#سرور ميرزا#
يعتبر الشعر نوع من انواع الفنون الادبية في اللغة، فهو يرتكز على استخدام الصيغ الجمالية والابداعية في التعبير عن قضية معينة، ومنه يخاطب القلب والروح كالشعر العاطفي، وشعر الرثاء، ومنه ما يخاطب العقل والفكر كالشعر السياسي ومنه ما يخاطب المجتمع بتعابير فطرية صادقة عن احلام وآمال المجتمع واوضاعها المعاشية والحياتية بكل حرية وعفوية دون قيد كالشعر الشعبي،
للشعر دوره وتأثيره في الفكر الإنساني منذ قصيدة جلجامش الأولى إلى قصيدة عاشقة جلجامش، واساطير بابل وآشور، إلى تشي جيفارا ورسول حمزاتوف ونزار وجميل صدقي الزهاوي و#معروف الرصافي# والشبيبي والكاظمي والجواهري والسياب والبياتي ونازك الملائكة والسياب وغيرهم من شعراء العراق، قد يكون الشعر وراثة وقد يكون موهبة، وربما هذه الموهبة تكتسب في مراحل متقدمة من العمر كالنابغة الذبياني.
الشاعر ليس صحفيا، أي أنه لا يتولى متابعة الأحداث، وإنما هو إنسان يحاول أن يتحسس مواجع أمته، ويحاول أن يعبر عنها بالهمس والصراخ والسخرية.
الشعر ليس بنظم قصيدة وإنما بالمشاعر اللتي في القصيدة، لا يولد المرء شاعراً لابد أن بداياته كان متواضعاً، يتطور مع الوقت في البناء الفني للقصيدة وتبقى الموهبة الشعرية التي لا تختلف من شخص لآخر، فقد تجد نصاً من النثر أشعر من مئة قصيدة، البيئة المحيطة لها دور كبير في نشأة شاعر، وذلك بنشأة الشاعر ببيئة شعرية سواءً من أخواله أو أعمامه، فيزرع في جوفه حب الشعر والاعتياد على سماعه منذ الصغر، وحب الشعر والتعلق به قد يكون سبباً في ولادة شاعر، هو موهبة بلا شك قبل أن يكون وراثة فمن ورث الشعر لابد أنه موهوب
قد تكتسب هذه الموهبة مع الوقت وتصقل بالممارسة، تشكّل محفزات الإبداع ركيزة مهمة في عملية الخلق الشعري، بعد أن ينفعل الشاعر بشيء ما ترك أثره على نفسه وألهب عواطفه وأيقظ أحاسيسه وتفاعل معه، فتتوالد المعاني وتنهال عليه المفردات وتتناغم الحالة الإبداعية مع ذات الشاعر وتبدأ الموهبة الشعرية عملها حتى يكتمل بناء القصيدة كما يوصفها الاديب عبد الهادي صالح في كتابه محفزات الإبداع في الشعر.. دراسة في التجربة الشعرية المعاصرة
الشعر الذي كان الشغل الشاغل للناس، ووسيلة الإعلام ومنبر الرأي والإبداع خلال قرون من التاريخ العربي، الشعر وُلِد عراقيا كما يقول محمود درويش وهو ينفض عنه ما نسب له إن الشعر يُولد في العراق، هكذا كان حب هذا الشاعر الذي وسمت تجربته الشعرية الفذة مرحلة بأكملها من عمر القصيدة العربية المعاصرة، فمحمود درويش الذي طالما تغنى بالعراق.
معروف الرصافي - امين الريحاني -جميل صدقي الزهاوي
معروف بن عبد الغني البغدادي الرصافي:
ولد الشاعر معروف سنة 1875م ببغداد، فى عهد السلطان العثمانى عبد العزيز، وكان أبوه عبد الغني عريفاً فى الجيش العثماني، من عشيرة الجبارة او الجبارية وهي عشيرة كردية قوم سادة البرزنجية ويقال انها علوية النسب، تقع منازلها فيما بين كركوك والسليمانية، دخل فى سلك الدرك الذى كان يتولى المحافظة على الأمن خارج المدن، لذلك كان كثير الأسفار، ولم يكن ابنه معروف يراه إلا لماماً، فعنيت الوالدة برعاية الإبن ولم تلد سواه، فتعلقت به وتعلق بها،
ذهب معروف إلى الكتَّاب، انتقل إلى مكتب الملا بايز في محلة الحيدرخانة وقد تعلم الرصافي في هذا المكتب الحروف الهجائية ثم انتقل إلى مكتب منيف أفندي في محلة الميدان قرب سوق الهرج وقد تعلم في هذا المكتب طرفاً من كتابة المشق وختم القرآن وكان عمره حوالي التسع أو العشر سنوات، التحق في المدرسة الرشيدية العسكرية في بغداد، وكانت بمستوى المدارس المتوسطة ، ولم يحرز شهادته راسباً في الحربية، التحق بحلقة دراسية كان يقودها علامة العراق الشهير الشيخ محمود الألوسي، وتلقى على هذا الشيخ علوم الدين والفقه وعلوماً أخرى كاللغة والمنطق، وظل يتابع الدراسة على أستاذه الألوسى على امتداد اثنتى عشرة سنة، متفوقاً يبهر استاذه وهو الذي قال له: «سيكون لك يا معروف شأن فيما بعد، فإن كانت الكرخ تفتخر بمعروف الكرخي فما أحرى الرصافة بأن تفتخر بمعروف الرصافي» (زكي، 1945م).
