حاوره: حسب الله يحيى
ليس غريباً أن يكون الفنان التشكيلي الكردي الرائد: #نوري مصطفى بهجت#.. طبيباً يعنى بجسد الإنسان ومعالجة أمراضه، وفي عين الوقت يعنى بالألوان وبهجتها د. نوري مصطفى بهجت، لم يكن الأول في هذا الميدان ولن يكون الأخير.. فقد سبقه ليوناردو دافنشي صاحب أشهر وأثمن لوحة كونية (الموناليزا) الذي عرف كذلك بتجاربه وبحوثه العلمية الصرفة.
وتشيخوف، الطبيب والكاتب القصصي والمسرحي، وباشلار المعني بفلسفة المكان والعلوم الصرفة، وقتيبة الشيخ نوري وعلاء بشير وكلاهما طبيبان وتشكيليان، ود. يوسف ادريس / الطبيب والأديب، ود. عبد السلام العجيلي/ الطبيب والأديب كذلك.. والامثلة في هذا الجانب قد تطول.
وليس من العجب والغرابة أن يكون الطبيب فناناً، بل العجب والغرابة أن لايكون كذلك.. فالباحث عن طبابة الانسان وتضميد جراحه يبحث في الوقت نفسه عن جماليات الكائن البشري حتى لا يكون عليلاً ولا مشوهاً ولا يعاني من امراض داخلية أو عقلية أو نفسية.
الطبيب.. معني أصلاً بالحفاظ على الانسان بوصفه أعظم وأهمّ وأثمن الكائنات في الوجود كله..
من هنا يتقدم د. مصطفى بهجت في عمله طبيباً وجرّاحاً ومتقناً وبارعاً في ميدانه الطبي، وفناناً يتخذ من اللوحة سبيلاً لمعالجة الانسان من قلق الحياة ومشاغلها وهمومها، وذلك عن طريق مخاطبة حواسه والعمل على الارتقاء بها.. شأنه شأن الموسيقي الذي يعالج مرضاه بالعزف الموسيقي كسباً لراحة اعصاب مرضاه الذين يعانون من توتر عصبي.
وهذا لايعني أن كل مشاهد للوحة أو مصغ لموسيقى.. هو مريض يحتاج للعلاج، وإنما نقصد طبيعة هذه العلاقة الوحيدة بين الفنون والانسان في شتى أحواله، والفنون كافة.. ميدان من ميادين الارتقاء بالذائقة الحسيّة والجمالية للانسان، وقد اتخذ د. نوري مصطفى بهجت من لوحاته سبيلاً لا للارتقاء بالإنسان عن طريق تأمل جماليات الطبيعة فحسب، وإنما عمد الى نقل الطبيعة بكل ألقها وبوحها الى بيوتنا وأماكن عملنا.. وجعل هذه الطبيعة تتنفس وتواجه صمت الجدران وتعاند جفافها وصلابتها وحياديتها، وذلك عن طريق فرش الألوان على مساحتها واتخاذ اللوحة الفنية سبيلاً للتعبير عن جماليات الطبيعة المحيطة بنا خارج الزمان والمكان..
صحيح إن الانسان غائب في معظم لوحات هذا الفنان، الا أن غياب الانسان هذا لايعني أبداً أنه منفي عن اهتمامات وعوالم د. نوري..
وإنما هو على العكس من ذلك موجود في النباتات التي تنبّه الانسان الى جمالياتها، فصار يؤثثها ويعني بها ولشدة الاعجاب بها، عمل جاهداً على نقلها الى الدائرة الأقرب اليه والى الأماكن التي له تماس مباشر بها، شأن كل الاشياء التي نعمد الى اقتنائها والاحتفاظ بها ضمن المحيط الذي نعيشه.
وهذا الاعجاب الذي يملأ عالم د. نوري، هو نفسه الذي يجعله دائم الاهتمام بالانسان وبالطبيعة معاً.
الانسان من حيث إنه كائن يُراد له أن يعيش في أبهى حياة.. وحياة يُراد لها أن تكون الأزهى والأبهى.. حتى تكون جزءاً من سعادة الانسان.
