى على مبدأ الهوّية ذات الأبعاد القومية. بهذا المعنى تعتبر إيران الإسلامية، القومية بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. هذا الجانب الفكري الفقهي القانوني لهذا الموقف هو التحدّي الإقليمي في المنطقة.
ماذا يريدون من التجربة الكوردية؟ يريدون الاحتواء، فهم لا يستطيعون الآن إجهاض هذه التجربة، لاعتبارات كثيرة، وهذه التجربة حظيت بشكل أو بآخر بدعم الحركة الوطنية العراقية، لاسيّما اليسارية والشيوعية التي أيدت القضية الكوردية منذ البداية، لكن ذلك غير كاف لتحقيق طموح الشعب الكردي.
الأطراف الأخرى تعترف الآن بحق الكرد، سواء لمصلحة لديها، أو تطور حصل عندها، أو أنها مجبرة على ذلك، بفعل الحضور الكردي وما حققه من انجازات قياساً بالقسم العربي من العراق، وتنظر القوى الشيعية أو السنّية، أو سمّها ما شئت إلى التجربة، ظرفياً أو آنياً، وليس ستراتيجياً بعيد المدى، وإذا لم يكن بالإمكان، قبر أو إجهاض هذه التجربة كما تتمنّى في سرّها، فإن بالإمكان احتوائها، أو بالإمكان السعي لتشجيع الخلافات الداخلية في صفوفها التي من شأنها أن تؤدي إلى مزيد من التوتّر والتراجع.
قلت هناك أربعة عوامل وأريد هنا أن أعود للعامل الأقتصادي، فالنفط الأن يشكّل محور الحياة في العراق، ومن يحصل على النفط يحكم العراق، ومن يحصل على النفط يستطيع أن يدير كياناً مستقلاً في المستقبل مع مراعاة الضغوط الخارجية الدولية والأقليمية والمحلية. هذا العامل ما زال هناك خلاف شديد حوله، وهذا الخلاف يتعلّق برؤية وستراتيجية كوردية أيضاً، هل تريد كوردستان البقاء في الدولة العراقية؟ إذن ينبغي أن تتصرّف بتوافق مع الدولة. إذا كانت كوردستان لا تريد البقاء، إذاً ينبغي أن تتصرّف بمعزل عنها سيخلق سياقات أخرى؟ وهنا لابد من إيجاد تكييف للعلاقة القانونية الاقتصادية النفطية التي جاءت بصور مبهمة و ملغومة بشأنه في الدستور (المادتان 111 و112).
يضاف إلى ذلك استمرار مشكلة كركوك دون حل وليس هناك أفق لحل قريب، سواء بموجب المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية أو المساواة 140 من الدستور العراقي الدائم، وكذلك المناطق الأخرى المتنازع عليها، وسيؤثر بقاء الحال على ما هو عليه من التوتر والاستنفار بحيث يؤدي إلى المزيد من التحدّيات التي تواجه التجربة.
• وماذا عن الإرهاب الدولي؟
بدأت موجة الإرهاب الدولي تتصاعد في التسعينيات ، وتوّجت بأحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة العام 2001، وهنا تنبهت القوى الغربية إلى أن الإرهاب الذي لم يكن يعنيها كثيراً، خصوصاً عندما كان بيضه يفقس في العالم العربي وفي بعض الدول الإسلامية والعالمثالثية، أصبح يهدّدها بالصميم، وامتدّ ليضرب معاقل اقتصادية وسياسية وعسكرية داخلها، الأمر الذي احتاج إلى إعادة نظر وبناء ستراتيجيات جديدة.
من أهم عناصر هذه الستراتيجية هو إجراء تحوّلات سمّيت ديمقراطية في هذه البلدان وتغيير مناهج التربية والتعليم ووضع حد للظاهرة الإرهابية، لكنه لم يتم معالجة أسبابها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حيث ينتشر الفقر والأمية والتخلف، وتجري محاولات لغسل أدمغة الشباب باسم الدين.
لقد انكسرت موجة التغيير في العالم العربي، عند شواطئ البحر المتوسط في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، بعد أن شملت أوروبا الشرقية، لاسيّما بعد التحوّلات التي حصلت في بعض دول أوروبا الغربية التي ظلّت مستعصية على الخيار الديمقراطي بعد الحرب العالمية الثانية، ونعني بها اليونان التي دخلت في حزمة من الإنقلابات العسكرية، والبرتغال وإسبانيا، وهذه كلّها أنجزت عملية الانتقال وصياغة دساتير ديمقراطية وإجراء انتخابات في أواسط السبعينيات.
كما إن العديد من دول أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا اتجهت إلى شكل من أشكال التحوّل الديمقراطي بدرجات متفاوتة أو مختلفة. ومن أبرز معالم تلك التجارب المهمة هو تجربة العدالة الانتقالية، وكشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر والتعويض للضحايا تمهيداً لإصلاح النظام القانوني والقضائي والأمني.