مارس نظم الشعر ابتداءً من تلك المرحلة من شبابه، انتقل بعد ذلك إلى التدريس فى المدارس الأولية. وظل يتدرج فى مهنة التعليم حتى أصبح مدرساً فى المدارس الثانوية، وكان لا يزال يرتدى العمامة البيضاء والجبة ويرسل لحيته، وظل يمارس التدريس فى المدراس الثانوية حتى عام 1908، العام الذى أعلن فيه الدستور الثانى للسلطنة العثمانية على يد جمعية الإتحاد والترقي. وكان الرصافى فى تلك الفترة قد أصبح شاعراً معروفاً فى العراق، وفى البلدان العربية، وكان ينشر قصائده فى المجلات العربية المعروفة، ومنها مجلات المقتبس والمؤيد والمقتطف والرسالة والعرفان
ورحل بعد الدستور إلى الأستانة، فعين معلماً للعربية في المدرسة الملكية، وانتخب نائباً عن (المنتفق) في مجلس (المبعوثان)، عام 1912 الى جانب جميل الزهاوي وفهمي المدرس وعبد المحسن السعدون وشاب قادم من الحجاز يدعى فيصل بن الحسين، الا أن شهر العسل لم يدم طويلا فعندما أظهر الاتحاديون عدائهم للعرب انتفض الرصافي ضدهم كما قام بانتقاد العرب الذين يلجأون الى الغرب لكسب تأييده وظهر هذا واضحا عندما قامت جمعيات عربية باجتماع كبير في باريس عام 1913 حيث هاجمهم الرصافي بقصيدة شهيرة نذكر منها
اذ راح يستنجد الافرنج منتصفا كأنه حمل يستنجد الذيبا
تزوج ثيباً من بنات أزمير اسمها بلقيس ,شقيقة طبيب تركي مشهور يدعى الدكتور( أكرم أمين بك ) ، وهي زوجته كما يزعم بعض المؤرخين ولم يعيش له ولد، وعند مكوث الشاعر في بغداد رغب بالعودة اليها، وطلب سلفة على رواتبه لتذليل عقبات السفر ولكنه لم يوّفق لما اراد، وانتقل بعد الحرب العالمية الأولى إلى دمشق سنة (1918) في عهد حكومتها العربية فلم تسند اليه منصباً يليق بمقامه العلمي والادبي، لما عرف به من الاباء والترفع عن التذلل لمن بأيديهم الحل والعقد، ورحل إلى القدس وعين مدرساً للأدب العربي في دار المعلمين بالقدس، وأصدر جريدة الأمل يومية سنة (1923) فعاشت أقل من ثلاثة أشهر، عاد الى بغداد، لم يسعفه الحظ الا بوظيفة دون طموحه الكبير، واقل مما يستحقه بكثير، وهي وظيفة نائب رئيس لجنة الترجمة والتعريب في وزارة المعارف، واستمر يتقلب في امور الحياة، وعين مفتشاً للدروس العربية عام 1924/ وفي عام 1927 نقل للتدريس في دار المعلمين العالية وظل فيها الى ان قدم طلباً بإقالته في 1 تشرين الأول 1928، فتوجه نحو الميدان السياسي، وانتخب عضوا في مجلس النواب خمس سنوات مدتها ثمانية اعوام، وزار مصر سنة (1936)، ثم قامت ثورة رشيد عالي الكيلاني ببغداد ونظم أناشيدها وكان من خطبائها، وبعد فشل الثورة، فعاش بعدها في نزواء عن الناس.
