روجافا بين المدرسة والخندق
إبراهيم خليل
لعل أروع قصة قرأتها على الإطلاق في كل ما كُتِب حول المعجزة اليابانية هي قصة الشاب الياباني تاكيو اوساهيرا (Takeo Osahira) الذي تم إيفاده سنة 1860 ضمن بعثة علمية إلى جامعة هامبورغ في ألمانيا لدراسة الدكتوراه في علم الميكانيكا وصناعة المحركات.
أنهى الشاب تاكيو دراسته الجامعية, التي كانت نظرية في معظمها, دون أن يتوصل إلى أسرار صناعة المحرك. لكنه لم ييأس من الوصول إلى هدفه حتى جاءته الفرصة أخيراً حين حضر بالصدفة معرضاً صناعياً ايطالياً ورأى محركاً أعجبه وأنفق راتبه كله في شرائه. أخذ المحرك إلى غرفته وبدأ بتفكيكه قطعة قطعة وهو يرسم كل قطعة يفكها ويضع لها رقماً محاولاً أن يفهم سبب وضعها في ذلك المكان دون غيره. ثم أخذ يعمل على تجميع تلك القطع ثانية وتركيب المحرك من جديد. استغرقت العملية ثلاثة أيام كان ينام خلالها ثلاث ساعات في اليوم ويتناول وجبة واحدة. وطار فرحاً حين دار المحرك أخيراً لكن أستاذه أشار إلى محرك معطل وطلب منه إصلاحه هذا هو الاختبار الحقيقي لإثبات جدارتك. وبالفعل عمل عليه تاكيو واكتشف فيه بعض القطع التالفة وتمكن بعد عشرة أيام من العمل المضني أن يصلح القطع التالفة ويشغل ذلك المحرك لكنه أدرك بعدها حقيقة هامة هي أهمية القطع الصغيرة الداخلة في تركيب المحركات. تخلى تاكيو عن رسالة الدكتوراه التي كان قد جاء للحصول عليها واشتغل كعامل بسيط تسع سنوات متواصلة في مصانع صهر المعادن في المدينة.
حين علم الامبراطور بقصته أرسل إليه 5,000 جنيه ذهبي كمكافأة لكن تاكيو أنفقها كلها في شراء المعدات اللازمة لصناعة المحركات وشحنها إلى ناغازاكي.
بعد عودته إلى اليابان, طلب الامبراطور الياباني لقاءه لكنه رفض الدعوة قائلاً لم أنجح بعد يا سيدي ولا أستحق شرف لقائكم. وتابع عمله تسع سنوات في بلده حتى استطاع أخيراً صناعة أول عشرة محركات يابانية الصنع بالكامل حملها معه واتجه إلى قصر الإمبراطور. وكانت أول عبارة قالها الامبراطور وهو يستمع إلى هدير المحركات هذه أعذب موسيقا سمعتها في حياتي.
كان إنجاز تاكيو في تلك المرحلة من تاريخ وطنه سبباً في ظهور شعار عظيم إذا كانوا يعملون ثماني ساعات فسأعمل تسعة, ثمانية لنفسي وواحدة من أجل اليابان
وقبل مرور قرن على تلك القصة, كانت اليابان قد تورطت في الحرب العالمية الثانية وخرجت منها مهزومة ومحتلة ومصابة بقنبلتين ذريتين وببنية تحتية مدمرة مفتقرة إلى كل شيء تقريباً باستثناء الروح المعنوية وتقاليد العناد والمثابرة والالتفات إلى المستقبل بدل البكاء على الماضي.
لم تلبث اليابان أن نهضت من جديد ودخلت عصر نموها الثاني بدءً من سنة 1950 حيث كان متوسط الدخل السنوي للفرد الياباني حينها 1/14 من متوسط دخل الفرد الأمريكي. وبعد عقد واحد, انخفض التناسب إلى 1/6 . وبعد عقد آخر أي في سنة 1970, أصبح 1/2,5. وهكذا حتى انتهت الألفية الثانية وأصبحت اليابان في يومنا هذا الاقتصاد الثالث عالميًا بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين بدخل قومي يبلغ (4,901 تريليون دولار)، والثالثة على العالم في سوق صناعة السيارات. أما في المجال العلمي, فإن اليابان تنفق اليوم على البحث العلمي والتقني ما يزيد عن 150 مليار دولار سنويًا (المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالكامل) وهي ثالث أفضل نظام تعليم أساسي عالميًا بتعداد نقطي بلغ 99.9 نقطة.
