#هوشنك بروكا#
بعد 18 عاماً من قنبلة الناشطة الكردية البارزة والنائب عن كتلة حزب الشعب الديمقراطي، في البرلمان التركي سابقاً، والتي تكلمت الكردية أثناء حلفها اليمين أمام البرلمان في عام 1991، الأمر الذي أودى بها إلى السجن عشرة أعوام، فجّر أمس رئيس حزب المجتمع الديمقراطي الكردي، قنبلةً جديدةً، اختار لغته الأم الكردية لساناً مدويّاً لها، هي الأولى والأثقل من نوعها، منذ تأسيس الجمهورية التركية على يد أتاتورك سنة 1923؛ الجمهورية التي يمكن اختزال كل الجغرافيا وكل التاريخ في إسمها التركي الأكيد: جمهورية واحدة لشعب تركي واحد.
فضائيات تركيا الرسمية، قطعت بثها المباشر لوقائع جلسة البرلمان، فور مباشرة تورك حديثه بلغته الأم الكردية، بحجة أن التركية هي اللغة الرسمية الوحيدة، المسموحة بها في البرلمان التركي، وهو الأمر الذي يعني، أن اللغة الكردية، كسواها من لغات الأقليات التركية الكثيرة الأخرى، كالأرمنية والعربية والسريانية واللازية والبلغارية واليونانية، لا تزال لغة ممنوعة من الصرف، ومحظورة وممنوعة منعاً باتاً في القاموس السياسي، لتركيا الجمهورية الرسمية، كما تشهد على ذلك بنود صريحة من دستورها المفصّل، على مقاس العنصر الأوحد، تفصيلاً أتاتوركياً مبيناً.
ففي المادة 81 من قانون الأحزاب السياسية في تركيا، هناك بند صريح ينص على ضرورة قبول كل الأحزاب السياسية بالهوية التركية الواحدة للجمهورية، مقابل رفض مطلق لوجود أي عنصر آخر خارج العنصر التركي. وهو بندٌ أساسي من البنود المؤسسة على نظرية الشمس القومية التركية، التي تبنتها تركيا الحديثة سنة 1932، والتي تدعي بأن اللغة التركية هي أم اللغات، وأن الحضارة التركية قبل الإسلام هي أم الحضارات. وهو ما يعني اللاإعتراف الأكيد بوجود أية أقليات عرقية أو دينية أو مذهبية، من شأنها أن تفرط بوحدة أراضي تركيا الواحدة الموحدة.
إذن، تركيا، حسب دستورها الدائم القائم على عبادة العنصر الواحد، هي للأتراك فقط، وخلا اللغة والثقافة التركيتين، لا توجد أية لغة أو ثقافة أخرى رسمية مرخّصة لتركيا.
في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، فجّر رئيس الكتلة البرلمانية الكردية أحمد تورك البرلمان التركي بخطابٍ قويٍّ غريبٍ، أراد له أن يكون كردياً فصيحاً، بلغة أمه، كما قال، هذه المرة، حيث لم تألف ردهات وقاعات تركيا الرسمية، خطاباتٍ كهذه خارج تركية، قط، منذ أكثر من 85 عاماً.
القطع الرسمي، للبث المباشر لخطاب تورك الكردي الفصيح، من جهة وسائل الإعلام التركية الرسمية، لم يمنع تسريبه، بالصوت والصورة، وبالتالي بثه لاحقاً، في وسائل الإعلام اللارسمية الأخرى، سواء في الداخل التركي أو خارجه.
افتتح تورك خطابه القنبلة، بذكرياتٍ مؤثرة، من السجن الماضي، حيث أعاد أحد الأسباب الرئيسية لقنبلته الكردية تلك، إلى أيام سجنه، في ثمانينيات القرن الماضي، حين كان السجناء الكرد يُمنعون من التحدث بالكردية مع ذويهم(خصوصاً أمهاتهم)، الذين لم يشأ الله أن يرزقهم بلسان الدولة؛ لسان الشمس، أو التركية المقدسة، فكانوا سجنئذٍ، ومنعئذٍ، أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يسلكوا لغة الصمت والإشارات طريقاً للمحادثة فيما بينهم، أو أن يتحدوا ممنوعات السجن ويتحدثوا إلى أهليهم ببعض الكردية، تشفياً، ليذهبوا بعدها إلى عقوبتهم المحتمة. مذاك، يقول ترك، أنه أقسم على نفسه بأن يفجّر تركيا الرسمية، يوماً بحروفه الكردية، وفاءً لدموع أمه، وها هو الآن يفعلها.
