الكاتب: عباس ولي، منظّر سياسي واجتماعي كردي متخصص في الفكر السياسي الحديث والمعاصر وسياسة الشرق الأوسط الحديثة. أستاذ النظرية الاجتماعية والسياسية الحديثة في قسم علم الاجتماع في جامعة بوغازجي في اسطنبول، تركيا.
المترجم: محمد شمدين؛ مترجم وباحث كردي من سوريا، ماستر في العلاقات الدولية. بكالوريوس لغة انكليزية
كان الربيع العربي دليلا على تنامي رغبة الشعوب في تقرير مآليها السياسي وظهورها كقوة سياسية، ورفضها للأنظمة الحاكمة، والمطالبة بالسلطة. من تونس إلى سوريا، تم التعبير عن المطلب الشعبي للتغيير في السعي إلى حكم ديمقراطي يمثل إرادة الشعب. ترددت أصداء المطالبة في الشوارع بإعادة السيادة للشعب، لتصبح النقطة المحورية للحركات الاحتجاجية الشعبية. وقد أعطى سقوط بن علي ومبارك والقذافي بالفعل شرعية وثقة كبيرة للانتفاضات الشعبية في هذه البلدان، ما أثار استياء بشار الأسد حتى قبل ظهور الحركة الاحتجاجية الشعبية في سوريا، الذي استبق وحذر السوريين من قدوم هذا الفيروس. لكن في سوريا مع وصول هذه الموجة، تعثرت حركة الاحتجاج الشعبية ضد نظام البعث دون أن تترسخ، وانتشرت دون أن تكون منظمة وتشتت قبل أن تتأصل. أدى الرد العنيف للدولة والاستخدام العشوائي للعنف إلى تفتيت معارضة المفككة أصلا، وإلى تقويض تماسكها ومسارها، حتى قبل أن تتدخل القوى الإقليمية مع قوى محلية بالوكالة في الأزمة الوطنية الصاعدة، هذه القوى الإقليمية التي حاولت التأثير على مسار الأحداث وتحديد نتائجها في ميدان سياسي متقلب. أدى إضفاء الطابع الإقليمي على الأزمة والحرب الأهلية وما تلاها من الطائفية العرقية (العربية - الكردية) والدينية (العلوية - السنية - المسيحية) إلى خروج الانتفاضة عن مسارها، الامر الذي انعكس على تعزيز حظوظ النظام البعثي، الذي منح فرصة حكم جديدة، خاصة مع التحول في السياسة الأمريكية في آب/ أغسطس 2013. فقد أدى فك الارتباط الاستراتيجي، الذي اتبعته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بنشاط منذ ذلك الحين، إلى تفاقم الصراع على السلطة في المجال السياسي الطائفي، وتهميش القوى العلمانية وتوسيع الفجوة بينها وبين القوى الإسلامية الجهادية المتنامية. أثبتت القوى العلمانية المنقسمة داخليا على أسس عرقية ودينية وسياسية، والتي وقعت وسط تبادل إطلاق نار شرس بين البعث والإسلاميين، أنها غير قادرة على تشكيل جبهة موحدة لاستعادة الأراضي التي خسرتها. وتعرضت حظوظهم لضربة أخرى أكثر خطورة، حيث ظل الجزء الأكبر من الجيش السوري وقوات الأمن موالية للنظام، ولم تحدث الانشقاقات ولا الهروب من الخدمة على نطاق واسع. كما وفّر فراغ السلطة الحاصل أرضاً خصبة لنمو القوى الجهادية، بما في ذلك داعش. فقد أكسبتهم مرونتهم التنظيمية وتماسكهم العسكري واستخدامهم الفاعل للعنف العشوائي في البداية دعما كبيرا بين القطاعات الساخطة من الأغلبية السنية، المنهكة بسبب الأزمة المطولة التي يبدو أنها تديم نفسها ويديرها نظام شيعي - علوي .
أدت الحرب الأهلية وظهور قوى محلية تعمل بالوكالة وداعميها الأجانب إلى إضفاء الطابع الإقليمي على الصراع وعسكرة المجال السياسي في عام 2012. وقد غلب العنف لاحقا على العملية السياسية منذرا بنهاية فكرة الشرعية لنظام البعث التي أطلقتها الاحتجاجات الشعبية في ربيع عام 2011. كان النظام يقاتل بالفعل من أجل بقائه عندما كسبت القوات الجهادية الميدان العسكري وعندما هيمنت المعارضة عام 2013؛ لاحقا، لم تعد المعارضة ولا الجهاديون او غيرهم يرون أي شرعية قانونية للنظام، بل جميعهم عازم على تدميره. كان لصعود حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) في روج آفا/ Rojava (منطقة شمال شرق سوريا)، إلى جانب توطيد مكاسبه الإقليمية وما تلاه من تشكيله لثلاثة مقاطعات سياسية-إدارية مستقلة (الجزيرة وكوباني وعفرين) في صيف عام 2012، دليل على تمزق هيكل الهيمنة السيادية للدولة السورية. تمكن الحزب الاتحاد الديمقراطي في الإعلان الرسمي عن الحكم الذاتي في كانون الثاني/ يناير 2014 نتيجة هذا التمزق والفراغ السياسي الناجم عن فشل السلطة السيادية في تأكيد سلطتها خارج منطقة الأمن وسيطرتها المباشرة .
