المراثي وتجليات التراجيديا كُردياً – أغاني بيظوك وبهاريان أنموذجاً
وليد حاج عبدالقادر / دبي
بتصوري المتواضع وفي متابعةٍ شخصية – كهواية – لأسس بناء وتدوين ثقافات الشعوب، ومنها التي لاتزال تعيش بعيداً أو على أعتاب الحضارة المعاصرة، إن في إفريقيا أو غابات الأمازون واستراليا ، فقد وجد هناك من انتبه لأنماط حياتهم ، وسعوا كباحثين ،فرادى وجماعات، للبحث والتقصي ومن ثم تدوين عاداتهم وتقاليدهم ، لابل وحتى وضع ألفباء أو سبل أخرى للتدوين اللغوي خاصة بهم .
وهنا وبخاصية الشعب الكُردي ، وعلى الرغم من توفر آفاق ووسائل عديدة سواءً للتدوين من جهة أو التوثيق بمختلف الوسائل الممكنة والسهلة أيضاً نظراً لغزارة المواد و تنوعها الشفاهي ، إلا أنها و إلى الآن لم تحظَ – كأسس – التدوين والجمع وبالتالي التقصي الممنهج لتراثٍ يشهد كلّ مَن تابعها بغناها الهائل لغةً وفكراً وتسلسلاً ميثولوجياً يشي بالتناسق في تراكبية الوعي من جهة ، وتراتبية آفاق التشكّل المجتمعي وبنيانها الإنتاجي من جهة أخرى ، والصراع من خلال تلك المتوالية التي استندت في الأصل ومنذ بدايات الوعي البشري على أنماط الصراعات البينية مجتمعياً وأيضاً بانواع تشكلها – تخصصها المستقر الزراعي – ديمانا – و المتنقل الرعوي – الكوجر – ومن ثم ظاهرة التوسع وصولاً إلى المجتمع المديني لاحقاً ، هذه الأنماط المتشكّلة كنماذج مجتمعية بقيت كلها في الأساس ترتكز على ذاتها الأسس الرئيسة في جدلية النقيضين وكركيزةٍ لها كانت الحياة والموت ، الجفاف والغزارة ، القحط والوفر ، الخريف والربيع الفصلين اللذين ادمغا نمطيهما الفصلي في مجتمع سواده كانوا – رعاة او فلاحين – يعتمدون على الماء وبالتالي المطر ، حيث بوفرته يكثر الكلأ وقلّته يعني الشحّ وقلة الزرع والمرعى ، ولتجسّدت هذه الفصلية وتحدّد دورتين فصليتين متناقضتين ولكن مرتبطتين أيضاً بوشائج وسريالية وبقوةٍ أيضاً مع السيرورة الزمنية وتتابعها ، واختزلتها الشعوب في ثقافاتها العتيقة بأبعادٍ طغت عليها الطقسية وبقداسةٍ كانت تستمر بهالةٍ عبادية بمراكزها – معابدها بكهنتها وسدنتها إلى أن ينجلي عنها القداسة بظهور مطوب آخر – وكمثالٍ في الإرث الكُردي كجل او گوري – هذا التمظهر المتجدّد وكما في عشرات القصص الملحمية الكُردية تخوض صراعاً معرفياً ( بشكلٍ علني أو مخفي وسري ) لتبيان السيء السائد والتي قد تلازمها قوة أيضاً في الصراع إن مع ديو متعدد الرؤوس ( مثلاً ديوي حفت سري .. سي سري ) أو – بير عڤوك .. بيرا مروڤ خور – وليتطوّر الأمر لاحقاً ، وبشكلٍ خاص بعد انتشار الزرادشتية في كُردستان وليتجلى أيضاً في ارتكازه على قوة الخير أو الشر أي – اهورا مزدا و اهريمن – ومن جديد وكتجذير مكثف هي ذاتها الطقسية الرافدية ومناحة اينانا ودوموزي وظاهرة الموت الطقسي الخريفي والتجلي / الإحياء الربيعي والذي اتخذ تاريخياً كسمةٍ بُنيت عليها آفاق تشكّل