#زهدي الداودي#
كتب انجلز في 21 –22 أيلول 1890 رسالة إلى جوزيف بلوخ يقول فيها:إننا نصنع تأريخنا بأنفسنا، ولكن تحت ظروف ومسلمات محددة جدا، من ضمنها الاقتصادية التي هي الحاسمة أساسا. بيد أن السياسية وغيرها، بل وحتى التقاليد التي تسكن رؤوس الناس تلعب أيضا دورها، وإن كان غير حاسم (1)
بهذه الجمل القليلة يرسم لنا انجلز ملامح النظرة الواعية إلى التاريخ وكيفية صنعه، وبأن اليوم هو امتداد للأمس. وقد بقي في أسره وتخلفه الموروث لفترة غير قصيرة من الزمن، ينتظر الظروف المواتية حتى ينطلق من ذلك الأسر.
إن الوعي التاريخي لماضي أي شعب يمكن أن يرسم الطريق المستقبلي لتطوره على أسس علمية مدروسة. ومن هنا ينبغي أن نكون واعين للماضي التاريخي للشعب. أن نعلم بأن الأمس يواصل تأثيره على اليوم. وأن الوضع الراهن هو تواجد تأريخي. ويجب أن يحلل تاريخيا.
إن الماضي التاريخي يؤكد نفسه كعامل موضوعي يجب أن يتعامل معه الإنسان بوعي. وقد ترك، من حيث نريد أو لا نريد، جملة تقاليد متداخلة لم تزل تسكن في رؤوس الناس. وسبق أن تطرق ماركس إلى هذه المسالة أيضا محددا إياها بعبارات دقيقة:إن الناس يصنعون تاريخهم الخاص بأنفسهم، ولكنهم لا يصنعونه من قطع حرة ولا مما يختارونه هم، بل من أوضاع مسلم بها ومعطيات مباشرة. إن تقاليد كل الأجناس الميتة تجثم مثل الكابوس على أدمغة الأحياء (2)
عبر هذا المنطلق العلمي التاريخي نلقي نظرة سريعة إلى تطور المجتمع الكوردي الذي اضطرته ظروف تاريخية وموضوعية معينة لأن يعاني التخلف والتأخر والتمزق في الكثير من جوانب حياته عبر التاريخ، وكيف يمكن لتلك العوامل السلبية أن تتحول إلى سلم، ينتقل عبره هذا الشعب إلى مرحلة نوعية جديدة في مجال تقرير مصيره بنفسه. وهو الآن، حيث يناضل ببسالة في جميع أجزاء كوردستان من أجل حقوقه القومية المشروعة ومن أجل الديمقراطية والفدرالية، ينبغي أن نعود إلى ماضيه ونتعرف على خصائصه، لعلنا نستطيع بذلك أن نسلط بعض الأضواء على واقع ومتطلبات هذا الشعب في يومنا هذا، حيث تجري محاولات خطيرة من بعض حلفاء الأمس لعرقلة تطور هذا الشعب ودفعه باسم الدين إلى ظلمات العصور الوسطى.
يمتاز الشعب الكوردي، كسائر شعوب الشرق الجبلية، كونه يحب الحرية إلى درجة الفناء في سبيلها وأنه لم يمر بمرحلة الرق أو بما يسمى بالمجتمع الطبقي الأول، لذلك فإن عملية تطوره مرت بتشعبات وتعقيدات متداخلة غير موحدة، لعب فيها العامل الجغرافي دورا كبيرا، الأمر الذي جعل مرحلة انتقاله من مجتمع المشاعية البدائية إلى مجتمع شبه إقطاعي تجري بشكل بطئ، تحمل في طياتها بهذه الدرجة أو تلك بقايا و عناصر مراحل التاريخ المختلفة، تلك البقايا التي مازالت ظاهرة في العلاقات الاجتماعية الراهنة في بعض مناطق كوردستان. وربما تعود هذه الخصوصية إلى كون الكورد كانوا يعيشون على أطراف الأمبراطوريات، ويرفضون الخضوع إلى هيمنتها.