وفي شتاء 1945 أصيب الرصافي بنزلة صدرية ثم استحالت إلى ذات الرئة فلم تقو شيخوخته الواهية على تحمل هذه العلة فأدركته المنّية في فجر السادس عشر من آذار 1945 وهو يردد: أنا – والله الحمد – مسلم مؤمن باالله ورسوله محمد بن عبداالله إيماناً صادقاً لا أُرائي فيه ولا أُداجي، إلا أني خالفت المسلمين فيما أراهم عليه من أمور يرونها من الدين، وهي ليست منه إلا بمنزلة القشور من اللباب ولا يهمني من الدين إلا جوهره الخالص وغايته المطلوبة التي هي الوصول إلى شيء من السعادة في الحياة الدنيوية الاجتماعية والحياة الأخروية ما أمكن الوصول إليه من ذلك بترك الشرور وبعمل الصالحات، توفى مصابا بالفقر الذي عالجه في شعره الممتاز، وشيع من الاعظمية سكناه الاخير، بموكب يليق بتلك الشخصية الشاعرة المعتبرة، حيث ضمت جمعاً غفيراً من الأدباء والشعراء ورجال الدين والصحافة، ولى عليه الشيخ حمدي الاعظمي، ودفن في مقبرة الخيزران المجاورة لمسجد ابو حنيفة النعمان، عندما كنا في الاعظمية كنت كل مرة اذهب للمقبرة اعرج على قبره واقرأ سورة الفاتحة عليه اسوة بشباب ورجالات الاعظمية، كان والدي يزوره عندما كان ضيفا لجيراننا الاستاذ خيري الهنداوي.
شاعر العراق متنبي عصره، من أعضاء المجمع العلمي العربي (بدمشق)، عالم وحده في شعره ودينه وعقيدته وسلوكه في الحياة العامة، وكبريائه وابائه في تصرفاته مع من بيدهم الأمر، ثم تراه يعتذر ويتخاذل ويطلب المال بسبيل بأباءمن يحمل هذا الكبرياء وهذا الاعتداد بالنفسد. يوسف عز الدين في كتابه: الرصافي يروي سيرة حياته
امتاز ادب الرصافي بمتانة اللغة ورصانة الأسلوب المعاصرين إلى هموم الشعب وطموحاتهم، والرصافي كان من أوائل كثر هم الطليعة الواعية التى تفاعلت مع آمال الشعب، وعنى عناية خاصة بقضاياهم الاجتماعية والسياسية، ولاسيما الفقر والحرمان لأنّه منذ أن فتح عينيه رأى نفسه ومجتمعه في الفقر والحرمان يتألم تألما شديدا منهما، فحاول أن ّ يحل هذه المشكلة ّ كمحلل اجتماعي حاذق، تألم لحال المرأة، وثار على التفاوت الطبقي، وحارب التعصب،
اعترض على يونس بحري، ورفض منه تلقيبه بأمير الشعراء إذ يقول: «هو ليس مني ولست منه»، لأنه يرى في هذا نوعاً من المجاملة ولا سيما أنها تصدر من عراقي، وهذا دليل على تواضعه وخلقه الرفيع
بعض من مؤلفات الرصافي:
قام بتأليف الكثير من المؤلفات الخاصة باللغة العربية والادب العربي الجانب الاشعار والكتب الثورية والتأريخية والتي منها:
محاضرات في الأدب العربي، الشخصية المحمدية، على باب سجن ابي العلاء، الرسالة العراقية في السياسة والدين والاجتماع، دروس في تأريخ اداب اللغة العربية، ديوان الرصافي، و كتاب كيف نحن في العراق، و كتاب السجن في بغداد، و نحن في بغداد، و الأمة العربية ماضيها و باقيها، و المطلقة، و فاسق مراء أو جاهل يدعى العلم، و وزراء المعارف عندنا، و أي جهل فيك، و الشيطان و الطليان، و الوطن و الجهاد، و ما وراء القبر، و نحن والحالة العالمية، و يوم سنغافورة، و بين الانتداب و الاستقلال، و حكومة الانتداب، الآلة والأداة، ديوان الاناشيد المدرسية، كما أنه قد كتب أيضا كتاب الإنكليز في سياستهم الاستعمارية، و كتاب يوم الفلوجة، و الوزارة المذنبة، و كتاب الحق و القوة، و كتاب عند سياحة السلطان ، و كتاب المجلس العمومي ، و كتاب وقفة ند يلدز، و كتاب هولاكو و المستعصم ، و الكتاب الرازي، و كتاب جالينوس و العرب أو أبو بكر، و كتاب الأرض، 248 قصيدة، إلى جانب الكثير من المؤلفات المهمة الأخرى
