د. فائق بطي
في اجتماع للجنة نصرة الشعب الفلسطيني ودعم المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني، ولج غرفة الاجتماع السري إبان حكم عارف الثاني، شاب وسيم، تدل سحنته على انتمائه غير العربي فتنطلق كلماته الأولى بلهجة أهل «الشمال» فعرفنا إنه قادم من مدينة السليمانية في كردستان. ليكون عضواً في اجتماع مكرس لمناقشة موضوع يتعلق «بالعروبة» فيثبت منظمو الاجتماع، على أن وحدة العمل والمصير، قاسم مشترك بين العرب والكرد في كل معارك السيادة الوطنية.
طريقته في الحديث «ملائية» وهو يزن كلماته وينتقل بها بين الجدية والهزل، اذا تجاوزت مدة اللقاء ما تفرضه الحاجة. والدليل على طريقته الملائية هذه في الكلام، ان والده الحاج ملا رسول، رجل العلم والثقافة الدينية، أراده أن يلتحق بكلية الشريعة في بغداد، والعراق يغلي في مظاهرات ونشاطات سياسية إبان وبعد وثبة كانون 1948، فقضى فيها سنة واحدة فصلته إدارة الكلية بسبب هذا النشاط، في نفس الوقت الذي اختار طريقه الخاص، بانتمائه الى الحزب الشيوعي العراقي وتنقله بين بغداد ومناطق كردستان.
اعتقل عز الدين وسجن أكثر من مرة، وهو ما يزال طالباً، فاضطرته الظروف عام 1956 للسفر الى سوريا ودخول كلية الآداب في دمشق فرع اللغة العربية، وما أن اندلعت ثورة 14 تموز 1958 حتى عاد الى العراق، ليشارك الشعب فرحته، ولم ينس أن ينهي دراسته الجامعية ما بين بغداد ودمشق ثم يحصل على منحة دراسية في الاتحاد السوفييتي ليعود بعدها، دكتوراه في الأدب والتاريخ عام 1963. لم تطاله لحسن حظه، آلة 8 شباط الاسود، فازداد عناداً وتحدياً لانظمة الحكم التي لم تعرف سوى القمع والإرهاب، أداة لحكمها الفاشل على مر السنين.
لم تشغله السياسة عن تحقيق طموحاته في الكتابة والتأليف باللغتين الكردية والعربية وكنت إلتقيه كلما جاء الى بغداد في مهمة حزبية، أو لحضور فعاليات ثقافية، لنتحدث عن آخر مشروع له في الكلية فهولاء يكف عن العطاء، فيختار موضوعاته في القصة والشعر والدراسات الجادة والتحقيقات الادبية والتراث الانساني، ويعنى بالترجمة من الكردية الى العربية، يكتب عن التاريخ والحاضر وعن الأدب الكردي والصحافة الكردية، وعن أعلام كرد في التاريخ والأدب أهلته عام 1970 لتأسيس اتحاد أدباء الكرد وأن يكون عضواً في هيئاته الإدارية، حتى تسلم رئاسته لعدة دورات منذ عام 1978.
افتقدته سنوات، فالتقيته في نهاية 1978 عندما سكن في نفس البناية التي أسكن فيها، وكلانا نتلقى دراستنا العليا في اكاديمية العلوم السوفيتية وقضينا وقتاً جميلاً مع غائب طعمة فرمان وبرهان الخطيب اللذين كانا يسكنان أيضاً في نفس البناية، وهي مخصصة لطلبة الاكاديمية ولدار التقدم للنشر، كان مطعم «باكو» في وسط عاصمة الثلوج، موسكو مقراً ليلياً لنا نحن الاربعة، بعد انضمام جلال الماشطة وأحمد النعمان الينا، وفي إحدى الليالي الصاخبة، احتفلنا بحصول عز الدين على شهادة «دكتور ناووك» التي تؤهله لدرجة بروفيسور، وهو الكردي الثاني الذي يحصل على هذه الشهادة في العراق.
عاد هذا المثقف والسياسي الى وطنه وفي السليمانية ليحتل المقعد الذي يستحقه في جامعة صلاح الدين في أربيل وجامعة السليمانية، واستاذاً في جامعات أخرى في كردستان العراق والخارج.