تورك كان هادئاً متوازناً، ومتزناً في مجمل خطابه، فضلاً عن أنه دعا فيه، إلى إخوة الشعوب في تركيا، وطالب الفوق التركي الحاكم بضرورة احترام خصوصية كل المكونات التركية، ورفع المنع والحظر، عن ثقافاتهم ولغاتهم، أسوةً بأتراكهم، معبراً عن قناعته الأكيدة بالإنتصار المحتم للثقافة الديمقراطية في القادم من تركيا، كما حيّا المرأة، مقدّماً، بمناسبة عيدها العالمي القادم، ووصف نوروز(أكبر عيد قومي يحتفل به الأكراد في 21 آذار من كلّ عام)، بأنه يوم الإنتصار الرمزي على كل أشكال الظلم.
تورك، بكسره لتابوهات الدستور التركي تحت قبة برلمانه، وتحديه لتركيا الرسمية، من خلال تحدثه بلغته الأم الممنوعة المحظورة، قانونياً، في أكبر فوق رسمي تركي، إنما أراد بذلك نقل رسائل سياسية جداً مهمة، إلى الفوق التركي، الذي لا يزال يختزل كل تركيا في أتراكها، وكل لغاتها وثقافاتها في اللغة والثقافة التركيتين، أهمها هي:
1. الأكراد، الذين تمثلهم كتلة حزب المجتمع الديمقراطي، الكردية، في البرلمان التركي، والمؤلفة من 22 برلمانياً، ليسوا أتراك جبال، ولا هم بالأكراد الأتراك، وإنما هم أكرادٌ أكراد، يعيشون على أرضهم التاريخية، وهم لهذه الأرض، كما تلك هي لهم.
2. اللغة الكردية، هي لغة قائمة بذاتها، تتحدث بها الملايين الكردية الكثيرة، سواء أن شاء الدستور التركي أو لم يشأ، وهي ليست لهجةً تركية، كما هو منتشرٌ في أوساط تركيا الرسمية. فلماذا لا يكون لها، أسوةً بالتركية، ذات الحق في الحياة، والحرية والحركة؟
3. حزب العدالة والتنمية الحاكم، كذب على أكراده ثلاث مرات(مرتين في الإنتخابات البرلمانية وأخرى ثالثة في الإنتخابات البلدية)، ولكنه لن يستطيع ركوب ذات الكذب في الإنتخابات القادمة(29 مارس المقبل). فهو، في الوقت الذي أطلق قناة تلفزيونية ناطقة بالكردية، خارجة على الدستور والقانون التركيَين، لأغراض دعائية بحتة، فلماذا هو(إن كان صادقاً بالفعل، مع الكردية وأكرادها) لا يغيّر الدستور التركي إذن(وهو الحزب الحاكم)، ولا يجعل من اللغة الكردية، لغة مرخّصةً رسميةً أخرى للبلاد، أسوةً بالتركية، حيث يعيش في تركيا أكثر من 18 مليون كردي.
