#زهدي الداودي#
نعيش هذه الأيام تحولات غريبة على العصر وغير مفهومة على الكثيرين من الناس البسطاء الذين يتركون تفسيرها للقدر أو لسوء الحظ أو لغضب الله. وتهز الناس أسئلة ملموسة لا يجدون لها جوابا ويحتارون حيالها. وتتوالى الأسئلة كما يأتي:
كيف يهرب قادة الجيش، وهم من فصيل الجنرالات، أمام شرذمة من الخارجين على القانون، ويتركون مصير محافظة كبيرة مع أطرافها لقمة سائغة بيد مجاميع همجية، تستبيح المدينة وتهدم الآثار التاريخية النادرة وتطرد مسيحييها الذين هم من أقدم سكان المدينة وبُناة حضارة نينوى.
وسؤال آخر يطرح نفسه بتحد: كيف يمكن أن تسلم مقاليد الحكم إلى الشيعة التي لم تحكم العراق يوماً واحداً. في حين أن الحكم كان دوماً للسنة.
ويقفز أمامنا سؤال معقد يقول:
من هم الأكراد، سكان الجبال كي يطالبوا ما يسمى بالحكم الفدرالي. أية صلافة هي هذه الخطوة التي تسمح لهم بالتفكير في الاستقلال ومطالبة الكونغرس الأمريكي بتحقيقه. إن هذه الخطوة تشكل في الأساس طعنة في صميم الوحدة العراقية وإهدار لنفطنا وثروتنا القومية.
الأسئلة كثيرة، ولكنني أخترت منها ثلاثة فقط، كونها نموذجية وملموسة وآنية.
بإثارتي هذه النقاط النموذجية، لا أريد أن أكتب بحثا في هذا المجال، بل أريد أن أتكئ على التاريخ واستنبط بعض الدروس من حتميته الجدلية التي لا نريد أن نتعلم منها مع الأسف.
إننا بدءً ينبغي أن نقر بوجود تحولات مصحوبة بأزمة حادة تشمل العالم كله، كما وأن قوانين هذه الأزمة لا تشمل منطقة معينة من العالم فقط، بل كل العالم بهذا القدر أو ذاك مع إختلاف في الحجم والسعة.
حين نتناول السؤال الأول ونفكر فيه بعمق ونربطه بالتاريخ، نجد ثمة أحداث وقعت في الماضي هي أسوأ بكثير مما حصل مع جنرالاتنا الهاربين في الموصل. كان من أسباب الهروب ما يأتي:
• عنصر المفاجئة خلق الفزع الذي أدى إلى الشلل التام.
• عدم وجود الرغبة وفقدان روح الوطنية والقومية للدفاع عن الأرض التي يجدها غريبة عليه.
• عدم إيمانه بالرئيس الذي يقود المؤسسه العسكرية وعدم إعترافه بكفائته.
• خوفه من تحول القتال، بسبب عدم وجود قيادة كفوءة إلى حرب مدمرة.
• عدم التأهيل لحرب الشوارع أو حرب العصابات.
• عدم فهم المعادلة الآتية:
زحف البداوة والقبائل الرحل إلى المدينة = انهيار الحضارة
زحف المدينة إلى الريف = إنتعاش الحضارة
كان التاريخ لهذا عبارة عن صراع مستديم بين التقدم والتخلف، تصاحبه حركة ترتبط بأوضاع تتحكم فيها عوامل اقتصادية ومناخية تحدد سرعة أو بطء التطور كما أنها تحدد أبضا مدى تقبل الوضع الحالي الراكد للوضع القادم المتحرك. وهنا يحدد الإنسان مسار التطور، إن كان يملك الوعي. وتلعب حاجة الانسان دورا مهما في دفع العجلة إلى أمام أو في خلق الركود أو عرقلة التطور فدفع العجلة إلى الوراء.
إن جوهر هذا الصراع هو الانتقال من مرحلة تاريخية واطئة إلى مرحلة تاريخية أعلى، بيد أن طابعها غير موحد وسرعتها غير متساوية، فمثلا استمرت مرحلة الآنتقال من المجتمع البدائي الأول إلى العلاقات الاقطاعية في الشرق ثلاثة آلاف سنة. ولازلنا نعاني مشاكل الانتقال إلى العصر الحديث. في حين أستغرقت نفس العملية في الغرب ثلاثة قرون فقط.