ولو تأملنا لوحات هذا الفنان، لوجدناها شديدة التعلق بالطبيعة بوصفها الوجود الأمثل والأنقى والأكثر اشراقاً في عالم الانسان الذي يعمل على ادامة عافيته عن طريق معالجته طبياً ومعالجته حسيّاً.
نعم.. قد يكون د. نوري بعيداً عن التجارب الفنية الحديثة التي تتحرك على وفق رؤى فنية متعددة، الا انه من ناحية ثانية لا ينكر تلك التجارب ولا يتقاطع معها، وإنما يقدم النمط أو الاسلوب أو الاحساس الذي له تماس بحياته وعمله معاً، وتعبيراً عن عشقه وحميميته وتفاعله مع الطبيعة التي يجد نفسه يعيش في قلبها وروحها وحركتها.. ومن هنا سر نقله إياها في لوحاته التي يجد فيها زاداً يسعد به ويسعد الآخرين الذين يجدون في اعماله اسراراً تمتلئ بالبهجة والحبور الذي يلازم سائر تلك اللوحات التي رسمها هذا الفنان الشغوف بالحياة والانسان والألوان التي تخضر بها عوالم شيخوخة لاتريد أن تسكن في ربوع جدران يابسة جامدة كشجرة جافة النت بأوراقها وصارت تنتظر ربيع بهجتها..
د. نوري مصطفى بهجت.. يزهو بربيع لوحاته التي قدمتها لنا دائرة الفنون في وزارة الثقافة بغداد عن طريق (سلايدات) امام جمهور احتفى بهذا الرائد المبدع.. وكان الأمل أن يواكب هذا الاحتفاء، اقامة معرض استعادي له.. حتى يكون التكريم في أبهى صوره وأعمق دلالاته وجديته.. غير أن الأمل قد يظل حلماً مادامت لوحات هذا الفنان قد ملأت أماكن شتى وتوزعت في اماكن مختلفة يصعب الحصول عليها وجمعها في معرض..
لقد كانت مبادرة دائرة الفنون.. مبادرة محمودة تقدّم بها د. جمال حسن العتابي بوصفه فناناً يدير دائرة فنية، واحسن تقديم هذا الاحتفاء الشاعر والاعلامي حسن عبد الحميد بوصفه فناناً وناقداً تشكيلياً.. يحسن مخاطبة الجمهور وشده الى هذه الاحتفالية الجديرة بالاحترام..
مثلما كانت المداخلات التي رافقت هذه الفعالية.. جادة ورصينة اسعدتنا وجعلتنا نحمد لدائرة الفنون هذا المسار الجميل... طبيب يؤهل مرضاه لمواجهة الحياة.. متجاوزين المرض والعوق واليأس، وتشكيلي مفتون بالطبيعة، وكردي أصيل ينتمي الى جيل القيم والفضيلة، وموسيقي يمتلك قدرة غير اعتيادية على اتقان فن الاصغاء. هذا هو الدكتور: نوري مصطفى بهجت. تسللت الى بيته، واخترقت عزلته، اجتزت لوحاته وآلاته الموسيقية ومعداته الطبية ورفوف كتبه وفناجين قهوته.
استقبلني بابتسامة ترحيب بان صدقها في ملامحه... ثم ترحيب لاحق مع السيدة قرينته التي تبيّن لمساتها في كل مكان من هذا البيت الملتم على بعضه، وراحت تحتفي بي ضيفاً وعلى طريقتها الخاصة بحيث لم تترك لي حرية الاعتذار عن كرم أكبر لزيارة اولى. اعتذرت في البدء أن أكون قد اخترقت عليه صفو بيته وحديقته وكتبه ولوحاته وتأملاته كذلك.. كنت احترم عزلته، وكانت امنيتي الاعتزال.. لذلك اشفقت عليه من اختراقي تلك العزلة، لكن الفنان الذي فيه رحب، والطبيب الممتهن يعالج خجلي، وهمس الموسيقى الصباحية يحتفي... ودخلت. احتضنت كتبه التي كانت بعدة لغات، وحنوت على أرشيفه وأداة معارضه وألبومات صوره.