التغيير هو جزء من صيرورة كونية وشعاراته الرئيسية هو الديمقراطية وإجراء انتخابات دورية واحترام حقوق الإنسان والاعتراف بالتعدّدية والتنوّع.
وقد رفعت حركة الاحتجاج الشعبي العربي ثلاث شعارات أساسية هي : احترام الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية، وهي شعارات تكاد تكون مركزية ومثلها كانت حركة الاحتجاج في العراق التي توّجت هذه الشعارات بمحاسبة الفاسدين والمفسدين وتحقيق الخدمات الأساسية لاسيّما الكهرباء والماء الصافي والخدمات الصحية والتعليمية وإيجاد فرص عمل.
التحوّل الديمقراطي ضرورة لكل المجتمعات ، وليس صحيحاً أن يُنسب إلى القوى الخارجية ، ومهما كانت هذه تتمتع من نفوذ، فلا يمكنها تحريك هذه الجموع الغفيرة التي نزلت إلى الشوارع والميادين مطالبة بحقوقها كما إن حركة التغيير لها تاريخ في هذه البلدان.
لقد أرادت القوى الغربية أن تواجه الإرهاب، وإذا بها أمام حركات إسلامية أو إسلاموية مناهضة للغرب بسبب سياساته إزاء دول المنطقة وتأييد إسرائيل، علماً بأن قضية الصراع العربي- الإسرائيلي، كانت شمّاعة علقت عليها الحكومات العربية كل أخطائها وتصرفاتها المعادية للديمقراطية ونهجها الاستبدادي الديكتاتوري، بزعم أن العدو يدقّ على الأبواب، وهكذا تمت مقايضة الديمقراطية والتنمية بالتسلّح وكبت الحريات، وفي نهاية المطاف وبعد أن ضاعت البلاد وتشتّت العباد، ولم نحصل على التنمية المنشودة والديمقراطية الموعودة.
• وماذا عن سوريا واليمن كيف ترى الوضع ؟
إذا كانت أوضاع تونس قد سارت باتجاه إيجابي بعد التغيير وتم احتواء أزمة النظام وتقدمت البلاد خطوات مهمة في طريق الانتقال الديمقراطي واتخذت بعض الإجراءات فيما يتعلق بالعدالة الانتقالية، فإن جزءًا من الأمر يعود إلى عقلانية القوى السياسية ونضج المجتمع المدني ودور اتحاد الشغل ونقابة المحامين، وإدراك حزب النهضة، إن التشبث بالمواقع السلطوية سيقود البلاد إلى تناحر وصدام وربما إلى كارثة، وإن القوى الإرهابية ستستغل الانقسام وتجهز على التجربة الوليدة، وعندما جرت الانتخابات لم يحصل النهضة على المقاعد الأساسية، وأصبح الحزب الثاني بعد حزب نداء تونس، وجنّب تونس وتجربتها ما حصل في مصر، خصوصاً إصرار الأخوان المسلمين على التمترس في الحكم.
أما في ليبيا فقد انقسمت البلاد وبفعل التدخل الخارجي وانحلال مؤسسات الدولة وانتشار السلاح بيد جماعات خارج الدولة وظهرت جميع النزعات ما قبل الدولة من عشائرية وجهوية، وذلك بسبب غياب سلطة موحدة تمسك بمقاليد الأمور وتتجه صوب التحوّل الديمقراطي بعد حكم استبدادي دام أكثر من 41 عاماً.
وفي سوريا فالوضع مختلف حيث لا زالت الحرب الأهلية قائمة، واتجهت حركة الاحتجاج إلى حمل السلاح والانخراط في صراع عنفي ضد الدولة التي لا تزال متماسكة حتى الآن، جيشاً وحزباً ومؤسسات، بما فيها جهازها الدبلوماسي، ولم تظهر هناك عمليات انشقاق تُذكر، ولكن بالطبع حلّ الخراب والدمار، لاسيّما بالبنية التحتية، فضلاً عن الأوضاع المزرية إنسانياً، حيث يوجد ما يزيد عن ثمانية مليون لاجئ ونازح سوري.
إن دخول روسيا على خط الأزمة ودعوتها لمحور رباعي ومباشرتها بقصف المناطق التي تسيطر عليها داعش، يعتبر تطوراً جديداً جيوسياسياً، لاسيّما مع وجود إيران ومسلحين من حزب الله، وتراجع الجماعات المسلحة وانقساماتها وضعف المعارضة الأخرى، بما فيها المدنية الداخلية والخارجية. ولكن الحل يبقى سياسياً وذلك بالانتقال الديمقراطي وإجراء انتخابات حرّة نزيهة وفي ظروف طبيعية وبإشراف الأمم المتحدة ووضع دستور جديد للبلاد يأخذ بنظر الاعتبار التعدّدية والتنوّع الثقافي.
