خورشيد برافي
ما إن بدأت المظاهرات السّلمية في سوريا تنادي بالحرية في آذار عام 2011م تسارعت الدول للتدخّل في الشأن السوري بحججٍ وأساليب مختلفة، حتّى غدا هذا الشأن كأنّه لا يخصُّ السوريين ولا يتعلّق بمصلحتهم، وذلك بسبب سعي الدول المتدخلة إلى التحدّث باسم الشعب السوري في المحافل الدولية دون إشراك السوريين في الغالب؛ وقد انقسمت الدول المتدخّلة وأصبحت أطرافاً متنازعة بشكلٍ سرّي أحياناً وبشكلٍ علنيّ أحياناً أخرى، وبذلك الانقسام أصبح قسم من هذه الأطراف يدعم النظام القائم بحجّة دعم الدولة السورية وإنقاذها من السقوط، وقسم آخر يدعم المظاهرات ويحاول احتضانها مع المناداة ب»ضرورة التغيير والديموقراطية وتأمين الحريات»، بيد أنّ هناك قسماً آخراً من الدول لم يكن موقفه واضحاً تماماً، فمرّة كان مع النظام القائم بحجّة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وعدم المساس بأي جزء من الدولة السورية ومرّةً أخرى كان هذا القسم يؤكد على دعمه للشعب السوري وحراكه السلميّ ويدّعي المطالبة بضرورة تأمين حقّه في تقرير مصيره بنفسه وانتخاب ممثليه وفق انتخابات حرّة ونزيهة.
غير أنّ الأمور لم تدم طويلاً على وتيرةٍ واحدة إذْ سرعان ما بدأت المستجدّات تظهر بشكل مستمرّ وبتسارع زمنيّ غريب إلى حدّ لم يكن بالإمكان التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور وماذا سينتج عن المقدّمات الموجودة والمعطيات الظاهرة، فكانت البدايات مع محاولة الكثير من هذه الدول على اختلاف مواقفها دفع المظاهرات باتّجاه التسلّح، وهذا ما حصل فعلاً بعد أشهر قليلة من الحركة الاحتجاجية السلّمية، إذ بدأ عدد الضحايا يزداد تدريجياً إثر استخدام السلاح من قبل الأطراف المتصارعة على أرض الواقع وكثُرت موجات النزوح الجماعيّ بسبب القصف والدمار، كما ازداد حجمُ التدخّل الخارجيّ مع اختلاف شكله ووسائله وتنوع الحجج والذرائع التي بات يطلقها كل طرف بغية تبرير تدخله وتوسيع سيطرته لإضافة مناطق نفوذ إلى رصيده، حتى غدا هذا الوضع واضحاً وظاهراً لكل متتبع للوضع السوري.
ويمكن التأكيد على أنّ أخطر أشكال هذا التدخّل في الشأن السوريّ هو تدخل الدولة التركية لما يحمل من تبعات وانعكاسات كارثية على الشعب السوري بمختلف أطيافه، وتأتي خطورة هذا التدخّل من عوامل كثيرة أهمّها:
أولاً – وجود دوافع استعمارية لدى الدولة التركية تتمثل بأطماع عثمانية قديمة ترى تركيا من خلالها أنّ لها الحق في المناطق الشمالية لسوريا والعراق وفق الميثاق الملي لعام 1920م والذي صار بمثابة وثيقة بيد الدولة التركية يتخذها أردوغان وحزبه اليوم لشرعنة سياساته العدوانية في الشمالين السوري والعراقي.
ثانياً- طول الحدود السورية التركية مقارنة مع الحدود الأخرى لسوريا مع الدول المجاورة، فقد تبّين أنّ تفكير الدولة التركية انصبّ تماماً على الجهة الشمالية لسوريا من خلال النظر إلى الشمال السوري برمّته على أنّه أصبح لقمة سائغة يسهل الاستيلاء عليها والتهامها بسهولة.