برز عز الدين في ميدان الأدب الكردي كأول مثقف يضع العشرات من الكتب الموضوعة والمترجمة وباللغتين العربية والكردية . زرته بعد انتفاضة 1991 في السليمانية، وهي المرة الأولى التي التقيته بعد فراق موسكو، حيث كنت في المنفى منذ منتصف عام 1979 في عاصمة الضباب، لندن فاستضافني مع شلة البيشمركة المرافقين لي، وقضينا الليلة في تبادل أحاديث شتى، فيها من الذكريات الحلوة والمرة، وعن الثقافة وشؤون المثقفين في الخارج وكانت فرحتي كبيرة عندما اطلعني على مكتبته الكبيرة التي تضم الالاف من الكتب والمخطوطات وعلى تراث والده ويسلمني بعض النسخ المتوفرة عنده من آخر إصداراته ودعته في الصباح وانا في طريقي الى حلبجة الشهيدة.
وتشاء الصدف أن نكون قريبين عن بعضنا منذ عام 1993 بحكم تسنمي مسؤوليات في أربيل جعلتني اتنقل بين مدن كردستان وخارج العراق طيلة سنوات تحرر مناطق كردستان من سيطرة وادارة النظام الدكتاتوري بعد انتفاضة آذار 1991، كانت جلساتنا غنية جدا حين يتخللها الحديث عن كتب في طريقها الى النشر، او كتاب قرأناه، ولنا وجهة نظر تتعارضان بل يحدثني في مرات عديدة عن مشروع كتاب يقوم بتأليفه، بالتفاصيل رغم طلبي وتوسلي ، بعد الاسترسال لإطلاعي على كل تلك التفاصيل طالما أني سأقراه بعد النشر، إن كان باللغة العربية طبعا، إلا أنه يضحك ويقول بان الكتاب سوف يصدر باللغة الكردية ولهذا السبب أشرح لك مضمونه يا عروبي!.
كان عز الدين كثير الانتاج والإبداع في كل ما نشره من كتب تتناول قضايا الثقافة الكردية والعربية وقارئ جيد لا يغفل عن كتاب جديد، حتى إنه يطلبه من المكتبات إن لم يتوفر لديه فتراه، بالفعل حجة في هذه الميادين المتنوعة من دنيا الثقافة والمعرفة يساعده على ذلك المامه واتقانه للغات ثلاث هي العربية والكردية والروسية.
كما كان خجولاً وبسيطاً في تعامله مع الرفاق والأصدقاء، وزاهداً في الحياة، بحيث استغله البعض وحاول إبعاده عن «الاستاذية» التي يستحقها عن جدارة، في التنظيمات الثقافية، او في الجامعات، وعن الوفود العلمية التي تشارك في المؤتمرات العالمية، الا انه رغم كل ذلك التعامل غير الاخلاقي وعدم تقييم دوره البارز والرائد في العديد من نتاجاته التي تجاوزت 80 مؤلفاً، كان موضوع حفاوة في الأوساط الثقافية المحلية والعربية والعالمية، وقد جرى تكريمه اخيرا من قبل الحزب الشيوعي الكردستاني ومنتدى كلاويز الادبي في السليمانية، ومؤسسة الرائد في الادب الكردي ابراهيم أحمد ومنح درع السهيل من قبل مجلس صفية السهيل في بغداد، الى جانب حصوله على جوائز تقديرية في مؤتمرات الخارج.
لم يعتر علاقتنا أي سوء، سوى حادث «دخيل» على يد أحد الطارئين أثناء انعقاد مؤتمر ثقافي في لندن، مما اضطرني ذلك الحادث بعد أيام الى كتابة رسالة اليه من شقلاوة مؤرخة في 19 شباط فبراير 2003 قلت فيها.
«طرق سمعي للأسف» بأنك نقلت عني كلاماً جرى معك، في وقت لم اتصل بك منذ اكثر من سنتين لا في أربيل ولا في السليمانية، ثم قيل، إنك صححت الكلام المقال، وقلت بأنه لم يجر معك بل مع نبيل ياسين في لندن، حول مؤتمر المثقفين الذين تلقيت أنا دعوة لحضوره والمشاركة في أعماله وقلت أنت بانك سمعت الكلام منه وهو باطل ولا أساس له من الصحة.