لماذا تكون الكردية مرخصة لحزب أردوغان في قناة TRT6 اللاقانونية، بينما تكون ذات الكردية، ههنا في البرلمان، وسائر مؤسسات الدولة الرسمية الأخرى، ممنوعةٌ على البرلمانيين الكرد أنفسهم، وبالتالي على الملايين الكثيرة من أكرادهم..هل القانون التركي قانونان..والكردية كريتان؟
هل كردية القناة التلفزيونية، التي أطلقها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، وشاء لها أن تكون كردية خالصة مخلصة، هي غير الكردية التي يتحدث بها أكرادها هناك في البرلمان، وسائر مؤسسات الدولة الرسمية الأخرى، أم أن العدالة والتنمية، يمارس سياسة الكيل بمكيالين، وبالتالي تكتيك اللعب بمشاعر الأكراد، ودغدغتها بلغتهم الأم، ولكن على الطريقة الأردوغانية المسلمة؟
ثم لماذا تكون الكردية في تركيا أردوغان المزدوجة، كرديتان: واحدة حبوبة، مرنة، معتدلة، مرخّصة لأردوغان وحزبه، ينفخون فيها شعاراتهم وسياساتهم، تحت يافطة الإخوة الإسلامية، وكردية أخرى ممنوعة من الصرف، عدوة، محظورة، لا قانونية، لا بل إرهابية، يعاقب عليها كل من يسلك سبيلها، إلى التعبير عن رأيه ومشاعره؟
4. إذا كان هناك من صدّق بين العرب والمسلمين(رسميين+شعبيين) بأنّ أردوغان كان صادقاً، حين مثّل في منتدى دافوس قبل أسابيع، دور بطل الأمة الإسلامية المعاصرة، ليكون فلسيطينياً أكثر من عرفات، ومسلماً أكثر من قريش، فإنه لن يستطيع أن يقوم بتمثيل ذات الدور في تركيا على أكراده. فهو لن يستطيع أن يكون كردياً أكثر من ليلى زانا ورفاقها الآخرين الكثيرين، كما هو يحاول اليوم، جاهداً مجاهداً، عبر الغمز من قناة الدين، والإخوة الإسلامية في تركيا المسلمة.
5. حزب المجتمع الديمقراطي الكردي، على لسان رئيسه، أراد أن يؤسس بهذا الخطاب القنبلة، لمرحلة جديدة من الكفاح الكردي في تركيا، فهو أسس بهذا الإختراق الكردي لتركيا الرسمية، لنقلةٍ نوعية للقضية الكردية هناك، حيث حولّها من قضية إرهابية(حسب التوصيف التركي) في الجبل، تتحدث لغة القنابل، إلى قضية سياسية، مدنية، حقوقية، ديمقراطية، سلمية، تتخذ من الكردية الممنوعة، قنبلةً سياسيةً موقوتة لها، في تركيا المدينة، وتركيا البرلمان، وتركيا الإنتخابات، وتركيا المؤسسات العلنية.
6. الخطاب القنبلة جاء في وقتٍ، تشهد تركيا صراعاً قوياً، بين حزب تورك الكردي وحزب أردوغان الإسلامي، على حصاد الملايين الكثيرة من أصوات الأكراد، في الإنتخابات البلدية القادمة. رئيس الكتلة الكردية أحمد تورك، عرّى بكرديته الممنوعة في البرلمان والمرخصة لأردوغان خارجه، نوايا العدالة والتنمية، ولاصدقيته مع الأكراد، الذين يُستخدمون كحطب تحت الطلب لنيران إنتخاباتهم، التي يختارون فيها الدين المشترك، دائماً، عنواناً عريضاً لصناديقها، لا سيما وأنّ الأكراد كانوا على مرّ تاريخهم الطويل، حطباً سريع الإشتعال، في كل النيران التي زُجّوا فيها تحت يافطة الدين الواحد، الذي لا يفرّق بين عربيٍّ وأعجمي إلا بالتقوى.
7. أما على مستوى الخارج التركي، فكان الخطاب رسالةً واضحةً، إلى الخارج الشاهد اللي ما شافش حاجة، وبالتالي تذكيراً لكل من أمريكا وأوروبا، بأنّ القضية الكردية في تركيا، ليست مجرد قضية جبل يقتل ويهرب، أو قضية غسل الدم بالدم، أوقتل متمردين مسلحين لمدنيين أو قضية إرهابية خطيرة، كما تشاء الدوائر الرسمية للغرب الديمقراطي أن تسميها، وترّوجها، وإنما هي قضية شعب ممنوع يقدر بأكثر من 18 مليون نسمة، وقضية لغة محظورة، وثقافة محظورة، وتاريخ محظور، وجغرافيا محظورة، وهي بالتالي قضية إنسان محظور، ممنوع، لا محل له من الإعراب في دستور تركيا.
أحمد تورك، الذي سيدخل تاريخ التركيتين، تركيا التركية قبل تركيا الكردية، من أوسع أبوابه، لم ينتصر بكرديته العابرة لتركيا الرسمية، لقلب أمه فحسب، وإنما انتصر في هذا الوفاء لتاريخه ولتاريخ دموع أمه، لتاريخ جبله ودمه أيضاً، في قلب حاضر تركيا المدينة، وفي قلب الحاضر من برلمانها.[1]