نشر متسلسلاً في مجلة لغة العرب، رسائل التعليقات في نقد كتاب النقد الفني وكتاب التصوف الإسلامي كلاهما للدكتور زكي مبارك، نفح الطيب في الخطابة والخطيب، محاضرات الأدب العربي جزآن،
معروف الرصافي والخلافة العثمانية:
هاجم ظُلم الحكام، واستبداد «السلطان عبد الحميد» ودعا إلى عزله، التي يقول فيها:
كيف القرار على أمور حكومة حادت بهن عن الطريق الأمثل
فى الملك تفعل من فظائع جورها ما لم تقل، وتقول ما لم تفعل
أبت السياسة أن تدوم حكومة خصّت برأى مقدس لم يُسأل
يا أمة رقدت فطال رقادﮪا هبّي، وفى أمر الملوك تأملي
معروف الرصافي والماسونية:
انتسب الى المحفل الماسوني حسبما جاء في كتاب الرصافي يروي سيرة حياته خلال وجوده في الاستانة، ويشرح الرصافي الكيفية التي وصل فيها سريعا الى مركز مرموق ممثلا لل «الاخوة العثمانية» وهو خاص بالعرب، ورئيسه نذير مطران ويتزعمه «المشرف الاعظم» وكان وقتها جاويد بك وزير المالية التركي حسبما تذكر السيرة، ويستطرد المدون على لسان الرصافي حين يذكر ان خروجه من الماسونية كان بسبب النفور والاشمئزاز بعد أن اطلع على مبادئها الهدامة
معروف الرصافي والاحتلال البريطاني:
عندما احتل الإنجليز العراق سنة 1920م، سرعان ما نصبوا فيصلا بن الحسين ملكاً على البلاد وأصدروا دستورا وأنشئوا برلمانا، فالرصافي كان مدركا لحيل بريطانيا الاستعمارية واعتمادها لمبدأ سياسي ابتدعتها هي فرق تسد، ندد الرصافي بالوضع الجديد، وسخر من الحكومة التي هي في الواقع مجلس دمى بأيدي الإنكليز، وأصبحت أمور البلاد بأيديهم، فثار الشعب العراقي بوجه الاستعمار البريطاني وبضمنهم الشاعر الرصافي حيث كانت قصائده تلتهب نارا ثورية مستعرة وقد هزء بسخرية من الانكليز واذنابهم ومما قاله قصيدته التي جاء فيها:
علم ودستور ومجلس أمة........كل عن المعنى الصحيح محرف
أسماء ليس لنا سوى ألفاظها..........أما معانيها فليست تعرف
من يقرأ الدستور يعلم أنه..........وفقا لصك الانتداب مصنف
.فالدستور الذي سن في نظره ما هو إلا وثيقة جديدة للانتداب الذي فرضه الإنجليز على العراق، دستور مزيف وعلم الدولة مزيف هو الآخر، وحتى المجلس الذي يسمى بمجلس الأمة أيضا كان مزيفا
لعل من الطرائف التي وردت في الكثير من المؤلفات، طريقة خلعه العمامة والجبة وارتدائه الملابس المدنية،وسكنه في بيت مجاور لبيوت فتيات الليل، ومجاهرته بصداقتهن الكثير من الوقائع تلك ترد في كتاب دكتور يوسف الرصافي يروي سيرة حياته على نحو تفصيلي وفيها صراحة الرصافي وجرأته التي تجاوزت كل متعارفات مجتمعه.
معروف الرصافي والملك فيصل الاول:
للرصافي رأي في حكم العراق فقد كان مواليا وصديقا لطالب النقيب الذي رشح نفسه لرئاسة الحكم في العراق سواء أكان (الحكم جمهوريا ام ملكيا)، قاوم الدعاية للأمير فيصل لعرش العراق، لكن الإنجليز تمكنوا من القضاء على الفكرة، عندما نفي طالب النقيب إلى جزيرة «هنجام». ولما وصل الملك فيصل إلى العراق، كانت إحدى الحفلات التي أقيمت له في دار نقيب الأشراف عبد الرحمن النقيب، الذي كان رئيس الوزراء. وقد ذكرت جريدة «دجلة» هذا الحفل. وقد عقدت الحفلة في دار النقيب، وبحضور الأمير فيصل دعي إليها أبرز رجال العراق، وكان الرصافي منهم، فقد كانت له مكانته المرموقة وشخصيته الاجتماعية البارزة. وتم اللقاء في دار النقيب احتفالاً بالأمير فيصل. وكان الرصافي المتحدث البارز فيه، حيّا الحضور بقصيدة قال فيها:
أما وقد طلع الرجاء يشعّ ألوان السرور وكان يقدم النقيب على المحتفى به بذكاء ومقدرة بارزة.