إن أي تحليل للعلاقات الاجتماعية في المجتمع الكوردي يكون ناقصا ما لم نرجع إلى الجذور التاريخية لتطورها. وينطبق هذا الرأي ليس على المجتمع الكردي فحسب، بل كل مجتمع نريد أن نعرف فيه طبيعة القوى والعلاقات.
في تحليلنا هذا اعتمدنا بالدرجة الأولى على المصادر الاغريقية والرومانية، رغم أنها نادرا ما تتطرق إلى الفترة ما قبل 400 ق. م. ولعل الآراء التي تدعي بأن ولوج ميدان دراسة التاريخ الكوردي لما قبل تلك الفترة هو مجرد دوران في حلقة مفرغة، لا تنفي حقيقة وجود معلومات تلقي الأضواء على تاريخ هذا الشعب الممتد إلى عصور سحيقة في القدم. إذ أن أقدم وثيقة تاريخية تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد. وهي عبارة عن لوحين من الحجر نقش عليهما نص سومري، سبق لإرنانا، الوزير الأكبر للملك السومري سوشين (2037 – 2029 ق. م.) أن أمر بوضعهما تحت مفصلة (قاعدة) الباب العائد لمعبد جديد تم بناؤه في جرسو (حاليا تيللو) في جنوب العراق. وبعد أن يذكر إرنانا سلسلة من القابه ومناصبه، يذكر بأنه محافظ عسكري لأربيلوم (حاليا أربيل)، ومحافظ كل من خماسي وكره خار (حاليا قره خان/ السعدية)، وكذلك القائد العسكري لأهالي سو وبلاد كوردا (حاليا كوردستان الكبرى). إن هذه المناطق كلها تقع ضمن كوردستان الحالية كما نرى. وفي فترة كتابة النص، كان يسكن في معظمها الحوريون وهم من العناصر غير السامية. وكانت منطقة قره خار المذكورة، والواقعة على أعالي نهر ديالى، تعتبر من أحد أهم مراكزهم السياسية.
ومن الجدير بالذكر أن هذين اللوحين المتواجدين حاليا في متحف اللوفر في باريس، قد تم التنقيب عنهما من قبل بعثة فرنسية في تيللو في جنوب العراق. وقد ساعدني في العثور على نسخة النص السومري وترجمته إلى اللغة الألمانية كل من أ.د. مانفريد ميللر وأ.د. أولسنر وذلك من حولية:Assyriologie 5 - 6 Jena Revue d ِ .
وهناك بعض اللوحات الطينية الآشورية التي تعود إلى 1300 و 1500 ق. م. تؤكد على الخصائص البدنية القوية للرجال والجمال المتميز للنساء عند قبائل لولو أو لور الكردية في جبال زاكروس، الأمر الذي كان يشجع الآشوريين لشن حملاتهم العسكرية على هذه المناطق وأخذ الشباب كعبيد لأعمال السخرة. وكانت زوجة الآشوري التي لا تنجب تمنح زوجها امرأة من لولو، كزوجة ثانية، لإنجاب الأطفال. وكانت أسعار هؤلاء العبيد، بالمقارنة مع الأقوام الأخرى غالية جدا. كما اتخذ ملوك آشور نظام وحدات الحرس الخاص القوية ( كردو Qurrdu ) المؤلف من المحاربين الاقوياء ، المسؤولين عن سلامة الملك الاشوري الشخصية . وكانوا يسيرون الى جانب الملك ، حيث كانوا يعدون من الافراد الذين يعتمد عليهم تماما ، عندما يتحرك الجيش الاشوري للقتال (3) . كما كان اسم احد ملوك الحوريين ( كيرتا
Kirta ) وكانت الطبقات الحاكمة عند الحوريين ، من الارستقراطيين الآريين ، اضافة الى ان (كيرتا ) كان اسما ، لأحد مدنهم ، ثم انها كانت تذكر كاقليم مع كركميش وايمار ، قرب مدينة حلب الحالية في سورية ( 4 ) .
