أسدٌ بضربة عصىً واحدة
الكاتب #أوصمان صبري#
الترجمة من الكردية: نواف بشارعبد الله
مجلة الحوار- العدد /78/ – عام 2021م
أصدر العالم اللغوي الكردي الكبير الأمير جلادت عالي بدرخان /28/ عدداً من مجلة RONAHÎ باللغة الكردية (الكرمانجية) من دمشق. في قراءتي للعدد/14/ من المجلة المذكورة، لفتتْ انتباهي مقالة هي بمثابة واقعة حقيقية كتبها المناضل والكاتب الكردي المعروف العم أوصمان صبري منقولة عن الشيخ الشهيد عبد الرحمن كارسي. ولما تحمله القصة من أفكارٍ وصور من تلك المرحلة، ارتأيتُ ترجمتها إلى اللغة العربية بغية الإفادة وأخصُّ بها مجلة(الحوار)، آملاً تحقيق الغاية المرجوة-المترجم-
من المعروف أنّ الأسودَ لا تعيشُ في بلاد الكرد، لكن أحياناً، تُخطئُ بعضُ أفرادها الطريقَ وتدخل بلادَهم قادمةَ من عربستان لتعيشَ أياماً معدودة وليس شهوراً أو سنين لتلقى حتفَها وتموت. ربما كان للأسود وجودٌ في كردستان قبلَ تواجد الكرد فيها، وتذهبُ العديدُ من القصص الشعبية الكردية نحو ذلك الاعتقاد، لكن، للأسف، وكما قال أسلافُ الكرد: «لا يمكنُ طبخ رأسَيْ كبشين في طنجرة واحدة»! (Serê du beranan di beroşekê de nakele) حيث لا يمكنُ للكرد والأسود أن تعيشَ في أرضٍ واحدة، ولهذا السبب لا توجد الأسود في كردستان، أما تلك التي تضلُّ طريقها، فسرعان ما يتمُّ قتلُها.
تعرفتُ على المرحوم الشيخ عبد الرحمن كارسي عام 1930 بمنطقة بارزان وبقينا أصدقاءً متحابين مدة طويلة من الزمن، وخلال تلك الفترة كان يروي لي الكثيرَ من القصص والسيَر والأحداث، ومن جملة القصص التي رواها لي، هي قصة أسدٍ تم قتلُه على يد بدويٍّ كردي (كوجر) بعصىً كان يحملُها.
عدا عن جانب الشجاعة في هذه القصة، فإنها توضحُ نفسية الإنسان الكردي التي سوف أتطرق إليها باختصارٍ نهاية هذه القصة.
فقد قال الشيخ كارسي: «في زمن أمير جزيرة بوطان بدرخان بك، ضلَّ أحدُ الأسود طريقه ودخل بلاد جزيرة بوطان ليقومَ بافتراس الأغنام والدواب مراتٍ عديدة على الطرقات في منطقة معينة. سمعَ الأمير بالنبأ، فقام برفقة عددٍ من الخيالة المسلحين بزيارة المكان الذي يتواجد فيه الأسد لاصطياده وتخليصِ المنطقة من شروره.. لكن، ولأن الأسودَ لا تدخلُ المعاركَ الخاسرة، لم يظهر الأسدُ أمام الأمير وجنده ولجأ إلى الاختباء والتواري عن الأنظار. بعد أن فقدَ الأميرُ الأملَ بملاقاة الأسد والانتقام منه، عادَ إلى منزله وأمرَ المناديَ بأن يطوفَ شوارع المدينة منادياً: «من يقتل الأسد، سيحظى بمكافأةٍ سخيةٍ من الأمير».
في تلك الأثناء، كان أحد رجالِ البدو الكرد (كوجر) من كارسي في طريقه إلى الجزيرة وحيداً لتأمين (مجيدي) واحد -عملة ذلك الزمان- لتسديد ضريبة الأمير السنوية، حاملاً بيده عصىً غليظة. حينما وصل الرجل إلى منطقة تواجد الأسد، وعلى حين غرة رأى أمامَه وحشاً كبيراً يكشر عن أنيابه ويزأر ويهمُّ بالقفز عليه، إلا أنّ الكوجريِّ رفعَ عصاه بكلتا يديه وضربها بكل ما يملك من قوة في جبهته، خرَّ الأسدُ جثةً هامدة كثعلبٍ صغيرٍ أمام قدميه بضربةٍ واحدةٍ!… بعد قتله للوحش، ساورته الشكوكُ وتغلّبَ عليه القلقُ خشية أن يكون الوحش المقتول هو كلبٌ من كلاب الأمير، فيلقى العقابَ على يديه!! ولكي لا يسلمَ رقبته لرجال الأمير، قام بالابتعاد عن المنطقة وتغيير طريقه وتابع السير نحو المدينة كسيراً.