كذلك في جملة قصيدته البائية المشهورة وهو بلبنان وهو في طريقه للعراق:
لنا ملك تأبى عصابة رأسه لها غير سيف (التيمسيين) عاصبا
وليس له من امره غير انه ***** يعدد اياما ويقبض راتبا
كذلك ايضا، في عام 1927 عتدما طغى نهر دجلة وغرق الكثير مما على ضفافها من بيوت وقصور وفي الجملة منها البلاط الملكي وابتهلها الرصافي في فرصة للتهجم على الملك فيصل الاول وحاشيته بقوله:
ليت شعري ابلاط ام ملاط ****ام مليك بالمخانيث يحاط
غضب الله على ساكنه ****فتداعى ساقطاً ذاك البلاط
كان الملك فيصل يحاول ارضاءه، ففي المذكرات يعترف أن أكثر من لقاء ومحاولة من الملك تمت لتسوية الأمور معه، انكشف سر الزيارة المفاجئة والتي كان لها مساس بحياة الرصافي وكانت محل عطف والتماس من نوري السعيد وهي محاولة اصلاح الحال بين اول ملك للعراق واول شاعر فيه.... ومن خلالها تسرب الحديث الى حاشية الملك بانه قال للرصافي بالحرف الواحد:
(يا استاذ الرصافي، أأنا الذي يعدد اياما ويقبض راتباً؟ وانا مثقل بالمشاكل والتحديات وبهموم امة بأسرها؟!)
في حين يعترف الرصافي في كتاب الرصافي يروي سيرة حياته بصراحة بأن الملك هو الذي سعى إليه، لكن الرصافي تهرب، قال إنه قابله في قصر شعشوع وهو بيت على ضفاف دجلة، نزله الملك أول وصوله إلى بغداد ما بين الأعظمية وبغداد، ويصف الرصافي الحجرة التي قابله فيها: «وان أثاث الغرفة يتألف من منضدة كبيرة خلفها كرسي جالس عليه الملك فيصل، وأمام المنضدة كرسي واحد لا غير، فلما دخلت الغرفة بادرني الملك بقوله:
أنا الذي أعدّ أياماً وأقبض راتباً؟
فأجبته:
أسأل الله ألا يكون كذلك، وجلست على الكرسي دون استئذان
ثم قال: ليش كل هذا العداء يا معروف؟
فأجبته: يا صاحب الجلالة، لا يوجد ولا شخص واحد في الدنيا يقول إن لي مطمعاً في مقامكم لأجل أن يكون لي عداء معكم، لأن الأغراض هي التي تولد العداء
فقال: وهذا «بلاط أم ملاط»؟
فأجبته: إن هذا لم يكن موجهاً لشخصكم الكريم، إنما لمقامكم، والمقصود هو حاشيتكم الذين أساءوا للبلاد
فأجاب: إن إساءة بعض الحاشية لا نبرر هذا القول فقال الرصافي في مذكراته: ولما وجدت الملك لا يريد المفاهمة، قمت من مجلسي ولوحت بالسلام وانصرفت!