كما ساعد صعود داعش، وقوته العسكرية الرهيبة ومكاسبه الإقليمية ونفوذه السياسي في سوريا والعراق، في تعزيز حظوظ الإدارة الذاتية الكردية في روج آفا بعدة طرق. فقد أدت عمليات إعادة الاصطفاف الجديدة في المجال العسكري، التي انخرطت فيها قوى دولية وإقليمية كبرى، إلى توفير الأرضية لحزب الاتحاد الديمقراطي لتعبئة الجزء الأكبر من السكان ولعب دور قيادي في الصراع ضد الآلة العسكرية والنفوذ السياسي لداعش. في روج افا، كان الدفاع عن كوباني وهزيمة داعش وطردها من المنطقة (تشرين الأول/ أكتوبر 2014 – كانون الثاني/ يناير 2015) تتويجا لتفوق حزب الاتحاد الديمقراطي الإقليمي ونوع من الشرعية الدولية. أعطى هذا مكانة خاصة لحزب الاتحاد الديمقراطي في الهيكل التشغيلي للتحالف المناهض لتنظيم الدولة الإسلامية، والذي تم تحديده بشكل أساسي من خلال المتطلبات العسكرية واللوجستية للاستراتيجية الأمريكية في سوريا. وهكذا احتل حزب الاتحاد الديمقراطي مساحة استراتيجية خلقها عدم إرسال الولايات المتحدة لقوات برية في الحرب ضد داعش. إن عمل قوات الحماية الشعبية (YPG) كقوات مشاة أمريكية في ميدان المعركة المتوسع داخل وخارج الحدود الإقليمية لروج آفا، قد مكنها من المشاركة في صنع القرار الاستراتيجي في الإدارة اليومية للحرب. إن التوسع التنظيمي والنجاح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي، القائم على أيديولوجية المساواة المجتمعية، مكّنه من تجاوز الحدود العرقية واللغوية للمجتمع الكردي والوصول إلى عدد أكبر وأكثر تمايزا من السكان في المنطقة. لعب حزب الاتحاد الديمقراطي دورا قياديا في الهيكل المؤسسي لتشكيل قوات سوريا الديمقراطية، وهو تحالف فضفاض مكون من قوى متعددة الأعراق واللغات في المنطقة، تولت زمام القيادة في الحرب ضد داعش في أطراف الرقة، العاصمة العسكرية والأمنية لداعش. كما عزز التدخل العسكري الروسي، الذي غير التوازن لصالح نظام البعث، من المكانة السياسية لحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا التي مزقتها الحرب. لقد استفاد حزب الاتحاد الديمقراطي من التفاهم بين الولايات المتحدة وروسيا في المنطقة، حيث يبدو أن الحزب راضٍ عن دوره العسكري ونفوذه السياسي المتزايد. هناك دلائل تشير إلى أن كلا القوتين تعتبران حزب الاتحاد الديمقراطي أحد الأصول القادرة على لعب دور إيجابي في التنفيذ الفعال لاستراتيجياتهما في سوريا ما بعد داعش، على الرغم من عدم وضوح موقفهما من تطوير مشروع الحكم الذاتي الديمقراطي في روج آفا، ومن فكرة النظام السياسي الفيدرالي في سوريا. حيث إن وجود دولة فيدرالية ديمقراطية شرط أساسي لإمكانية استمرار الحكم الذاتي الديمقراطي في سوريا بعد الأزمة. فطالما لا يوجد نظام فيدرالي ديمقراطي في سوريا، فإنه لا يمكن ضمان استمرار مشروع الحكم الذاتي الديمقراطي في روج افا إلا بدوام أزمة السيادة وتمزق هيكل الهيمنة السيادية. تشير هذه النقطة إلى التصميم الداخلي للسلطة السيادية وطريقة هيكلها المؤسسي لمفهوم الحكم الذاتي الديمقراطي كنموذج حكم لا يتمتع بالسيادة في ظل ظروف السيادة. أنها متشابكة. ستشكل هذه الحجة النقطة المحورية في نقدي لنظرية الحكم الذاتي الديمقراطي في سياق كردستان.[1]
=KTML_Link_External_Begin=https://www.kurdipedia.org/docviewer.aspx?id=466261&document=0001.PDF=KTML_Link_External_Between=انقر لقرائة أزمة السيادة و السعي الكردي للحكم الديموقراطي في سوريا=KTML_Link_External_End=