عادل كامل
ناقد راحل
مناسبة أحد معارض الفنان د. #نوري مصطفى بهجت# – قاعة الرواق – قال الفنان محمد غني حكمت:
حتماً سيأتي جيل ينحني باحترام وهو صامت ومتأمل في الصور الزيتية والمائية والتخطيطات التي رسمها فنانون صادقون بألوانهم وتجاربهم.. حاولوا في مرحلة بناء الفن التشكيلي في العراق أن يثبتوا مقدرتهم وإمكاناتهم في الخلق والإبداع والإصرار على الاستمرار في الرسم، ليخطّوا، طريقاً جديداً لأجيال طويلة من الفنانين.
كان ذلك في الأربعينيات من القرن الماضي وقبله بقليل، إن الدكتور نوري مصطفى بهجت فيها نشوة الفنان في عالمه الخاص الصادق من خلال ألوانه ومواضيعه.. وحبه للرسم مباشرة عن الطبيعة العراقية من خلال البساتين الخضراء ولون التراب والنخيل المتعددة الألوان. كان ذلك أثناء سفرات جماعية مع شلّة من رفاقه الرسامين وبخاصة أيام الجمع المشهورة والمتعاقبة سيراً أم على الدراجات الهوائية أم في سيارة تسير رغماً عنها.
إن هذا التقييم الدقيق يصدر عن نحات متمرس.. ولو لم يكن الفنان د. مصطفى مبدعاً لما قال الفنان هذا الحكم. وعلى كل حال إننا إزاء ظاهرة مدهشة وأصيلة في مجال حب الرسم الذي امتازت به الشخصية العراقية بمنجزها الحضاري وما تركته من علامات جمالية وفنية عميقة الصلة بالحياة.
كما يعبّر عن تطلعها الجمالي في بناء حياة راقية.. والفنان الطبيب نوري مصطفى، كما يبدو، لا يختلف عن زميله الدكتور خالد القصاب في حبه للفن.. وللرسم على وجه التحديد. وربما هو الآخر كان يود أن يدرس ويختار الفن بدل أن يكرس حياته للطب.. إلا أنه وهو يمارس مهنة الطب فترة طويلة لم يتخل عن ولعه وعشقه لفن الرسم، الأمر الذي يجعلنا لا نشك بأن المواهب الصادقة لا يمكن إلا أن تعبر عن نفسها في جميع الحالات.. وهو ضرب من البطولة إزاء حياة ليست سهلة غالباً.. فحب الفن الذي أظهره الطبيب منذ الأربعينيات وحتى يومنا هذا إشارة واضحة الى موهبته وحساسيته ورهافته الجمالية.. وأود أن أقول هنا، لا دفاعاً عن حب الحياة أو الحالة التفاؤلية التي نراها في تجارب الفنان المبكرة، بل عن الجانب الموضوعي الذي اختاره الطبيب في رسم الحياة المدهشة وفي تصوير سماتها الجمالية.. فالطبيب من أكثر الناس معرفة بالقوانين التي تخص مصائرهم، منذ الميلاد حتى الموت؛ حيث الإنسان يواجه الأمراض والعلل والنكبات.. أي الإنسان الضعيف غالباً تجاه قوى غامضة ومجهولة والتي تدفعه إلى صراع دائم ومرير من أجل أسابيع أو أيام أو حتى ساعات! إن هذه الحقيقة تنعكس في لوحات الطبيب نوري مصطفى بهجت من زاوية تجديد حيوية الرؤية وعدم الانغلاق أو الكف عن تأمل الحياة.. وهي رؤية موضوعية لكنها تتضمن عمقاً ذاتياً يرتبط بحساسية الفنان واختياره للرسم تعبيراً عن جماليات الحياة.
أذكر بهذا الصدد أن الفنان د. خالد القصاب، هو الآخر، يمثل هذا الاتجاه في الرؤية.. فيما نرى د. قتيبة الشيخ نوري أو د. علاء حسين بشير ينحازان إلى زاوية مغايرة تماماً في مجال النظر والبحث عن هذه الحقائق. وعلى العموم أن هذا التنوع يفصح عن حقيقتين: حقيقة أن الحياة تبقى بلا حدود.. وحقيقة أن الذات المبدعة لا يمكن أن تكون منغلقة أيضاً. وقد نجح الفنان في بلورة رؤيته بالتعبير عن الدهشة المستمرة إزاء حقائق الحياة الجمالية: الغابات.. الطبيعية الألوان.. والأسرار الكامنة في موسيقى أكثر الأشياء وخصوصاً وغموضاً.
ولا أريد يقال ماذا سأكتب عن (بيكاسو) إذن؟ لكني أقول إن كفاح الطبيب المسحور بالرسم، يستحق منا وقفة شاملة ذات مغزى على الصعيد العام للتشكيل الحديث في العراق، وعلى المستوى الشخصي.
ولنستمع إلى كلمات زميله الطبيب والفنان خالد القصاب حيث قال:
لا تدع لي الصداقة الحميمة في خضم الأيام والسنين، مجالاً لأن أكون ناقداً محايداً متجرداً من حبي العميق لصديقي، إلا انها أعطتني مجالاً فريداً تعرفت من خلاله على صفات (نوري) وخفايا شخصيته التي شدتني إليه ما يقارب من نصف قرن.. ولو سألتني عن أهم هذه الصفات لأجبتك صفة الإصرار، المستمر، بدون تهاون أو هوادة، لتحقيق ما يراه صائباً، بفكره وبعينه: إصرار يزيده قوة.. الإخلاص والصدق اللذان قلما نجدهما في غيره».
وهنا نتعرف على جانب لا ينفصل عن إصراره في ممارسة الرسم، درجة العشق، في تجاربه التي قدمها خلال اكثر من نصف قرن، حيث أضاف الفنان القصاب.
يصر على تعلم الموسيقى على كمان قديم وهو حدث صغير.. يرسم الطواحين في كركوك مع صديقه زيد صالح في محيط لم يعرف الفن، يعزف (باخ) لطلبة الطب في الأربعينيات.. ثم تجمعني معه ومع زيد جولات رسم في غابة الملك وبساتين الأعظمية.. ونجد طريقنا سوياً إلى بيت رائد (الرواد) فائق حسن حيث بداية جماعة الروّاد مع جواد وإسماعيل وعيسى وفاروق.
وهنا يشخص القصاب:”وتشاء الأيام أن يتجه نوري الطبيب إلى اختصاص لم يطرقه أحد في بغداد في معالجة المشلولين والمعوقين فيدفعه إصراره العنيف نفسه لأن يهب كل وقته للعمل والتأسيس والعطاء ويترك الرسم إلى حين! ثم تشاء الأيام أن يرجع إلى الفرشاة والألوان والإخلاص المعروفين عنه فيمتعنا بلوحات كثيرة تعبر عن حبه للطبيعة: حب بسيط وعميق وبأسلوب متميز يظهر هذا النص، كما قلت قبل قليل، تطابق الطبيب مع شخصية الفنان الكامنة فيه، وبالتالي نحن إزاء حقيقة متكاملة: إن الحياة متنوعة مثلما الموهبة الصادقة لا بد أن تعبّر عن جوهرها بفعل الإرادة.
هذه المادة نشرت في كتاب
(تاريخ الرسم في العراق).[1]