بإسقاط تلك التجربة العظيمة الناجحة والملهمة في الوقت نفسه على منطقة شبه مستقلة مثل شمال وشرق سوريا - روجافا لم تخرج مهزومة من أي حرب عظمى ولم تقصف بأي قنابل ذرية ولديها جيش لا بأس بتعداده وتسليحه ومنطقة شاسعة نسبياً مدارة ذاتياً وكتلة سكانية متنوعة تغلب عليها شريحة الشباب وحزب حاكم مستبد ومتماسك ونظرية تقدمية نوعاً ما ربما أمكننا الخروج ببعض الأفكار الخصبة.
استلمت الإدارة الذاتية ملف التعليم منذ سنة 2014 أي قبل حوالي ثماني سنوات مع بنية تعليمية تحتية شبه جاهزة كانت, على بساطتها وتواضع إمكانياتها, قاعدة جيدة للانطلاق بخطة تعليمية ثورية جديدة.
انطلقت العملية التعليمية الجديدة وسط أجواء متوترة داخلياً وخارجياً ووسط ارتباك إداري ليس فقط مفتقد إلى الخبرة لكنه طارد للخبرات وتم التعامل مع القطاع التعليمي كجزء مكمِّل وتابع ورافد للقطاع السياسي الحزبي.
وكان من نتائج ذلك الارتباك وسيطرة الأيديولوجيا الحزبية أن تراجع المستوى العلمي للتلاميذ والطلبة بشكل كبير حتى أصبح طموح الجميع, الطلبة ومعلميهم والإدارة نفسها, الوصول إلى المستوى الذي كانت عليه مدارس النظام السوري وجامعاته المتخلفة أصلاً.
ومن جانب آخر, اقتصرت العلاقة مع الولايات المتحدة على الجانب العسكري وضمن صيغة براقة للاستهلاك الإعلامي التحالف في الحرب على داعش ولكن كان واضحاً منذ البداية أن لهذا التحالف مهمة واحدة لا غير وينتهي بانتهائها فلا اعتراف سياسي ولا دعم دبلوماسي ولا استثمارات أجنبية ولا مساعدة حتى في أشد المجالات سلمية وهو مجال التعليم بل على العكس, حافظ الأمريكان على التزامهم بأمن تركيا شريكتهم في حلف الناتو وعلى خيوط رفيعة مع نظام دمشق وعلى تنسيق استخباراتي عال المستوى مع القطب الروسي في المنطقة.
أعتقد أن الدروس الثلاثة التي لم يستخلصها كرد روجافا من المعجزة اليابانية كانت:
- ضرورة الالتزام بالحياد العسكري (بالدفاع الذاتي في أسوأ الأحوال)
- السعي للحصول على المعرفة (عصرنة نظام التعليم وإيفاد البعثات إلى الخارج)
- استخدام تلك المعرفة في التأسيس لصناعة محلية.
ولكن ما حدث كان العكس والإدارة الذاتية الديمقراطية كانت - رغم نظريتها الثورية المستوردة - وفية لتقاليد المنطقة التي نشأت فيها وبدل أن توفد تاكيو اوساهيراها إلى الغرب لتلقي العلوم والعودة بالمحرك, تورطت في اللعبة الإقليمية كبيدق صغير بين لاعبين كبار وفي اللعبة الداخلية كديكتاتورية صغيرة مستنزفة كل جهودها وطاقاتها في نزاعات حزبية تافهة للاستفراد بحكم المنطقة واستغلال طاقات الشباب عبر توزيعهم على قطاعات الجيش والتوظيف والمنظمات الرديفة بينما توزعت باقي فئات الشعب مضطرة على مهن استهلاكية مثل تجارة الخردوات والعقارات وتجارة المعابر والعمل على حراقات البترول غير النظامية أو في منظمات الإغاثة وميادين الإعلام والأدب والثقافة التي تراوح في مكانها في أحسن التوصيفات.[1]