ورغم أن أسلوب الإنتاج يلعب الدور الحاسم في التطور، فإننا، كما أكدنا في البداية، لا نستطيع أن نهمل تأثير العامل الجغرافي الكبير عند دراسة المجتمع الكوردي، حيث الأنهار والجبال الشاهقة تعزل المناطق عن بعضها بشدة. وعند التحليل الفيلولوجي لكلمة كورد، وجدنا أن المصادر الاغريقية والرومانية قد استعملت ثلاثة أشكال لهذه الكلمة وهي: كوردوخ و كورتيي و كوردا و كيرتا . وكانت هذه الكلمات الثلاث الاولى ، تطلق على ثلاث مجموعات من الكورد تعيش كقبائل متفرقة عن بعضها بسبب الموانع الجبلية الصعبة، وكانت لكل مجموعة درجة من التطور، تختلف عن الأخرى . بينما كانت الكلمة الرابعة كيرتا ، اسما لإلههم واقليمهم ومدينتهم (5) مثل السومريين ، وإن كانوا لم يستطيعوا تأسيس دولة او امبراطورية لهم ، مثل الاقوام الاخرى .
وعند تحليلنا لكتابات الاغريق نتوصل إلى الاستنتاجات التالية بالنسبة إلى الحياة الاجتماعية للكورد القدماء، حيث أننا، من خلال أربع علامات مختلفة، نجد طابع التطور لفترة أربعة قرون من الزمن وحتى الانتقال إلى الألف الأول الميلادي كما يلي:
1- إن قسما من الكورد القدماء كان يعيش في ظل علاقات المرحلة الأخيرة من مجتمع المشاعية البدائية. يقول ديودور: كان الكوردوخيون يعيشون في الكهوف، يقتاتون البلوط والفطر ولحم الحيوانات الوحشية المملح (6)
2- يؤكد سترابون بأنهم كانوا يعيشون في مساكن محصنة.. كان الكورداير الذين كانوا يسمون فيما مضى بالكوردوخيين يعيشون في مناطقهم الواقعة على نهر دجلة، من مدنهم: ساريسه، ساتالكه، بينه كه، وهي تشكل حصنا منيعا بثلاثة أبراج، لكل منه سوره الخاص به، بحيث أنها تشكل وحدة بثلاث مدن (7)
ونجد عند زينفون القرى والمستوطنات فقط، دون أن يأتي إلى ذكر الأسوار. وبعد أن يصف قدراتهم العسكرية الهائلة وأسلحتهم الفريدة، وكيفية اجتيازهم الجبال ووصولهم إلى القرى الواقعة على سفوح الجبال، يقول: هنا ترك الكوردوخيون بيوتهم والتجأوا مع اطفالهم ونسائهم إلى الجبال. وكان يمكن للمرء أن يعثر في بيوتهم على كميات كبيرة من الأغذية إلى جانب أواني متقنة الصنع (8)
إن هذا العرض المتباين لحياة الكورد القدماء ضمن فترة تاريخية قصيرة (300 سنة) بالنسبة إلى التطور الاجتماعي البطئ في تلك الفترة، يدعنا إلى أن نستنتج بأن مستوى التطور لم يكن موحدا. وظل هذا التباين إلى يومنا هذا. وهذه الخصوصية ليست مجرد ميزة كوردية فقط، بل أنها ظاهرة عامة تتصف بها كافة شعوب الشرق.