بعد ابتعاد الكوجري عن المنطقة بقليل، يصدفُ أن يمرَّ على الطريق ذاتها رجلٌ حضري من الجزيرة يحمل بندقية، فوجئ بجثة أسدٍ مرمية على الطريق، فقام بوضع سبطانة بندقيته في رأس الأسد المقتول وأطلق رصاصةً أدتْ إلى فتح جرح غائر فيه. ووضعَ جثة الأسد على حماره ليرميَها أمام قصر الأمير BircaBelek متباهياً، متظاهراً بأنه هو من قام بقتل الأسد. سارعَ خدمُ القصر إلى إعلام الأمير بالأمر، ولأجل تقديم المكافأة له، طلبه الأمير إلى مجلسه. سأله الأميرُ بضع أسئلة، لكنه شكَّ في أمر الرجل بأن يكون هو قاتلُ الأسد. في تلك الأثناء دخلَ أحد الخدم إلى المجلس وأعلمَ الأميرَ بأن جرح الأسد لم تسلْ منه الدماء، الأسد لم يُقتلْ برصاص البندقية.! صرف الأميرُ الرجلَ وأوعزَ الدلالَ بأن ينادي في شوارع المدينة «الأمير يريدُ مكافأة قاتل الأسد».
في تلك الأثناء التي كان الكوجري يروي قصته مع ذلك الوحش مع أحد معارفه من أصحاب الدكاكين وعن اعتقاده بأن المقتول هو كلب الأمير، تناهى إلى مسمعهم صوتُ المنادي الباحث عن قاتل الأسد. عندها، سأل صاحب المحل ضيفه الكوجري عن أوصاف كلب الأمير الذي قتله، وبعد شرحه، قال له: إن ما قتلته ليس بكلب الأمير، بل هو أسدٌ، قمْ واذهب إلى قصر الأمير لاستلام مكافأتك.
وصلَ الكوجريُّ إلى قصر الأمير ليرى جثة الوحش، قام بفحصه ثم قال: لولا هذا الجرحُ الذي في رأسه، لاستطعتُ القولَ دون ترددٍ بأنني أنا الذي قتلته بعصاي هذه! يقوم الخدمُ بنقل حديث الرجل إلى الأمير، وبناء على أمره، امتثل الكوجري بين يديه. حدق الأمير فيه ملياً ليرى أمامه رجلاً هميماً ضخم الجثة قويَّ المنكبين حاملاً عصىً بيده، وقال في قرارة نفسه بأن رجلاً كهذا يستطيع قتلَ أسدٍ بعصىً!، ودار بينهما الحديث التالي:
الأمير: هل أنت من قتل هذا الأسد؟
الكوجري: سيدي، لولا هذا الجرح في رأسه، لاستطعتُ القولَ نعم أنا هو من قتله.
الأمير: حسناً، قل لي، كيف قتلته؟
الكوجري: سيدي، كأنك أنت الأسد، وأنا أنا، حينما همَّ بالهجوم عليَّ قمتُ برفع عصاي هذه هكذا، ممسكاً بها بكلتا يديه وضربتُها في جبهته هكذا…!!!… (عندها، لولا إسراعُ الخدم والحاشية بمسك العصى من الخلف، لكان قد هوى بها على رأس الأمير)! عندها قال الأمير:
نعم كوجريَّ العزيز، إنك أنت قاتلُ الوحش. قلْ لي، ماذا تريدني أن أعطيك مكافأةَ لما أقدمتَ عليه من شجاعة؟
الكوجري: سيدي، بفضل الأمير لا ينقصني أي شيءٍ، فقط أنا محتاج ل مجيدي واحد كي أدفعَ ضريبة الأمير.
الأمير: أيها الكوجري، بعد اليوم، أنت معفٍ من الضريبة طيلة عمرك، غير هذا قل لي ماذا تريد؟
الكوجري: أميري، أنا أملك بندقية وأغناماً ودواباً وطعاماً ومؤونة تكفيني وتكفي عائلتي، لا أريد شيئاً آخر!
لم يفلح الأميرُ بدرخان بك بإقناع الكوجري الحصولَ على أية مكافأة مادية. فقام بإهدائه بندقيةً وسيفاً مطلياً بالفضة، وأمرَ الخدمَ بأخذه إلى سوق المدينة كي يشتروا له ولأولاده الكثيرَ من الملابس والحاجيات ويرسلوه إلى قريته معززاً مكرّماً»…
يتضحُ من هذه القصة بأن الكردَ يخجلون كثيراً من السؤال (الحاجة)، ومهما اجترح الكرديُّ من بطولاتٍ في الشجاعة، لا يقومُ بمدح ذاته، لأن الأعمالَ البطولية ليست بالأمور الغريبة عنه. بسبب وجود هذه القناعة لدى الكرد، ليس هناك أمرٌ غير مقدور على تحقيقه لديهم.
يجبُ ألا يُفهمَ من هذا الكلام أن الكردَ لا يعرفون قيمة الشجاعة، لكن، ولكون الكردي شجاعاً، فإنه يستطيع فعل ما يريد، وكما أن الكرمَ والجودَ لا تعتبر وصفاً وتفاخراً للملوك لأنه لا يجوز للملك أن يكون بخيلاً، هكذا هو الكردي لا يمكن أن يكون موجوداً بدون شجاعة وفكرُهم ليس ببعيد عن الحكمة!
لو جرت مثلُ هذه الحادثة عند شعوبٍ أخرى، لربما كُتبتْ عنها الأشعار ودُوِّنت في بطون الكتب، أما عندنا، لولا فضلُ الشيخ كارسي الذي روى لي هذه القصة، لضاعتْ واندثرتْ دون أن يسمع بها أحدٌ.
————————————–
نشرت في مجلة RONAHÎ (روناهي) – العدد/14/ تاريخ 1 أيار 1943
[1]