لعب تطور الأدوات الانتاجية دورا مهما في تسريع التطور، ففي خلال فترة قصيرة نسبيا، تمكن الفلاح الاوروبي من تطوير المحراث الواحد، كمرحلة أولية إلى المحراث الثلاثي فالخماسي، في حين ظل الفلاح الشرقي يستعمل المحراث الواحد إلى يومنا هذا. كان أمراء دول وإمارات أوروبا الغربية، يشجعون الفلاحين في تأسيس مانيفاكتورات تؤدي إلى المزيد من الإنتاج. في حين كانت الدولة العثمانية تفرض إنتاج الأدوات العسكرية على المانفاكتورات وكذلك الأمر مع الدولة الصفوية التي كانت ترغم أصحاب المانفاكتورات على إنتاج الكماليات. نفس الخطأ التاريخي كرره الاتحاد السوفييتي الذي حول إقتصاده إلى عسكرة الإنتاج فالدخول إلى سباق التسلح غير المتكافئ.
إن التاريخ حافل بالأمثلة، ولكن هات من يستفيد منها..سر بقاء الامبراطورية الرومانية لأكثر من عشرة قرون يعود إلى تطبيق مبدأ الديمقراطية العسكرية حيث ينتخب أقوى وأكفأ إنسان بغض النظر عن انحداره الطبقي أو العرقي.
تعلمنا في مدارسنا أن المدن الكبيرة في التاريخ مثل أكد، بابل، نينوى، أثينا، روما كانت محصنة بأسوار عالية غرضها بالدرجة الأولى الدفاع العسكري ضد هجمات الدول الأخرى، ولكننا نستطيع أن نتوصل إلى إستنتاج آخر هو: إلى جانب الدفاع العسكري كان لها وظيفة الوقاية بوجه تسرب القبائل الرحل التي ديدنها تخريب المدينة وما فيها من الحضارة. هنا نلاحظ الزحف المباغت لداعش على الموصل وأعمالهم الارهابية تجاه المواطنين العزل.
من ضمن النتائج التي توصلت إليها التحولات الجارية في البلد أو ما أفرزته الديمقراطية التي نزلت على قلوبنا كالصقيع، تسلم الشيعة مقاليد الحكم. إنها مسألة قانونية بحتة يجب أن نستسيغها، الأمر الذي تستسيغه الشيعة منذ إنتهاء مرحلة الخلفاء الراشدين. أنا شخصياً أنحدر من أب سني شافعي وأم شيعية. وكانت هذه الوضعية مسألة طبيعية داخل أسرتنا، لا تخطر ببال أحد، إذ كان هناك كومة من هذا النوع من العوائل. كانت ثمة أسباب بسيطة تدعني أن أميل إلى الشيعة رغم أنني كنت أصلي مع والدي في جامع السنة. ورحت أجمع النقاط بين المذهبين. تبين لى أن الشيعة تقف بصمت إلى جانب المعارضة، وأنا كنت أعتبر نفسي معارضا. كنت آنذاك في الرابعة عشرة من عمري. تمردت على والدي وتركت الصلاة بحجة أن الإمام يمدح الملك والنظام الرجعي القائم. ودار الزمن عدة دورات إلى أن أصبحنا في منتصف العام 1959 . كنا نحن الشيوعيين والبارتيين والديمقراطيين والتقدميين قد قررنا أن نحتفل في طوزخورماتو بمناسبة الذكرى الآولى لثورة 14 تموز 1958 كنا أمام مشكلة إيجاد مكان يضم عددا كبيرا من المحتفلين. فكرنا طويلا ودرسنا أنواع المقترحات التي لا يمكن الاستفادة منها. قفزت إلى ذهني بغتة كلمة الحسينية. وكان أن تمت الموافقة بسرعة لم أتوقعها ووضعت تحت تصرفنا الميكروفون وملحقاته.
كنت أتمنى أن يبقى أسم الشيعة نقيا لا تلطخه السياسة، يمارس الحكم بشكل غير مباشر، عن طريق المعارضة وذلك بكشف الفساد وفضح اللصوص الذين يحتمون بالعباءة والعمامة واللحية. إن الشيعه في تاريخها الطويل لم تركض وراء السلطة. ذلك أن السلطة تفسد الانسان وتحوله إلى أداة. مع كل ذلك لها الحق في أن تمارس السلطة وتدخل في السباق مع القوى الأخرى للوصول إلى البرلمان.