في اليمن سار الوضع باتجاه آخر، فقد سيطر الحوثيون على السلطة وقضموها تدريجياً بعد فترة دامت سنتين ونيّف لاحتواء الصدام، بفعل مبادرة مجلس التعاون الخليجي، ولكن اتجهت البلاد إلى جهة أخرى حيث ساد العنف بدلاً من الحوار والتفاهم. وقد أخاف هذا التطور دول الخليج التي أطلقت عاصفة الحزم تحت عنوان إعادة الشرعية، خصوصاً القلق من التدخل الإيراني، ومنذ أشهر والصراع الدموي والنزاع العسكري مستمر، دون إمكانية حسمه، والقوى الدولية تتفرّج وتبيع السلاح وترهن بعض موارد المنطقة بشكل مباشر أو غير مباشر.
اليمن بئر عميقة ومخيفة، ولا يعرف أحد أين قرارها؟ وكيف يمكن إيجاد حل للأزمة؟ إذْ كلّما استفحلت وطالت ازدادت تعقيداً والقوى اليمنية ازدادت تباعداً ونفوذ القوى الخارجية ازداد تأثيراً.
لقد اختُبِر الحل العسكري سواء في ليبيا أو سوريا أو اليمن أو غيرها، لكن نتائجه كانت وخيمة على الجميع، ولم يحقق أحد أهدافه أو مطالبه عبر السلاح، وحتى لو كان الأمر دفاعاً عن النفس، ففي نهاية المطاف لا بدّ من الجلوس إلى طاولة المفاوضات لإيجاد حلول للأزمات، سواء على صعيد كل بلد أو على الصعيد الإقليمي، ويمكن إشراك الأمم المتحدة لتحمّل مسؤولياتها على هذا الصعيد.
الصراع في المنطقة سيبقى حاداً وشرساً، خصوصاً إذا بقيت بؤرة توتر، تهدّد بالانفجار في أية لحظة، في ظلّ استمرار هدر حقوق الشعب العربي الفلسطيني وعدم تمكينه من تقرير مصيره بنفسه وعلى أرض وطنه وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين وتسوية مشاكل الحدود والمياه وغيرها. ولا يمكن الحديث عن تحوّلات كبرى وحقيقية في المنطقة دون إيجاد حل عادل وسلمي للمشكلة الفلسطينية.
لو أقدمت الدول على إجراء إصلاحات داخلية وقامت بعمليات انفتاح واعتراف بالحقوق الإنسانية، لجنّبت نفسها مخاطر التدخل الخارجي، إن الإقرار بحق المواطنة يعني الامتثال لقواعدها الأساسية وهي :
1- الحرية
2- المساواة
3- المشاركة
4- العدالة ولاسيّما الاجتماعية، إذ لا مواطنة كاملة مع الفقر، وستبقى المواطنة ناقصة ومبتورة وهشّة، مع التمييز وانعدام تكافؤ الفرص، واستمرار التفاوت الاجتماعي والطبقي في الثروة.
إن جوهر علمية التغيير التي ينبغي أن تجري في المنطقة طبقاً لخصائص وظروف كل بلد تاريخياً وتطوره الداخلي، ويمكن أن تتخذ أشكالاً وطرقاً مختلفة، وكل بلد سيصل إليها ولكن ليس تقليداً أو استنساخاً من تجارب سابقة، حتى وإن كان هناك مشتركات للانتقال الديمقراطي منها:
1- إعلاء مبدأ حكم القانون
2- تأكيد استقلال القضاء، مع فصل السلطات .
3- إجراء انتخابات دورية وتأكيد تداولية السلطة سلمياً .
4- احترام التعدّدية والتنوّع في إطار احترام حقوق الإنسان.
ويمكن اعتبار المجتمع المدني شريكاً فعالاً ورقيباً مسؤولاً مع الدولة في صنع القرار ومتابعة تنفيذه، وخصوصاً عندما يتحوّل إلى قوة اقتراح وليس قوة احتجاج واعتراض فحسب، بحيث يقدّم اقتراح مشاريع القوانين واللوائح ويقترح أنظمة وهياكل من خلال مبادرات للدولة، خصوصاً عندما يتم تجسير الفجوة بينه وبينها.
• كلمة أخيرة لكولان ؟
إنني مثلما كنت في السابق وعلى مدى خمسة عقود أتفهم مطالب وحقوق الشعب الكردي المشروعة وأدعمها ما استطعت إلى ذلك سبيلا عراقياً وعربياً وإقليمياً ودولياً. وأتمنى أن أراه يقف بصلابة على أرضه بتأكيد حقه في تقرير المصير الذي هو حق له دون منازع، سواء بقي في إطار الدولة العراقية أو دول المنطقة القائمة، أو استقل بكيان خاص أو حتى بأكثر من كيان.
أمنيتي في أن تتوحد الأمة الكردية، مثلما أمنيتي أن تتوحد الأمة العربية، كما أتمنى أيضاً أن تستمر وتتعمّق علاقات الأخوة والصداقة والشراكة في العراق، تحت أية صيغة كانت، سواء بالاتحاد والعيش المشترك أو حتى عندما يرفرف علم كردستان في الأمم المتحدة، فالكثير من المشتركات تجمعنا وأهمها المصير المشترك والنضال المشترك، ناهيك عن وجود مصالح مشتركة اقتصادية واجتماعية وثقافية وتاريخية.[1]