3 - غالبا ما يجري الحديث عن القوة العسكرية لهذا الشعب في الدفاع عن نفسه ، وعن ملوك الاقوام الاخرى وفي هذا الصدد يقول زنفون:
وكان الرماة خطرين جدا وكانت سهامهم تخترق دروعنا و تروسنا. وكانت هذه السهام ثقيلة وطويلة بحيث أن الجنود الاغريق راحوا يستعملونها فيما بعد كرماح (9) .
كان اسلوب الإنتاج الحرفي موجودا عند الكورد القدماء، ولا سيما حرفة صنع الأدوات الحربية والأسلحة التي كانوا يحتاجونها للدفاع عن أرضهم ضد الامبراطوريات المجاورة في تلك الفترة كالدولة الآشورية والفارسية. ورغم أن أجداد الكورد القدماء أوجدوا المنجل والمحراث وتربية الحيوان منذ الألف التاسع قبل الميلاد في المنطقة المعروفة باسم شهرزور، يمكننا أن نقول بأن الزراعة لم تلعب دورا حاسما في تطور المجتمع الكوردي القديم، إذ أن المساحات الصغيرة الواقعة بين الجبال كانت تشكل الأرضية الوحيدة للزراعة التي كانت تعتمد على الأمطار ومياه العيون. ولما كان الشرط الأول لتطور الزراعة هو فتح القنوات والري، فإن مثل هذه الحاجة لم تكن متوفرة بسبب عدم وجود مساحات واسعة من الأرض والأيدي العاملة، بخلاف جنوب وادي الرافدين، حيث أدى هذا الشرط إلى الانتقال إلى مرحلة المجتمع الطبقي الأول المتمثلة بدويلات المدن السومرية.
وهناك ظاهرة لابد من الإشارة إليها وهي أن أجداد الكورد القدماء الذين سكنوا أرض كوردستان الحالية، كانوا مع تطور أدواتهم الزراعية وتنامي نفوسهم ينزحون بشكل مستمر باتجاه الجنوب حيث السعة والخصوبة في الأراضي. واستغرقت عملية الهجرة المستديمة هذه لعدة آلاف من السنين، ولذلك لا يستبعد بأن أصل من يسمون بالفراتيين الأوائل
والسومريين الذين جاءوا بعدهم هو نفس أجداد الكورد القدماء، وإلا فإنه ليس من المعقول أنهم هبطوا من السماء.
كان الكورد القدماء في هذه المرحلة قد بلغوا في تطورهم التاريخي المرحلة الأخيرة من المشاعية البدائية (نيوليتيكوم، العصر الحجري-البرونزي). وكانوا لا يزالون يستعملون الحجر كسلاح وأداة إنتاج بالإضافة إلى المعدن. وكان قسم كبير من الكورد لا يزال يعيش في مرحلة الصيد وجمع القوت وتدجين الحيوان. وهنا لابد لنا من الإشارة إلى التعبير المزدوج (مرحلة تربية الحيوان والزراعة)، التي يعتبرها معظم المؤرخين مرحلة واحدة، في حين أنها عبارة عن مرحلتين مستقلتين، إذ أن مرحلة تدجين الحيوان فتربيته أقدم من مرحلة الزراعة بآلاف السنين، حتى أن بعض الشعوب، نتيجة لظروفها الذاتية والموضوعية، ظلت متمسكة بتربية الحيوان دون الزراعة، حتى يومنا هذا ومثال ذلك المغول وبعض الشعوب الآسيوية والأفريقية.
كانت العلاقات القبلية في هذه المرحلة، مرحلة انهيار العلاقات المشاعية البدائية، لم تزل قوية ومتماسكة، وقد استمرت هذه الميزة حتى منتصف القرن الماضي، حيث بدأت العلاقات العشائرية تنصهر لتصب في تكوين الشعب الكوردي الموحد، ولا يمكن نسيان دور الحركة الكوردية المسلحة التي قادها المرحوم ملا مصطفى البارزاني في تبلور هذه العملية التاريخية. وهذا كله لا يعني بأن العلاقات العشائرية زالت نهائيا، إذ أننا أمام عملية معقدة متشابكة غير معزولة عن مجمل التطور الاجتماعي في المنطقة، ناهيك عن علاقتها الجدلية بالنظم السياسية ومدى تخلفها وتقدميتها.