الرصافي والأصلاح:
لقد بذل شطراً طويلاً من حياته لدعوة الإصلاح، وعالجه على مستويات مختلفة، فقد ألف لطلاب المدارس ديواناً للأناشيد المدرسية، ومجموعة أخرى سمّاها تمائم التربية والتعليم، وكانت رسالته واضحة، لأن الأطفال هم معقد الأمل، ولذلك استهل هذه التمائم يقول: «مستقبل كل أمة منوط بجهودها، وبتخوت مدارسها، ولذا أخذ المفكرون من رجال الأمم الراقية يتحرَّون وسائل الاستفادة من أبناء المدارس
وتمتزج دعوته إلى الإصلاح بروح التجديد، فينادي بها كل المناداة
فيا قومنا إن العلوم تجددت*****فإن كنتم تهوونها فتجددوأ
الرصافي والعلم:
دعى الى العلم لمحاربة الجهل
ابنوا المدَارسَ واستقصُوا بهَا الأَمَلا حتّى نُطاوِلَ في بنيانِهَا زُحَلا
جُودُوا عليها بِمَا درّتْ مكاسبُكُم وقابلُوا باحتقارٍ كُلَّ مَنْ بخِلا
معروف الرصافي والمرأة:
تألم لحال المرأة وثار على التفاوت الطبقي والاستغلال الأجتماعي، وكان كالزهاوي الذي سبقه في مناصرة حقوق المرأة، وطالب بحقوقها في الثقافة والتعليم، وديوانه فيه الكثير من القصائد وذكران عدم حرية المرأة في الزواج والتقاليد فرضت عليها قبول الرجل دون ان تراه وقد يكون شيء اغرى الاسرة بالمال، من بعض من قصائده:
وما العار أن تبدو الفتاة بمسرح**** تمثل حالي عزة وإباء
ولكن عاراً أن تزيا رجالكم**** على مسرح التمثيل زي نساء
ظلموك يتها الفتاة بجهلهم**** اذ اكرهوك على الزواح بأشيبا
هل يعلم الشرقي ان حياته**** تعلو اذا ربى البنات وهذبا
الرصافي وطه حسين:
يرد معروف الرصافي على طه حسين الذي أرجع تشاؤم أبي العلاء المعري الى عزلته وعماه ويأسه من الحياة، حين ذهب الى القول أن «اليأس لا ينتج أفكاراً في حين أن المعري قد أنتج أفكاراً عظيمة»، كما يغلب على رسالته ( على باب سجن أبي العلاء )، مخالفته لعموم استنتاجات الدكتور طه حسين وتخريجاته واستنباطاته من تعليمات فيلسوف المعرَّة التي توصَّل إليها وشامها للسلوك ومعاملة الناس بادِّراع الحذر والاحتراس من كيدهم ومكرهم ، فأوقعه ذلك في التشاؤم وورَّطه في اعتزال مجالسهم، مضيفا ً إلى سجنه بفقد ناظره وكونه أعمى البصر ممَّا لا دخل له فيه أو هو خارجٌ عن إرادته سجنا ً ثانيا ً بلزوم بيته وتواريه عن الخلائق، وكذلك نقض ما سطَّره من آراء وانطباعات بصدد ( اللزوميَّات) وأسلوب نسجها، وما تجشَّمه من نصَبٍ وإرهاق ٍ وحمل ٍعلى نفسه في اختيار رويِّها الموافق لغرضها والوقوف عند قافيتها الملائمة التي قد تخادع القارئ وتوهمه بكونها غير متكلَّفة وجاءَتْ لتحلَّ محلها المناسب لا بحسب اعتمال الشاعر لها أو افتعالها أو اقحامها، وبالجملة إنَّه يدحض جميع ما ورد في الكتاب ذاك وشُحِنَ به من أفكار ومُدَّعيات، غير عازفٍ مطلقا ً عن الثناء وامتداح مساعي طه حسين ودالاته الكثيرة على ازدهار الحياة العلمية والأدبية، ويعرب عن احترامه وانتفاعه بعلمه وإعجابه بأدبه، ويبلغ درجة من التصاغر بعد أنْ سحره طه حسين وخلبه بتدقيقه ومحاكمته النصوص ونظره فيها بإمعان ، فيقرُّ بتطفله على موائده لا غير، لكن دون أنْ يقلع عن محاججته الذكية له مرتكنا ً إلى أسانيده ودلائله، ومستندا ً إلى براهينه وحججه الدامغة، ومتوسِّلا ً لذلك بأسلوبه البارع وبيانه الرصين ولغته الموشَّحة بالرشاقة والطلاوة إلى حدٍ يغري بسلكها في عداد النتاجات الأدبية المزدهرة المعهودة في العقود الأوائل من القرن العشرين، حين نشط نبغاء الكُتَّاب المصريين في ملءِ أنهار الصحف بموضوعات أدبهم وخطرات وجدانهم ومحصِّلات تفكيرهم ، وتأمُّلهم ، لا بد وأن تقف وراءها طاقة ايجابية وخلاقة، على رغم قسوة العمى وسطوة الألم.
الرصافي وثورة العشرين
لم يشترك الرصافي في ثورة العشرين الذي كان في (القدس) اثناء الثورة، وبقي فيها حوالي سنة ونصف، لذلك لم تكن له مشاركة فعلية او ادبية في الثورة، على الرغم من كرهه الشديد للانكليز وبغضه للاستعمار
الرصافي والزهاوي
يعد الزهاوي ثاني اثنين من شعراء العراق، اللذين كانا حديث الشعراء والنقاد وكان لهما الأثر الكبير في حياة العامة في العراق، فقد كان مع الرصافي يتنافسان فيما بينها منافسة شريفة في إثبات الذات والتباهي في الخدمة العامة، فقد سيطرت على ميدان الأدب خصومتهما الدائمة وصلحهما المؤقت وقد وصل صيتهما إلى كلّ البلدان العربية.