إن الشيعة العراقية جزء عضوي مهم في داخل الحركة الوطنية العراقية ولها الحق كل الحق في ممارسة حقوقها كأكثرية بلغت 60%، بيد أن عنصر المفاجأة الذي وضعها أمام المد الشيعي، قد بهرها وأفقدتها النظرة الموضوعية، بحيث تحولت إلى طائفية مقيتة لا تختلف عن العصبية القبلية التي مارستها السنة. وما زال الصراع مع الأسف متأججاً على طريق فرض السلطة الشيعية على المجتمع.
المسألة الثالثة التي تطل علينا هي ما يدور في رأ س الكورد من أحلام الانفصال والاستقلال أو الفدرالية، تلك المفاهيم التي كان مجرد النطق بها يؤدي إلى غياهب السجون. إن هذه الأفكار والأمنيات حين تتسرب إلى عقول الكورد، أو تتكون فيها نتيجة لقانون التأثير المتبادل، يجد الكوردي نفسه في المؤخرة، يقبع في واد والعالم في واد آخر فلابد هناك من سبب يحدث خارج وعي الأنسان. وهذا السبب يأتي من خلال التحولات الجارية في البلد والمنطقة والعالم.
تعود مسألة حق الأمم في تقرير مصيرها إلى نهايات القرن الثامن عشر، حيث يقول لينين، أن مسالة حرية الأمم في حق تقرير مصيرها لم يعالجها البرنامج الروسي الموضوع في سنة 1908 وحسب، بل عالجها أيضاً قرار مؤتمر لندن الأممي في سنة 1896 . لقد جاء ذلك كرد فعل طبيعي للاضطهاد الذي سلطته الدول الكولونيالية ضد الشعوب الصغيرة التي كانت تناضل من أجل التخلص من السيطرة الأستعمارية والتي أشتدت مع إندلاع الحرب العالمية الاولى. وأتخذت هذه المشكلة أبعادا جديدة مع إنتصار ثورة أكتوبر في العام 1917 . وصرح لينين بأن النظام الإشتراكي قد وضع الحل النهائي لمشكلة القوميات، بيد أن الاشتراكي الديمقراطي النمساوي أوتو باور تصدى له قائلا: إن النظام الإشتراكي لا يحل مسألة حق الامم في تقرير مصيرها، بل يؤدي إلى خلق الوعي القومي في حق الإنفصال.
إن الاضطهاد المسلط على أبناء القومية الصغيرة التي تعيش في كنف القومية الكبيرة وحرمانها من أبسط الحقوق المشروعة، هو الذي يدفعه للتفكير بالانفصال.
سألت زميلاً أذرباينجانيا من أيران عن عدد نفوس المواطنين الأذرباينجانيين هناك. أجاب ب أكثر من عشرة ملايين، قلت لماذا لا تنفصلون عن إيران وتنضمون إلى الدولة الأم؟ قال بتهكم:
وماذا نستفيد من الدولة الأم؟ إن بازار طهران كله في أيدينا
إن الأقلية التي تتمتع بحقوقها السياسية والثقافية والإقتصادية كاملة، لا تفكر بالإنفصال. وأما الدولة الكبيرة التي تنظر بعين الإحتقار إلى الأقلية الصغيرة وتعتبرها أقلية ناقصة من الدرجة الثانية وغبية غير قابلة للتطور. إن الجانب الحضاري الذي تتمتع به القومية الكبيرة، يلعب دوراً حاسما في زرع الثقة عند الأقلية التي تعتقد أن العصا السحرية هي الدواء الأوحد.
الفدرالية العراقية نموذجاً
كلفت الفدرالية العراقية التي بدأت منذ أكثر من خمسة عقود من الزمن، قد نشأت في جو يسوده الحقد والأستهتار والإبادة والسجون والمعتقلات وفقدان الثقة والخداع ألخ من الأساليب الملتوية التي لا يمكن العيش في ظلها. وكان أن تدرج النظر إلى خيمة الحكم وبدأ باللامركزية ثم الحكم الذاتي فالنظام الفدرالي ومن ثم لا شيء فالإحتلال الأميركي فتنامي الحذر الكردي والشعور بالغدر من الحلفاء الاستراتيجيين. ولولا قيام صدام حسين بتوزيع الإرهاب على الشعب العراقي بالتساوي، للجأ الكورد إلى الإنفصال في العام 1991.
وأعاد التاريخ نفسه من جديد حيث أهمل أحد أهم بنود المادة 140 . وبدأت الأزمة السياسية تتعمق.
وها أن الوضع السياسي بين بغداد وأربيل يتخذ شكلاً جديدا بعد إرهاب دعش.
يا ترى، هل تؤدي الأزمة إلى الإنفراج؟ نحن بانتظار الغد..[1]