حناني ميا
في العام 1965 كنت موظفا صحيا في قصبة بارزان مركز ناحية بارزان وهي تابعة للواء اربيل أنذاك ورغم كونها منطقة جبلية نائية ألا أنني كنت مرتاحا فيها نظرا لطيبة أهلها وأحترامهم وتقديرهم للموظفين الذين كانوا يقدمون لأبناء شعبهم من خدمات لا سيما وظيفتي في المجال الصحي حيث كانت خدمتي تشمل الجميع في وقت كانت الطرق غير مبلطة ووسائل النقل قليلة جدا , وقد أعجبت بالنظام الأجتماعي لعشيرة بارزان حيث كانت العدالة الأجتماعية مطبقة بين جميع أبناء العشيرة في بارزان والقصبات والقرى التي كانوا يسكنون فيها مثل بارزان , بله , ميركة سور , ناحية شيروان مازن , أركوش , شيفي , سيليكي , ميروز , شانه ده ر, ريزان , بيديال ,, قرية مسيحية ,, وغيرها , وكانت المسؤوليات موزعة على أبناء العشيرة بشكل هرمي يشبه النظام الحكومي فمثلا الشيخ أحمد ,, خودان بارزان ,, كان شيخا روحانيا ودنيويا للعشيرة يحضى بأحترام وتقدير ومحبة الجميع لأنه كان زاهدا لا يعرف الأمور المادية وخاصة النقود كان لا يعرفها ولا يقتنيها وحينما كان الموظفين في الناحية يزورنه في ديوانه العامر الكبير كان يقوم بالترجمة من الكردية الى العربية وبالعكس أبنه الشيخ نذير الذي كان يجلس القرفصاء الى جانبه ويناوله عودا خضراء خاصة من شجرة أسمها حسب معلوماتي ,, كنير ,, داري كناري ,, كان يقلمها بشفرة صغيرة الواحدة تلو الأخرى للتسلية فتفوح منها رائحة زكية , وكان رجلا طيبا دمث الأخلاق , يأتي من بعده ولده الأكبر الشيخ محمد خالد ,, أبو ربيع ,, الذي كان يسكن قصبة ميركة سور مركز قضاء الزيبار وكان تابعا للواء اربيل أيضا وكانت مهامه شؤون العشيرة الخارجية مع الحكومة والعشائر الأخرى وكان رجلا مديد القامة وطيبا يشبه والده , وكانت ميركة سور تبعد عن بارزان ثمان ساعات سيرا على الأقدام في منطقة جبلية حيث كنا نحن الموظفون نقصدها سيرا على الأقدام لأستلام رواتبنا الشهرية من خزينتها , ثم ياتي ولده الشيخ عثمان ,, أبو عماد ,, الذي كان يسكن قصبة بارزان ويتصف بصفات طيبة كالهدوء والرزانة ورجاحة العقل بالأضافة الى الشخصية القوية والوسامة وكان مسؤولا عن عشيرة بارزان وله ديوان كبير وعامر وولده الآخر كان أسمه دهام وهو أصغر من عماد وكانا دمثا الأخلاق , وكان لكل قصبة وقرية مسؤولا تابعا للمراكز الرئيسية , وكان للعشيرة نظام أجتماعي صارم ولكنه عادل حيث كان للشيخ جهاز أمني أقتصادي لمراقبة الأسعار وخاصة المواد الأستهلاكية التي تهم حياة المواطن اليومية , وبارزان تشبه عقرة فيها بساتين مثمرة في وادي سحيق وواسع موزعة على الشيوخ والمواطنين بشكل عادل وبيوتها كانت على شكل مدرجات وفيها جامع قديم جدا يجري في داخله جدول ماء جار يقال بأنه كان كنيسا يهوديا ثم أصبح كنيسة مسيحية قبل أن يصبح مسجدا للمسلمين , وفي عهد الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم تم بناء بيوت حديثة في قصبة بارزان لجميع أهلها على الطراز الغربي , وكذلك في قرية ريزان , وفي أحد الأيام جاءني الشيخ لقمان أحد أنجال السيد مصطفى البارزاني بسيارة لاندروفر طويل ومعه رجل مسيحي كبير السن كان أسمه أسحاق ,, يلقب ب ,, قمصو ,, وهو نجار من أهالي قصبة ديانا مركز ناحية ديانا التابعة لقضاء راوندوز حيث كان يعيش ضيفا على الشيخ لقمان في ريزان وكان يحبه كثيرا فعرفني بشخصه وطلب مني مرافقته مع بعض الأجهزة والمستلزمات الطبية والأدوية الى قصبة ريزان التي كان يسكن فيها هو وبعض أخوته منهم السيد عبيد الله الذي أصبح وزيرا للدولة أيام حكم حزب البعث العربي الأشتراكي وكانت له سيارة لاندروفر قصير