اما موقفه من الشاعر معروف الرصافي، حيث كانت العلاقة بين الشاعرين جيدة في الظاهر فقد مدح كل منهما الاخر بقصيدة الا ان هذه العلاقة تغيرت عام 1925، وجاءت نسخ من رباعيات الزهاوي من بيروت سارع باهداء صديقه الرصافي نسخة منها وكان الرصافي انذاك يعمل في وزارة المعارف. وحدث ان زاره في مكتبه الاستاذ احمد حامد الصراف فلما جلس قرب المنضدة، رأى نسخة من الرباعيات فاخذها وراح يقلب صفحاتها فرأى على تلك الصفحات تعليقات بقلم الرصافي فيها اشارات تحط من شعر الزهاوي ، عند ذاك رأى الاستاذ الصراف ان الفرصة المناسبة لاذكاء نار الخصومة بين الزهاوي والرصافي فطلب من الرصافي اعارته الرباعيات كي يقرأها، لان الزهاوي لم يهده نسخة منها. لما كان الرصافي خالي الذهن عما اضمره الصراف سلمه الرباعيات على امل ان يعيدها له بعد قراءتها. ولما تسلمها الصراف خرج مسرعاً وذهب إلى دار الزهاوي ولما قابله قال له:
هاك اقرأ ما يقول صديقك في رباعياتك!
فلما اخذ الزهاوي الرباعيات وقرأ ما كان قد كتبه الرصافي من تعليقات هاله ما رأى فهل يسكت عنه؟ لا لم يسكت بل بادر بكتابة نقد لشعر الرصافي وبيان اخطائه النحوية واللغوية وشركائه من الشعراء الاقدمين بل ومن شعره أيضاً، ولكنه لما اراد نشر هذا النقد في الجرائد البغدادية لم يوفق، الا انه جاء في تلك الفترة، إلى بغداد صحفي سوري صاحب جريدة الفيحاء فلما زار الزهاوي عرض الزهاوي عليه ما كتبه حول نقد شعر الرصافي فرحب بنشره في جريدته في ملفات ولما جاءت اعداد الجريدة الدمشقية وفيها النقد انبرى للرد على الزهاوي الاستاذ روفائيل يطي مدفوعاً من قبل الرصافي، ونشر مقالات في سرقات الزهاوي من الشعراء الاخرين. وهكذا اشتدت الخصومة بين هذين الشاعرين الكبيرين. وزاد لهيبها، ولما لم يتوقف الزهاوي عن ملاحقته الرصافي نظم الرصافي بعض الابيات يهجو بها الزهاوي قال فيها:
قل للزهاوي اني كنت لاقيه
مقالة كان فيها بادي الحذر
لقد بلعت علوم العصر قاطبة
بلعاً تضيق له بالوعة القذر
وكان يبلعها في مدة قصرت
عما يسارق لخط العين والنظر
كتبت اسماء هاتيك العلوم على
ما قد من قنب نزا من الحمر
يقول احمد حامد الصراف (1985-1909م) ، الاديب والمحامي وامين سر الزهاوي، ان صاحب مقهى الباب الشرقي جاء الى الشاعر وعاتبه لهجره مقهاه، وعرض عليه ما يشاء من الليرات العثمانية الذهبية لكن الزهاوي رفض العودة الى مقهاه الاول، وكان الرصافي من رواد المقهى قبل القطيعة النهائية بينه وبين الزهاوي، ويروي العارفون ان احد اسباب القطيعة بين الزهاوي والرصافي ان الاخير كان يلقي احدى قصائده الجديدة في هذا المقهى وسط حماس انصاره، مما اثار غيظ استاذه، فما كان من الزهاوي الا ان نادي صبيا دخل المقهى حاملاً المكسرات في طبق ليسأله بصوت مرتفع
عندك قميص شبابي، على حجمي؟
تضاحك الحاضرون ونهض الرصافي غاضبا، بعد ان قطع انشاده، ليغادر المقهى بلا رجعة، حيث تحول الرصافي الى مقهى”عارف آغا”المقابل لمقهى استاذه
تقول السيدة عائشة عبدالمحسن السعدون، صادف مرة أن الزهاوي والرصافي كانا يأكلان من صحن ثرود واحد، فوقه دجاجة محمّرة، وأثناء ذلك حدث أن مالت الدجاجة ناحية كف الزهاوي، فقال “عرف َ الخيرُ أهله، فتقدّمْ” فرد لحظتها الرصافي “كثر النبش تحتهُ، فتهدّمْ”
في مقهى الزهاوي جرت المصالحة الشهيرة بين الشاعرين الكبيرين بوساطة ابراهيم الحيدري شيخ الاسلام وعبد العزيز الثعالبي، الزعيم التونسي ومنه انتقل الجميع الى دار محمود صبحي الدفتري القريبة من المقهى حيث جرت معجزة الصلح، والذي تحول الى حدث تناولته الصحافة الادبية بالتعليق والتحليل.