الوعي والتراث الكُرديتين ، واللتين رافقتا بنيوياً وبسيادة طقسية – مناخية استقرّت في نواة كلّ تراث وفولكلور الشعب الكُردي ، وإلى الآن لاتزال صورها بمشاهداتها وأغانيها كما وفصول مناحاتها واحتفالات أفراحها تتجسّد فيها مرثيات الموت ومن خلال أغانيها التراجيدية وبعباراتٍ ذي مغزى عميق تمرّر عناوين لمراحل البؤس وردّة الفعل على الألم الشديد إن لواقعٍ مرير أو عبرة شخصانية وكأنموذج – أغنية مالامن – التي تسرد مظاهر قد تبدو لنا ساذجة الآن عكس السباق التأريخي الموغل في القدم وفقدان وسائل حديثة كالقول إنّ بعض أنواع الهواء تدلّ على أنّ المطر سيهطل ، أو أنّ من علائم الموت الحمى ،
إذن وببساطةٍ فإنّ أغاني الخريف – بيظوك – هي ليست فقط للندب والتاوهات المواجهة بقدر ماهي في الأصل حمّالة للأوجاع وسرديات المناحات المسببة لعظيم الآمال وايضاً نقل مايتوجب عبر ألغازٍ كانت مبهمة جداً حينها ، أو مغلّفة بقداسةٍ لا يجوز بالمطلق النطق بها علناً وإشهارها وكمثالٍ أيضاً ومن ذات الأغنية – شكر ونبات چ هندي نا ما كه سي ديتيا ماصيين دبن حفت آڤا دا بمري ژ تيهنا – .. ناهيك أيضاً عن المدلولات العديدة التي حوتها كثير من الصراعات تبدو لوهلتها الأولى لأنها فعلاً جرت – تجري بين شخوصٍ عاديين وتختلف في أحيانٍ مع شخصيةٍ تحمل ذات الاسم ولكن تختلف مهنته ، ولعلّ شخصية مم ممو ممي آلان .. ممي شڤان .. ممي گاڤان .. ممي جوتيار والأهم ستبقى ظاهرة كجل – گوري التي هيمنت على قصص كثيرة رويت شفاهاً كسردٍ أرفق بالغناء أحياناً و أشهرها في التراث الكُردي ممي آلان ، زمبيل فروش ، سيامند وخجي ، علو فاطمي وغيرها كثير جداً … وهنا لابدّ من التركيز على امرٍ جد حيوي ارتبط بظاهرة الرحيل الوقتي منه والأبدي ، وإن طغت عليها في الأصل ظاهرة ذات الرحيل الطقسي وايضاً بارتباط جذري في ذاته الرحيل ال – دوموزي – والموت الفصلي والعودة من جديد الى نسقية الحياة ببعدها الفصلي ..
أما في خاصية أغاني – بوهاريا – وطقوسها وطرائق أدائها والتي قد تتجسّد في أغاني الرعاة وبيئتهم أو ما يمكن تصنيفها بأغاني – بيريڤان – لابل وحتى – باله هي – مثلا ، والتي تشي أو تعبّر بأدائها وكلماتها بمرادفاتها ومعانيها ذلك العنوان والدفع بالهمة لإستحصال الكدّ والمنتوج ، لابل حتى أنّ إيقاعاتها بألحانها تبدو مفعمة بالحركية والنشاط عكس غاني الخريف الحزينة ومناحاتها المؤلمة .
وعود على بدء : إنّ العودة إلى هذا الموضوع من قبل المهتمّين والباحثين وتخصيص برامج بحثية أكاديمية للجمع والتدوين وإجراء التقاصّات والمقارنات عليها ومن ثم دراستها واستخلاص الأهم فيها لا تقلّ مطلقاً عن فتح أي تلةٍ مشهورة وإجراء التنقيبات عليها من جهة ، وتزيد عليها بأنّ حفظة هذه الأغاني بنقاوتها وتراتبيتها بأداءٍ يقارب الأصل يرحلون واحدهم تلو الآخر . وإنْ كان بعضهم يسعى لتوثيقها وبجهودٍ شخصية خوفاً من اندثارها .[1]