سلمان زين الدين
الأطر السلطوية المغلقة وتأثيرها في الأفراد والجماعات هي الفضاء الروائي لروايةتحولاتالمؤسسة العربية، 2007، للروائي العراقي #زهدي الداوودي#. وهي عمله الثالث الذي يشكل مع روايتيأطول عاموپزمن الهروبما يسميه بپثلاثية وادي كفران، المنطقة الكردية الواقعة في شمال العراق، ويرصد فيها حياة أسرة فلاحية عراقية - كردية وتحولاتها على مدى العقود السبعة الأولى من القرن العشرين،
فتشكل الثلاثية تاريخاً روائياً خاصاً/ عاماً لشريحة مهمة من الشعب العراقي، خلال تلك المرحلة التاريخية.
الأطر السلطوية المغلقة على أنواعها، وانعكاسها على راوي الرواية وبطلها وبني قومه من الأكراد العراقيين، وتصدي الأفراد والجماعات لهذه الأطر والأثمان الباهظة التي يدفعونها في صراع غير متكافئ مع سلطة غاشمة هي الفضاء الذي تدور فيه أحداثتحولات. ويأتي عنوان الرواية ليجسّد فعلاً جملة من التحولات، على مستوى الفرد والجماعة، في مرحلة تاريخية معينة، من دون أن تكون هذه التحولات بالضرورة نحو الأفضل.
تدور أحداث الرواية في منطقة كردية خلال النصف الثاني من الخمسينات والنصف الأول من الستينات من القرن الماضي. وتوائم بين السيرة الذاتية والخاصة لبطلها وهي سيرة مدموغة بالمعارضة والتمرد والنضال من أجل تحقيق الذات والهوية الجماعية وبين التاريخ الروائي لحركة السلطة في العراق حيث تشهد سقوط الحكم الملكي وتنامي الصراع على السلطة بين الأحزاب المتناحرة. وإذا كانت السيرة الذاتية تشغل القسم الأول من الرواية، فإن تواشج الخاص والعام، الذاتي والتاريخي يطبع القسم الثاني منها. وسيرة البطل، في قسمها الثاني على الأقل، هي تاريخ قومه الروائي.
وهذه السيرة/ التاريخ هي مزيج من الأحداث المقدّرة على البطل التي لا قِبَل له في حدوثها وتكون لها مضاعفاتها عليه، وتلك التي يقوم بها مختاراً وكثيراً ما تكون نتيجة للنوع الأول. فهو مضطر أكثر منه حراً. وهذا يتناسب بطبيعة الحال مع الأطر المغلقة التي سبق الكلام عليها ويكون على الموجودين ضمنها الطاعة والخضوع أو التمرّد والمواجهة والنفي والهرب...
يصطنع الداوودي لروايته راوياً واحداً يسرد بصيغة المتكلم غالباً، ويستخدم صيغة الغائب على ندرة، ما يتناسب مع الشكل السردي للسيرة الذاتية، وتأتي واقعية الأحداث ومجانبتها الشطحات الخيالية على أنواعها لتعزر هذا الشكل.
في الخامسة عشرة من عمره يجد زوراب بطل الرواية وراويها نفسه أمام حادثة موت الأب، ويكون عليه وفقاً للتقاليد العشائرية أن يسدّ الفراغ فيصطنع لنفسه شخصية الرجل الصغير وينجح فيها الى حد معين. غير أن الطبع أقوى من التطبّع، فيجد نفسه منجذباً الى حلقة من الأصدقاء، ويتأثر بأفكارهم الماركسية، وتدفعه سذاجته وحداثة عمره الى الإيمان بإمكان تطبيق الأفكار الجديدة في أرض الواقع، فلا يتورّع عن ارتكاب مجازفات في هذا الإطار يدفع ثمنها غالياً.
في المدرسة يقود تظاهرة احتجاجاً على فصل زميل دراسة فيدفع الثمن نفسه ولا يعود إليها إلا بعد لأيٍ وعناء كبيرين. وهكذا، شكّلت المدرسة الإطار السلطوي الأول الذي اصطدم به البطل وحصد من جراء ذلك الطرد منها وتخلي الإطار الحزبي الذي كان يدور في فلكه عنه، ويكون الدرس قاسياً.