معروف الرصافي والوضع العربي:
قبل مائة عام تحدث واشعر الرصافي عن القمع السياسي العربي، وهو
ينطبق على حالنا اليوم مائة بالمائة، كي يبقى العرب نائمين إلى ما شاء الله.اقرؤوها فلن تندموا، ارى ان اشعار الماضي الرائعه للمستقبل وها نحن الان نعيش معناها الظاهري والباطني، وانا اقول يا رصافي لم ترى ما نرى اليوم
يا قوم لا تتكلَّموا إن الكلام محرَّم*** ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلاَّ النُّوَّمُ
وتأخَّروا عن كلِّ ما يَقضي بأن تتقدَّموا*** ودَعُوا التفهُّم جانباً فالخير ألاَّ تَفﮪموا
وتَثبتُّوا في جﮪلكم فالشرُّ أن تتعلَّموا*** أما السياسة فاتركوا أبداً وإلاَّ تندموا
سياسة سرُّها لو تعلمون مُطلسَم*** وإذا أفَضْتم في المباح من الحديث فجَمْجِموا
نظم قصيدة في مدح طاغور حكيم القارة الهندية وله قصيدة في مدح المطربة الشهيرة منيرة المهدية السلطانة،
وأخرى في مدح المطربة أم كلثوم. كما مدح عديدا من شخصيات عصره الثقافية كزكي مبارك، محمد حسين هيكل والمازني وطه حسين والزهاوي والمعلوف ومحمد كرد علي
ورثى عددًا من الشخصيات، مثل: «أحمد شوقى» و«الحسين بن علي» الذي لقبه بأبي الملوك
في اوائل السبعينات من القرن المنصرم اقيم له تمثال في ساحة المأمون بشارع الرشيد وقد صنعه الفنان العراقي اسماعيل فتاح الترك، في يومنا هذا يقف الرصافي في قلب بغداد تحيطه مزبلة نفايات من كل جانب لتصل إلى ما يقارب هامته، هل يستحق الرصافي ان يعامل هكذا من الاهمال المتعمد في حين ان الشعوب الاخرى تراه رمزا من رموز البلد.
لا يملك الكاتب سوى الإعجاب المماثل بشاعرية الرصافي ومناخاته الحافلة بالمعاني والصور الجديدة، ذا هو الرصافي في مواقفه السياسية؛ وهذا هو الرصافي الشاعر العاطفي كما عرفناه في حدود العاطفة التي لا تخضع لمقياس ولا تسير في خط واحد بل هي كصفحة الغدير تتموج في موكب النسيم وتثور في هبوب العاصفة وتهدأ حين تصفو الأجواء.
كان بمقدور الرصافي الحصول على اسمى المراتب لو شاء ان يهاون اويساوم ولكنه اثر الحرية على الرف واستحب الصراحة على الرياء وعدم الخنوع، هذا الشاعر الذي لا يعرف في الحياة غير الشعر والادب والجمال والحقيقة العلوية فيها، فهو دائما فوق الجماعات والاحزاب، فهو مصلحا ومرشدا، لا وطن له غير عراق الفكر والحرية والعلم والمساواة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، المؤمن بسياسة عربية قومية مجردة من كل نزعة دينية، ، الرصافي نتاج المجتمع العراقي المؤمن بتقاليدعريقة تطورت على مدى قرون عديدة لتميز الشخصية العراقية الخجولة والمؤدبة والتي تحترم العلم والسن وأنتجت الثقافة العراقية التي كانت سائدة في العراق في نهاية القرن التاسع عشر، الرصافي الذي اجتذب شباب الأدب العراقي والعربي في الاربعينات، ومنهم من قاد او شارك في حركات النضال القومي، ليست العاطفة هي من دفعتني للكتابة والدفاع عن الرصافي بل ادبه ومبادئه وموضوعية ما كان يطرحه، ومن الله التوفيق.[1]