وشقيقه صابر , وذلك لمعالجة المرض فيها نظرا لعدم وجود مؤسسة صحية فيها أنذاك , فقلت له ليسى لي مانع ولكن الأمر يتطلب أمرا تحريريا من مدير الناحية وفعلا ذهب الى مديرية الناحية التي كانت بنايتها مجاورة لبناية المستوصف وجلب لي كتابا رسميا موقعا من قبل مدير الناحية ,, وكان أسمه محمد علي الخطيب ,, أبو حيدر ,, وهو أبن السيد سلمان الخطيب أمام ناحية النعمانية في لواء الكوت , فأخذت معي ما يلزم وذهبت معه الى ريزان وحينما وصلنا أليها خصص لي بيتا ورجلا مسنا لمساعدتي في البيت وكان رجلا طيبا جدا ومطيعا , وبعد تناول الغداء بدأت بأستقبال المرضى ومعالجتهم ومن ابرز المرضى الذين قمت بمعالجتهم وأتذكر أسمائهم ... الشيخ بابو بارزاني شقيق الشيخ أحمد بارزاني وكان شيخا كبيرا وقورا وقد تعرفت على ولديه الشيخ شفيع والشيخ أيوب وكانا دمثا الأخلاق , وكانت المرحومة حمايل خان من ضمن المرضى الذين عالجتهم وكانت أمرأة وقورة ومتواضعة وكان للمرحوم الملا مصطفى أكثر من زوجة وعلى الأكثر كان عددهن أربع حيث زرتهم في بيتهم الخاص بمعية الشيخ لقمان وأطلعوني على بعض الأدوية التي كانت بحوزتهن والمرسلة لهن من الخارج حيث شرحت لهن طريقة استعمال تلك الأدوية مع تزويدهن ببعض الأدوية لحالات بسيطة وشائعة التي كانت بحوزتي , وكان أيضا ضمن المرضى كريمة السيد البارزاني وأظن بأن أسمها كان فوزية وكانت حالتها تستدعي الذهاب الى مستشفى اربيل فأخبرت الشيخ لقمان بذلك فقال لي ليسى سهلا علينا الوصول الى اربيل , فأكدت له على عدم خلو حالتها من الخطورة فقال لي .. ليست أفضل من أي مقاتل كردي في جبال كردستان حيث كان القتال محتدما بين الحكومة والحركة الكردية ولكن رحمة الله واسعة فأثناء وجودي وصل صندوق خشبي فيه مختلف أنواع الأدوية مصنوعة في بريطانيا فعاينتها وكتبت عليها التعليمات اللازمة لأستعمالها وكان فيها دواء فعالا لحالة الآنسة الشابة الأخت فوزية فتناولته وشفيت شفاء عاجلا وتاما والحمد لله وعمت الفرحة جميع أفراد العائلة , وبضمن المرضى الطفل الرضيع صلاح أبن الشيخ لقمان الذي كان يعاني من التهاب الأمعاء الولادي , وكذلك رجلا كان مصابا بطلق ناري في ساقه ولكنه لم يكن عميقا جدا مما مكنني من تنظيفه وأخراج الرصاصة وخياطة الجرح ومداواته وزرقه بأبرة ضد الكزاز وأبرة بروكائين بنسلين وأستمر علاجه لمدة أسبوع حيث تماثل للشفاء , ومرضى كثيرون جاءوا من القرى المجاورة , وفي الليل كنت أجلس في ديوان الشيخ لقمان الذي يمتلئ برجال العشيرة وكنا نشرب الشاي الذي يحبذونه خفيفا وباردا , وبعد أنتهاء مهمتي طلبت من الشيخ لقمان أعادتي الى بارزان فتناول شدة نقود كاملة من فئة خمسة دنانير ,, 500 دينار ,, وأراد أعطائها لي عن أتعابي ولكنني رفضتها بأصرار فقبل وأحترم رغبتي , فأوصلني مشكورا الى المستوصف الذي كنت أسكن فيه وكانت سيارته اللاندروفر الطويل مملوءة بكل ما لذ وطاب من الفستق والجبن والعسل وحبة الخضراء والسماق والتبغ ابو الريحة ,, تبغ كارا , الذي كان لون أوراقه كالذهب والجوز واللوز والزبيب الأسود والأصفر والتين المجفف والدهن الحر وما الى ذلك كهدية لي فقبلتها وشكرته كثيرا وفي أجازتي أخذت تلك الهدايا الى أهلي في اربيل التي فرحوا بها كثيرا وخاصة والدي الذي فرح بالتبغ حيث كان مدخنا قويا , وجدير بالذكر بان البارزانيين كانوا يحلون مشاكلهم ونزاعاتهم فيما بينهم عن طريق الشيخ وليسى الحكومة وكانت مراجعاتهم لدوائر الدولة لأمور روتينية عامة والحصول على وثائق رسمية فقط , رحم الله الأموات من الذين ذكرناهم وأسكنهم فسيح جناته ورعى وحفظ الأحياء منهم .[1]