وتؤكد التنقيبات عن المرحلة الأخيرة للمشاعية البدائية بشكل قاطع على قوة ووحدة العمل الجماعي القبلي في هذه المرحلة، إذ أن الحروب المتكررة في هذه المرحلة أدت إلى تعزيز التماسك داخل القبيلة من جهة وبناء التحصينات الدفاعية كالأسوار من الجهة الثانية.
وبهذا نرى بأن الكورد القدماء كانوا يعيشون ضمن مجتمع قبلي تسوده العلاقات الباترياركية (الأبوية) دون أن يعرفوا الاستغلال. ويمكن أن نستنتج من دفاعهم الجماعي عن موطنهم وجود قيادة مركزية ضمن مجلس القبائل، يضم ممثلا عن كل قبيلة. وكانت لكل قبيلة حسب ظروفها الموضوعية والذاتية درجة معينة من التطور، وتعيش غالبا منعزلة عن بعضها.
ونتيجة للعيش في أطراف الامبراطورات المجاورة وانعزالها عنها وعدم وجود وحدة متكاملة لاتحاد القبائل وبالنظر للاعتماد على الاقتصاد الطبيعي والاكتفاء الذاتي، بدأت العلاقات الاجتماعية تتطور ببطء وبدرجات متفاوتة، الأمر الذي لم يؤد إلى نشوء مدن كلاسيكية تمثل جوهر المجتمع الطبقي الأول مثل اور، أكد، أريدو الخ، والتي كانت نتيجة منطقية للنزوح التدريجي لأجداد الكورد القدماء باتجاه الجنوب، حيث الأراضي الواسعة والخصوبة.
كانت الحروب والغارات على القوافل المارة بكردستان، ضرورية لحياة الكورد القدماء، ولها صلة مباشرة بعلاقاتهم الاقتصادية، إذ أن العلاقات الاقتصادية كانت قاعدة لكل العلاقات القائمة بينهم. وكانت هذه العلاقات ليست سوى أشكالا ضرورية لتحقيق نشاطاتهم المادية والشخصية. وبما أن الحروب لعبت دورا كبيرا في حياة هذا الشعب، نستنتج بأنه كانت تتواجد ثمة ديمقراطية عسكرية. كان واجب القادة العسكريين هو الدفاع عن الوطن وتنظيم الغزوات والغارات وتوفير المواد الغذائية الضرورية لحياة الناس. ويبدو أن الغنائم لم تكن من الوفرة بحيث تساعد على ظهور طبقة غنية وارستقراطية متميزة.
إذا اعتبرنا الإنتاج المحدود هو أحد عوامل الانتقال إلى مجتمع الرق، فيمكننا أن نعتبر تنظيم الزراعة الواسعة أحد عوامل الانتقال إلى المجتمع الطبقي الأول في وادي الرافدين، الذي نشأت في حضنه الدولة التي تقوم بواجب الحفاظ على أشكال الملكية الجديدة وتطوير العلاقات الاجتماعية للنظام الجديد. ولما كان المجتمع الكوردي لم يستطع بلوغ واجتياز هذه التشكيلة الاجتماعية – الاقتصادية كما قلنا، لذلك فإنه لم يعرف الدولة. ولعل أحد أسباب الانهيار السريع للدولة الميدية ودولة الكوتيين هو فقدان هذا السبب. ومن الجدير بالذكر إننا لا يمكننا اعتبار الدويلات او الامارات التي تكونت في تاريخ هذا الشعب دولا بالمعنى الذي نقصده.