وفي الشارع يجد نفسه خطيباً إثر سقوط النظام الملكي بانقلاب عسكري، حتى إذا ما تغيرت اتجاهات الريح وانقلبت السلطة الجديدة على الأطر الحزبية الداعمة لها، يصبح زوراب مطارداً ومطلوباً منها. فالثورة التي حلم بها ودعا اليها تنقلب على أبنائها ومؤيديها وتأكلهم. ولذلك، لا يجد البطل الذي يمارس التعليم في قرية نائية، ويخشى على نفسه من الاعتقال والتنكيل سوى اللجوء الى وادي كفران، موطن أجداده وعشيرته، وممارسة نشاطه السياسي المعارض هناك، حتى إذا ما أعلمه الحزب بالعودة الى الظهور والعلنية، يتم القبض عليه، ويطرد من وظيفته. وحين يُخيَّر بين التبرؤ من الحزب الشيوعي وبين الاعتقال، يختار الاعتقال.
غير أن هذه المبدئية والأخلاقية والمواجهة والتمرد على الواقع القائم والإيمان بالتغيير لا تلبث أن تتهاوى حين تصطدم بجدار الواقع الصلب وبشمولية الأطر السلطوية فيغتنم فرصة السفر الأولى الى ألمانيا. وحين يقع بصره هناك على جنازة، يتوهمها تشييعاً له، وتخلصاً من زوراب القديم. فالوطن الذي لا يمنح أهله الحرية والعمل غير جدير بالبقاء فيه.
الى جانب هذه الشخصية المحورية، ثمة في الرواية أنماط متعددة من الشخصيات تعكس أنماطاً مختلفة من التفكير والسلوك. غير أن ما يجمع بينها أنها في معظمها ضحايا الأطر السلطوية المغلقة، بدءاً من المدرسة والمجتمع، مروراً بالحزب والجماعة، وصولاً الى النظام السياسي بأجهزته المختلفة.
ومن خلال هذه الشخصيات والأحداث التي تنتظمها تعرّي الرواية كثيراً من مظاهر الخلل التي تحف بالحراك الاجتماعي، فتكشف الهوة الفاصلة بين النظرية والتطبيق والازدواجية من خلال شخصيتي عباس نامق ورشيد عزيز اللذين يكتفيان بالتنظير ويمتنعان عن المشاركة، وتكشف تهافت العمل الحزبي وقيامه على الارتجال والغوغائية من خلال المشاركين في أنشطة التوعية الريفية، وتكشف هشاشة التحالفات المعارضة للسلطة وصراعها على النفوذ، وتكشف انتهازية السلطة ولا أخلاقيتها من خلال انقضاض الانقلابيين على مؤيديهم، وتكشف حقيقة ظاهرة العمالة حين تزاوج بين توظيف العملاء واغتصابهم جسدياً، فتغدو العمالة معادلاً لاغتصاب الروح.
وفي المقابل، تُعلي الرواية من قيمة التضامن الاجتماعي في الريف، ومن المروءة الشعبية التي تبلغ حدّ التضحية بالنفس دفاعاً عن المعلم/ الضيف، ومن العصبية العشائرية.
فيتحولاتيستخدم زهدي الداوودي لغة روائية مباشرة تتخفف من الإنشائية والأدبية، وتتوجه الى موضوعها مباشرة، فتسمّي الأشياء بأسمائها، وتطغى فيها مساحة السرد على مساحة الحوار الذي يُزاوج بين الفصحى البسيطة والمحكية المحلية التي إن وفّرت للرواية جانباً من الصدق الفني تستخدم مفردات غارقة في محليتها. وهو ينتقل من وحدة سردية كبرى الى أخرى من دون سابق إنذار أو تغيير طباعي، يستشف ذلك من تغير ضمير السرد. وهنا، قد يتحوّل الراوي من راوي سيرته الذاتية الى راوٍ عليم يروي حكايات الآخرين. ولا ريب من أن هذا الانتقال أحدث تنوعاً ما في حركة السرد.
الى ذلك، فإن ولع الداوودي في استحضار الذكريات أوقعه في استطراد لا مبرر له في بعض المواضع كما في نهاية الرواية حيث انتقل من الإفصاح عن رغبته في فتح مقهى الجايخانة الى تذكر روّاد مقهى مماثل عرفهم في صباه، ما اثقل الخطاب الروائي بمادة لا لزوم لها.
ومع هذا، تشكّلتحولاتوثيقة روائية لمرحلة معينة من تاريخ العراق لا يزال يعيش مثلها اليوم، وإن بأدوات وأدوار مختلفة. من قال إن التاريخ لا يعيد نفسه؟
ج. الحياة 13-10 - 2007.[1]