ثالثاً- لجوء المعارضة التي حملت على عاتقها تبنّي المظاهرات السلمية في البداية ثّم تبنّي التسليح فيما بعد إلى تركيا منذ الوهلة الأولى والتعويل عليها، وانحيازها إلى الموقف التركي بشكلٍ مباشر حتى صارت تمشي كما تريد حكومة أنقرة، إلى حدٍّ وصل بها الأمر إلى تسليم زمام أمرها إليها بشكلٍ كلّي حتى بدأت تتبنّى شعاراتها ومواقفها وتسمّي فصائلها العسكرية بأسماء رموز عثمانية من سلاطين وقوّاد ومشاهير تُرك، وراحت ترفع العلم التركي في كل مكان كمواطنين ترك، لا بل صارت تبكي على الأمن القومي التركي المزعوم أكثر مما يبكي عليه المسؤولون الأتراك أنفسهم.
رابعاً- من عوامل خطورة التدخل التركي في شمالي سوريا وخاصة شمال شرقي سوريا (روجا آفا) ضعف الممانعة من قبل الدول المختلفة وعدم وجود مواجهة صريحة لتركيا بل على العكس من ذلك صارت الكثير من الدول المعنية بالشأن السوري تهادنها وتتحاور معها، في ظلّ مطالبة تركيا بالسيطرة على مناطق أخرى، بل نجد دولاً تعزف على الوتر التركي بالتأكيد على «حق تركيا في الدفاع عن أمنها القومي»، فحتى روسيا وإيران الداعمتان للنظام السوري لم تمتنعا عن الحوار معها والموافقة على الدخول العسكري التركي المباشر إلى مناطق عديدة في شمالي سوريا بموجب صفقات ومقايضات مشبوهة. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ تركيا قد اعتمدت على المصالح المشتركة بينها وبين الدول واستخدمت علاقاتها وأسلوبها الدبلوماسي بشكل مكثّف في إقناع الأطراف المهيمنة النافذة في سوريا للسماح لها بالتدخّل المباشر وتعزيز نفوذها وسيطرتها على مناطق سورية عديدة، وفعلاً أطلقت عملية «درع الفرات» في آب/أغسطس 2016م لتُسيطر على مناطق «إعزاز والباب وجرابلس»، وأطلقت عملية «غصن الزيتون» في كانون الثاني/يناير 2018م لاجتياح عفرين، ثمّ عملية «نبع السلام» في تشرين الأول/أكتوبر 2019م لاجتياح منطقتي سري كانية/رأس العين و كري سبي/تل أبيض؛ وإلى جانب ذلك أيضاً تمركزت القوات التركية في نقاط لمراقبة «خفض التوتر» في محافظة إدلب والمناطق المجاورة لها؛ ولا يُخفى على أحد ما يحصل من ممارسات التغيير الديموغرافي، وأعمال السلب والنهب من قبل المرتزقة الموالين للجيش التركي، وما يحصل من دمار للبنية التحتية وهدم للمعالم الأثرية في تلك المناطق جرّاء التدخل والسيطرة المباشرة التي لا يمكن تفسيرها إلا باحتلال عسكريّ مباشر.
من هذا المنطلق بدأت تركيا تستمرّ في المطالبة بالدخول المباشر إلى شمال شرقي سوريا (روج آفا) والدعوة للدخول إلى المزيد من المناطق كمنبج وغيرها، بحجج مختلفة، منها المطالبة بتشكيل «منطقة آمنة»، أو بحجة «محاربة الإرهاب وحماية حدودها وأمنها القومي»؛ فلا تكفّ أبداً عن المطالبة بالتدخّل والسيطرة العسكرية المباشرة، لذلك نجدها تحاول إبرام الصفقات مع مختلف الأطراف والقوى ذات المصالح المشتركة لأخذ الضوء الأخضر للسماح لها بإطلاق عمليات عسكرية جديدة؛ وتطرح المقايضات مع هذه الأطراف، لتقاسم مناطق النفوذ بين بعضها البعض، كما لا تكفّ عن إطلاق التهديدات المستمرّة والتلويح بالتدخّل العسكري بهدف زعزعة الاستقرار وإثارة الفوضى والقلاقل، وإرباك الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال شرقي سوريا ومحاولة إسقاطها وضرب القوة العسكرية الموجودة في المنطقة والمتمثلة بقوات سوريا الديمقراطية، وتوتير الأوضاع بين السكّان والرغبة في إطالة أمد الحرب في سوريا ككل، وضرب الحالة الاقتصادية وهدم مختلف مجالات الحياة اليومية.
[1]