ولعبت الأمبراطوريتان، الايرانية والعثمانية دورا كبيرا في عرقلة التطور الطبيعي للشعب الكوردي وتجزئة بلاده، ورغم ذلك فانهما لم يتمكنا من الحيلولة دون ظهور الحركة القومية الكردية التي نشأت منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع ظهور الحركات القومية للشعوب الأخرى التي كانت خاضعة للسيطرة العثمانية. بيد أن الحركة القومية الكردية لم تتطور بمستوى تطور الحركات القومية لتلك الشعوب بفعل عوامل تاريخية واقتصادية واستراتيجية معينة.
مما تقدم نرى أن تطور الشعب الكردي لم يكن متساويا أو موحدا، إذ لعبت العوامل الجغرافية دورا كبيرا في عزل القبائل عن بعضها بعضا بحيث لم يتم اتحاد قبائل نموذجي، الأمر الذي له ضرورته في صب التطور في اتجاه واحد.
كان الاتحاد فوقيا وبقيت كل قبيلة شبه مستقلة سواء في علاقاتها أم تطورها. ولم تبدأ العلاقات شبه الإقطاعية بالظهور في كوردستان الا بعد مجئ السلاجقة (1040- 1157)، بيد أن العلاقات ما قبل الإقطاعية ظلت تسير بصورة موازية إلى جانب العلاقات الجديدة وما زالت بقاياها وعناصرها موجودة، كما قلنا، حتى يومنا هذا.
وإذا كان العامل الجغرافي قديما قد لعب دوره الكبير في انعزال القبائل عن بعضها بعضا، فإن العامل السياسي قد كرس تقسيم كردستان إداريا ولأول مرة بين الدولتين العثمانية والفارسية ولا سيما بعد معركة جالديران 1514. وأما التقسيم الدولي الثاني الذي قصم ظهر الأمة الكردية وجعلها فريسة لمصالح الدول الكبرى، فجرى من خلال تطبيق بنود اتفاقية سايكس- بيكو (16 مايس 1916) السرية التي قطّعت كردستان إلى خمسة أجزاء.
إن مثل هذا التقطيع التاريخي المنتظم لأمة لم تجر إستشارتها حول مصيرها، لم يسبق أن مرت به أمة أخرى في التاريخ، ولذلك فإن الشعب الكردي يحتفظ بحقه المشروع لتصحيح التعسف الذي مورس ضد إرادته ومصيره وحقه. وله الحق كل الحق في تشكيل دولة كردستان الكبرى التي ضحى بها صلاح الدين الأيوبي في سبيل إعلاء راية الإسلام. وإذا كانت دول المنطقة تقدس الحدود التي رسمها كل من سايكس وبيكو بالقلم والمسطرة، وتعتبرها من المسلمات التي لن تتغير، فإن الشعب الكردي لا يقدس سوى حريته. ولعل هذا السبب كان هو الباعث على ما آل إليه من التمزق والتأخر واللذين آن الأوان للتغلب عليهما وإزالتهما عن طريق تطوره الحتمي.
الهوامش والمصادر :
1- ماركس/ انجلز: المؤلفات، المجلد 37، برلين 1967، ص463.(طبعة المانية)
2- نفس المصدر، المجلد 8، برلين 1960 ، ص 111.
3 - جورج كونتينو ، الحياة اليومية في بلاد بابل و آشور ، ترجمة : سليم طه التكريتي وبرهان عبد التكريتي ، دار الرشيد – بغداد 1979 .
4 - د . ابراهيم الداقوقي ، أكراد تركيا ، أكراد العراق ، دار المدى - دمشق 2003ص 48 ، نقلا عن :
D.Arnold , Le Proche – Orient Ancien, Paris1970
5 - ابراهيم الداقوقي ، المصدر السابق نفسه ، ص 8 – 9 .
6- ديودور: 14، 27
7- سترابون: 16 ،1، 24
8- زنفون: اناباسس، 4 ، 2 ،7 ، 8
9- زنفون ، نفس المصدر: 4، 2، 28.[1]