• د. نوري... أنت من جيل لم يعتد تعليق الصور على الجدران، كيف علقت لوحتك الأولى؟
- أنا من هواة الرسم والتمثيل والموسيقى... والجيل الذي عشت معه لم يعتد أن يعلق الصور على الجدران فعلاً.
نحن الروّاد نعرف هذا. عشناه... في وقت كنا ندرس الفن في معهد الفنون الجميلة. كان الوحيد من بيننا الفنان عبد القادر رسام يبيع لوحاته. تخرجت في معهد الفنون عام 1945/ القسم المسائي... كنت قد درست العزف على آلة الكمان... والموسيقى الكلاسيكية... في وقت كنت طالباً في كلية الطب القسم الصباحي. كنت مع الفنان الراحل فائق حسن وهو يؤسس معهد الفنون، وكنت من خريجي الدفعة الاولى عام 1945.
• اسمعك تؤكد على تحديد الأزمنة، هل تريد أن توثّقها، هل تمتحن ذاكرتك من خلال استعادتها؟
- بالتأكيد... الشيخوخة تحاول أن تمسك بالزمن... أحاول أن لا أنسى.
• بعد هذه التجربة المديدة من العطاء... كيف تفهم اللوحة التشكيلية؟
- فهم اللوحة مهمة الناقد وليست مهمة الفنان.
• اعتقد أن اللوحة والقطعة الموسيقية.. يمكن الاحساس بهما.
- نعم هذا صحيح.
• والفنان يعبّر عن احساسه... بينما الكتابة تعبّر عن أفكاره.
- اللوحة لا يمكن شرحها.
• وكذلك الموسيقى؟.
- نعم.
• هل يمكن تدريب الحواس؟
- لا..
• شخصياً.. اعتقد بأن من الممكن تهذيب الحواس، والارتقاء بالذوق العام... بالذائقة الجمالية.
- الاحساس مران وتراكم خبرة.
• وما الذي يجمع بين الطب والتشكيل والموسيقى ؟
- الاتجاهات والميول، ابي من شيوخ الكرد.. برزنجي.. اشترى لي عوداً لكنني استبدلته بالكمان، في الخامس الابتدائي تسلمت جائزة عن رسم لي... وفي كركوك تعرفت على الفنان زيد محمد صالح زكي... وهناك رحت أرسم الجبال والأنهار والطواحين...
• ولكنني اعتقد أن الإنسان مصدر المعرفة والإبداع معاً.
- بالتأكيد... أنا ارسم ما أرى، وما ينطبع في ذاكرتي.
• انطباعي أنت.... والطبع صورة والصورة تتجسد...
- نعم. أنا لا أرسم لهدف سياسي أو اجتماعي محدد... كما أنني لا أرسم أعمالاً تجارية، ارسم كل ما يبقى أثره في نفسي..
• ولكنَّ هناك رسوماً لها قيم وتأثير... هل أنت ضدها؟
- لا أبداً... الرسوم وردت فعلاً لتثبيت القيم، كما أن الموسيقى مورست في الطقوس الدينية.
• وما موقع المدارس الفنية منك... من فنك؟
- السريالية مثلاً خيال بعيد عن الواقع، وأنا إنسان متعلق بالواقع. أنا لا أهوى اللوحات التي أجد فيها عناء الانسان... لا أحب الرعب، عموماً يكفي أن الواقع بذاته مرعب.
• الآن هناك أعمال تشوّه الأشكال الواقعية.
- إنها تعبير عن حالة معينة.
• هل ترى أن الرسم يمكن أن يؤثر في المجتمع؟.
- لا انتظر ردود فعل اجتماعي، الفنان ابن المجتمع... وعلاقته بالآخرين والطبيعة، انا أرسم ما يحيط بي... أهوى الطبيعة.
• وترفض الصدمة أو الدهشة في الفن.
- نعم أرسم ما يفتنني.. والفنان ابن بيئته... وافضّل رسم الأشياء التي أحبها.[1]