ولد الكاتب والصحفي والروائي الشهير أحمد ألتان والذي أصبح رمزاً لتراجع الحريات في تركيا، في أنقرة عام 1950، وترعرع مع عائلة مثقفة مهتمة بالشأن السياسي، حيث إنّ والده جيتسن ألتان كان صحفياً وكاتباً بارزاً وعضواً في البرلمان عن حزب العمال التركي في ستينيات القرن الماضي، كما أنّ شقيقه محمد ألتان أستاذ جامعي مُتخصّص في الاقتصاد السياسي وهو صحفي وكاتب أيضاً.
وقد امتهن أحمد ألتان العمل الصحفي لأكثر من 20 عاماً، حيث عمل في العديد من الصحف التركية، أبرزها “حريت” و”ميليت” و”راديكال” وأنتج برامجاً إخبارية للتلفزيون، قبل أن يؤسس صحيفة “طرف” اليومية المعارضة ويتولى رئاسة تحريرها.
كتب ألتان في عام 1995 مقالاً في صحيفة “ميلييت” قدّم فيه تاريخاً بديلاً لتركيا كدولة كردية، حيث يضطهد الكرد الأتراك ويجبرونهم على الاندماج في الدولة الكردية، في محاولة محاكاة للاضطهاد الذي يتعرّض له الكرد في تركيا، سيما في ظل حكم حزب العدالة والتنمية الإسلامي، وقد تسبّب المقال في طرده من الصحيفة.
كما كتب خلال عمله في الصحيفة عدداً من المقالات التي تُلقي الضوء على القضايا الإنسانية في تركيا، حيث كتب في أيلول (سبتمبر) من العام 2008 مقالاً بعنوان “يا أخي” تحدّث فيه عن ضحايا الإبادة الجماعية التي ارتكبتها الدولة العثمانية بحق الأرمن، ما تسبّب برفع دعوى قضائية ضده من قِبل “حزب الاتحاد العظيم” اليميني، حيث تمّ اتهامه ب “تشويه سمعة تركيا” بموجب المادة 301 من قانون العقوبات التركي.
واشتهرت صحيفة (طرف) بتوجهها الليبرالي الثقافي ومعارضتها لتدخّل الجيش التركي في الشؤون الاجتماعية والسياسية للبلاد؛ إذ كشفت في عدد من التحقيقات تورّط الجيش في الشؤون السياسية للبلاد، وقد اتهمتها السلطة بالتواطؤ مع حركة فتح الله غولن، المُتهمة بمحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، رغم نفي القائمين عليها وعلى رأسهم ألتان هذا الاتهام في مناسبات عديدة.
وفي 14 كانون الأول (ديسمبر) من العام 2012، استقال أحمد ألتان من منصب رئاسة تحرير الصحيفة المعارضة، برفقة مساعدة رئيس التحرير ياسمين تشونغار ونيش توزيل، بسبب خلافات مع مؤسسي الصحيفة، لكنّ الصحيفة استمرت بالنشر قبل أن يتم إغلاقها من قِبل السلطات في 27 تموز (يوليو) من العام 2016 بموجب الحالة الطوارئ التي تلت محاولة الانقلاب الفاشلة.
ألقت السلطات التركية القبض على ألتان للمرة الأولى في 23 أيلول (سبتمبر) من العام 2016، حيث مُنع خلال سجنه في إسطنبول من التواصل المكتوب مع من هم خارج السجن، إلّا أنّ ذلك لم يمنعه من كتابة مقالات من داخل المعتقل، حيث كتب في أيلول 2017 مقالاً جاء فيه: “أنا أكتب هذه الكلمات من زنزانة السجن.. لكن انتظر. قبل أن تبدأ في عزف طبول الرحمة لي، استمع إلى ما سأخبرك به.. قد يكون لديهم القدرة على سجني ولكن لا أحد لديه القدرة على إبقائي في السجن. أنا الكاتب”. وقد نُشر هذا المقال عشية محاكمتة باللغتين؛ التركية والإنجليزية.
وتلقى المثقفون والناشطون حول العالم مقال ألتان بالكثير من الدعم، حيث ذكر المؤلف الإنجليزي نيل غايمان المقال، قائلاً: “أتمنى أن يقرأ كل من يستطيع القراءة، مهما كانت سياسته، رد أحمد ألتان على سجنه. تأمل الأنظمة القمعية أنهم يستطيعون حبس الأفكار إن هم حبسوا الكُتّاب لكنّ ذلك يفشل دائماً”.
كما دعمت الكاتبة البريطانية الفرنسية جوان هاريس، ألتان، واستنكرت سجن السلطات التركية له، قائلة: “الكتاب موجودون للتساؤل والتحدي وأحياناً للسخرية. إنّ قيام حكومة ما بسجن كاتب لقيامه بذلك يعني مهاجمة، ليس حرية التعبير فحسب، ولكن حرية التخيّل”. وتابعت واصفة السلطات التركية بالقمعية والمتخلفة: “لفتة متخلفة وقمعية وعقيمة. في نهاية المطاف لا يمكن أن تؤدي إلّا إلى اضطرابات اجتماعية أكبر وأكثر ضرراً”.
إلّا أنّ الدعم والاحترام الواسع الذي يحظى به ألتان لم يمنع السلطات من الحكم عليه هو وشقيقه محمد بالسجن مدى الحياة، وقد قابل ألتان هذا الحكم القاسي بكتابة كتاب “لن أرى العالم مرة أخرى” وهو بمثابة مذكرات تُلقي الضوء على حياته في السجن، وقد انتشرت على نطاق واسع وترجمت إلى عدة لغات منها الإنجليزية والفرنسية، كما أُدرجت في القائمة الطويلة لجائزة Baillie Gifford لعام 2019 للكتاب غير الخيالي، وتم نشرها في 17 دولة حول العالم، لكنّها لم تنشر في تركيا خوفاً على سلامة الناشر.
وتميّزت مذكرات ألتان بجمعها بين التوثيق لظروف السجن القاسية التي يعيشها هو وكل من يُسجن في تركيا، والتفاصيل الشخصية التي تأخذ طابعاً أدبياً، ما يجعلها أقرب إلى رواية منها إلى كتاب.
يقول ألتان في “لن أرى العالم مرة أخرى”: “أبداً لم يعد بإمكاني تقبيل المرأة التي أحبّها، معانقة أولادي، ملاقاة أصدقائي، التنزّه في المدينة، أبداً لم يعد بإمكاني أكل البيض بالنقانق أو شرب كأس نبيذ أو دخول مطعم وطلب طبق سمك، أبداً لم يعد بإمكاني تأمل شروق الشمس”.
يُشير آلتان إلى الأثر الذي تركته تجربة السجن على كتابته: “بعض الكلمات، مثل بعض الأفعال، تفرضها الأحداث، المخاطر والواقع الذي يحيط بكم. وما أن ترفضوا تأدية الدور المحدَّد لكم، يؤخذ الواقع على حين غرّة فيصطدم بحاجز روحكم المتمرّدة ويتكسّر”، ويُشدّد في أكثر من موضع على أنّ الواقع لن يتمكّن من هزيمته أو هزيمة روح الكاتب فيه.
يُذكر أنّ الكاتب التركي نال عدداً كبيراً من الجوائز الأدبية والأكاديمية، منها جائزة “هرانت دينك” الدولية وجائزة جمعية الناشرين الأتراك وجائزة حرية الفكر والتعبير لجمعية إسطنبول لحقوق الإنسان وجائزة Geschwister Scholl.
[1]