إن استغرابي أشد، وأنت تعرف العلاقة والصداقة التي بيننا منذ أكثر من أربعين عاماً، حين نقلت عن شخص يتصف ب... رواية كاذبة، وهناك أكثر من شاهد على الحديث الهاتفي القصير الذي جرى بينه وبيني قبل موعد المؤتمر بيومين، دون أن ترجع إلي أو الى اي مثقف شيوعي دعي الى المؤتمر المذكور. وازداد استغرابي وعجبي، عندما تناقلت مع آخرين، ذلك الكلام على لساني هنا في كردستان، وهو كلام يمس مام جلال وقياديين آخرين في الاتحاد الوطني الكردستاني أكن لهم الود والاحترام، ولي علاقة صداقية وسياسية منذ سنوات طوال، ناهيك عن أن الكلام المنقول عني سماعاً، لا يليق بي شخصياً وسياسياً وثقافياً وأنت أول الأشخاص الذين يعرفون ذلك جيداً فأرجو منك تصحيح واستدراك ما صرحت به أنت هنا، والذي مسني وألمني كثيراً، ليطلع على ذلك الجميع مع تحياتي..»
أجابني عز الدين برسالة مؤرخة في 23 شباط جاء فيها:
«... أنا لم انقل عنك مباشرة ولم أصحح كلامي كما قلت بل لم أذكر أسمك حتى أصدر ما سمي بالإعلام المركزي «لحشع» بيانه المشؤوم عني، ونقله بالانترنيت والاستنساخ وعبر النشر في عدة صحف انذاك قلت إن عتابي وانتقادي لعضو في اللجنة المركزية في الحزب في جريدة (راية الحرية) هو للسيد فائق بطي، حيث نقل عنه نبيل ياسين أقوالاً خففت من لهجته في الكتابة، ولم اتطرق الى اسمك أوالى اسم فلان وفلان ممن ذكرهم ولم ينقل نبيل كلامه لي وحدي بل لعدد من المشاركين وبينهم بعض قادة (اوك) وعندما سمع الاخ عبد الرزاق الصافي ذلك لم يقم بالنفي بل قال «فائق يحجي من كيفه»...
كما كتب د. عزي، رسالة عتاب الى صديقه ورفيق دربه عبد الرزاق الصافي بهذا الخصوص، وكم المني تدخل مكتب الإعلام المركزي أو الصحف الكردية، في هذا الحادث الذي اعتبره «عابراً» خلقه شخص لا تليق به أخلاق المثقف والشاعر، خصوصاً إنه كان يوماً، عضوا في الحزب الشيوعي، وإن الحديث «العابر» يتعلق برفاق، ولا يستند الى أية حقيقة.
انتهى الأمر عند هذا الحد..
وفي لقاء قريب بعد سقوط الدكتاتورية تناسى الصديقان تلك «الحادثة» دون عتاب أو حتى الإشارة إليها، وتواصلت بعدها اللقاءات في كردستان كان أقربها الى يومنا زيارة وفد المثقفين العرب الذين دعاهم فخري كريم الى حضور معرض أربيل الدولي للكتاب المقام سنويا في عاصمة الاقليم بالتعاون مع وزارة الثقافة والشباب في حكومتها، عندما استضافنا شقيقه فاروق مصطفى رسول صاحب مؤسسة «آسيا سيل» للهاتف النقال، أو كما يسميه مام جلال الطالباني ، المليونير الأحمر، في ناد اجتماعي خاص برجال الاعمال الكرد، يقع في أطراف مدينة السليمانية ونحن في طريق عودتنا الى أربيل كان حاضراً في النادي عز الدين، الذي جلست بجانبه، فأشار اليّ بتناول الكأس لمناسبة صدور كتابه الرابع والثمانين وتمنينا له العمر الطويل والى مزيد من الانتاج والإبداع الثقافي.
لقد تأثر عز الدين رسول بالعراق، بأحداثه الصعبة والآم شعبه الصابر، طيلة عهود الكفاح والعمل الوطني المشترك للعرب والكرد، واعطى الكثير من طاقته وسني حياته المليئة بالمواقف المتعثرة وبالمطاردة والاختفاء والسجين والغربة، خصوصاً في كردستان العراق وبقي محافظاً على عقيدته وأفكاره الإنسانية التقدمية، وهو يواصل العمل السياسي والثقافي ويترك لنا إرثاً في التجارب والتحدي وغير هذا الكم الهائل من المؤلفات القيمة، تاريخاً وأدباً وتراثاً، بالعربية والكردية فبات قامة في الثقافة الوطنية ومرجعا مهما للباحثين والدارسين للاجيال القادمة.
كان عز الدين اكثر المثقفين العراقيين انتاجا ، فقد اصدر حتى الان 84 مؤلفاً في مختلف المواضيع وبذلك يعتبر اليوم، أول مثقف يصل الى هذا الرقم في الإصدار.
عن كتاب عراقيون في الوجدان.[1]